حلَّ تموز يوليو الجاري وفي رحابه قوانين اقتصادية في حاجة الى جهد حكومي جاد لتفسير محتوى هذه القوانين، فالموازنة وقانون البنوك الجديد وقانون الرهن العقاري ثلاث قضايا تحمل تساؤلات من فئات عدة من المصريين. الموازنة التي يبلغ حجمها 158 بليون جنيه لن تلبي طموح الجميع وهناك عجز قائم يقدر السنة الجارية بنحو 37 بليون جنيه يتزامن مع اسراف حكومي لافت وبقاء حال ذوي الدخل المحدود والمتوسط كما في السابق. وقانون البنوك الجديد لا يزال رهن الجدل، فغالبية بنوده غامضة وحتى الواضح منها يتطلب تفسيراً لمضمونه، ويتزامن ذلك ايضاً مع استقالات واقالات لرؤساء بنوك خاصة واستثمارية وعامة. أما بالنسبة لقانون الرهن العقاري، الذي اقرته الحكومة، فترى الغالبية انه غير منصف وبعيد تماماً عن تلبية حاجات ذوي الدخول المحدودة ومن ثم قد يتعرض "للاجهاض الشعبي"، وعلى الحكومة مراعاة ذلك قبل إقراره حتى لا تفقد الغالبية ثقتها بالمُشرع عموماً والحكومة خصوصاً. سألت "الحياة" خبيراً بارزاً في السياسة المالية عن رأيه في موازنة الدولة وكيفية تغطية العجز القائم والى متى سيستمر هذا العجز وما هي حكاية صندوق المعاشات الذي تسعى وزارة المال لضمه، فرد بصورة لا تنقصها الشجاعة قائلاً: "سأبعث اليك كل احاديثي وتعليقاتي على الموازنات السابقة منذ عام 1997 وحتى الآن ويمكنك ان تستفيد منها"، رافضاً في الوقت نفسه التعليق، فما سيقوله اليوم قاله بالأمس. وتتبع الحكومة ووزير المال الاسلوب نفسه في الاعلان عن موازنة الدولة وغالبية الناس تئن من الضغوط القائمة، والجديد هو رقم الموازنة فقط وكذلك رقم العجز المتوقع. صاحب محل خردوات طاعن في السن أجاب عن السؤال نفسه، بالقول: "اعتقد ان الموازنة مُشتقة من الميزان والعدل لكن الحكومة تَّرجح دائما كفتها على الآخرين وبالتالي يختفي العدل... الموازنة المصرية ينقصها الميزان، أنا عمري ما حسيت أن الحكومة بتحبني، دائما تكرهني مشعارف ليه". وهناك إجماع على أن موسم التصريحات الوردية بدأ بالفعل ببداية الإعلان عن موازنة السنة الجارية والعمل بها منذ ايام، وتسابق خبراء من الحكومة وخارجها بالإدلاء بآرائهم المعتادة وهي آراء تعكس في غالبيتها ما قاله مدحت حسنين وزير المال عند إعلانه تفاصيل الموازنة، لدرجة أن القارئ العادي تسلل إليه الملل من الوجوه والتصريحات نفسها التي يشاهدها ويقرأها في مثل هذه الأيام من كل عام وتستمر حتى بدء تطبيق الموازنة أول تموز يوليو. والثابت في التصريحات أن الحكومة تعتبر أن الموازنة الحالية هي الأكبر في تاريخ البلاد وهذا أمر طبيعي، فالموازنة الماضية كانت الأكبر والسابقة عليها كانت الأكبر، وبالتالي ستكون موازنة السنة المقبلة الأكبر. وهناك حض للحكومة على مراعاة محدودي الدخل، كون الدعم من المسؤوليات المهمة للحكومة. وطالما هناك نصائح يبدو هناك تخوف من عدم تطبيقها، وهو ما توضحه اللجان المعنية "سنوياً" بقولها أن الإطار العام والآليات التي يُقدم الدعم من خلالها أصبحت قاصرة عن أداء دورها على نحو فعال، وبالتالي رفضت لجنة مثل لجنة الخطة والموازنة، كما رفضت سابقاً، أن يزاحم القادر غير القادر بل يتعين أن يكون الدعم مقصوراً على مستحقيه، ومن ثم أكدت اللجنة أهمية الفصل بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لكل هيئة من الهيئات الاقتصادية وأن يتم تقويم الأهداف الاجتماعية وتمويلها من الخزانة العامة. وتنتهي اللجنة في تقريرها الحالي كما في تقريرها السابق بضرورة أن تستجيب الحكومة لهذه التوصيات العملية، إذا كانت الحكومة حريصة على زيادة مواردها بصورة تتماشى مع القفزات التي تطرأ على نفقاتها. قانون البنوك بالنسبة لقانون البنوك، هناك حال ترقب غير مسبوقة تسود الاوساط الاقتصادية في انتظار اقرار اللائحة التنفيذية بعدما اجاز البرلمان القانون مطلع الشهر الجاري واحاله الى مجلس الوزراء تمهيداً لاقراره من رئيس الجمهورية. وسبب الترقب هو الجدل الذي صاحب مناقشة القانون، إذ إنه على رغم اتفاق الجميع على ان القانون من اخطر القوانين التي تتحكم في مسار الاقتصاد القومي، الا ان الطريقة التي عولج بها كانت دون المستوى ووصف البعض مناقشة القانون في البرلمان بأنها ارتجالية، ووسط هذا الارتجال اضيفت الى القانون فقرة تجيز لرئيس الوزراء الزام حائزي العملات الاجنبية التنازل عنها للبنوك، وهي فقرة غامضة وبالغة الخطورة ويمكن ان تثير القلق لدى اصحاب المدخرات بالعملة الاجنبية، خشية صدور قرار مفاجئ من رئيس الحكومة يقضي التنازل عنها لحساب البنوك. ويرى اكثر من خبير ان هذه الفقرة كان يمكن ان تتسبب في تراجع التحويلات من الخارج وزيادة الفجوة بين الموارد المتاحة والالتزامات المطلوبة، ما يؤدي الى زيادة الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء. وقال مصرفي بارز، طلب عدم ذكر اسمه، أن "اضافة هذه الفقرة بغموضها تعطي لرئيس الوزراء الحق في الاستيلاء على كل القطع الاجنبية الموجودة في البنوك وتحويلها الى قطع مصرية، وهذا كلام بالغ الخطورة... يحتاج من الحكومة توضيحاً قاطعاً وصريحاً". في الوقت نفسه يرى قانونيون أن البلاد لم تكن في حاجة الى مثل هذا القانون. وقال المستشار حسن احمد عمر المحامي امام الدستورية والنقض، ان قانون البنوك بالفعل لم يأت بجديد لحل المشاكل العالقة في القطاع المصرفي وان القانون القديم لو طُبِّق تطبيقاً صحيحاً لكان كافياً في حل هذه المشاكل على اساس ان العلاقة بين العميل والبنك يحكمها القانون المدني وليس القانون الجنائي، الا في حالة واحدة هي حكم الفقره الثانية من المادة 62 الخاصة باعطاء بيانات غير صحيحة للحصول على تسهيلات ائتمانية بغير وجه حق. وأضاف ان هناك نصاً آخر يتعلق بالطلب الخاص بتحريك الدعوى الجنائية بناء على طلب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية بعد اخذ رأي محافظ المركزي، فإن هذا النص لا يتعلق بموظفي البنوك فحسب وإنما ايضاً بعملاء البنك، فلا يجوز تحريك الدعوى الجنائية ضد عملاء البنك قبل صدور مثل ذلك الطلب، وذلك تطبيقاً للقاعدة الاصولية التي تقضي بأن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. ومن ثم يرى عمر أن هاتين المادتين كفيلتان بتسوية الامور المثيرة للجدل حالياً خارج نطاق القانون الجنائي، وان التسوية تتم في إطار احكام العقود بين العملاء والبنك التي تُنظم حكام القانون المدني، وهو ما يمكنه حسم الجدل القائم حالياً ضد المتعثرين، وبالتالي حل المشكلة نهائياً. ويُشدد عمر بالتأكيد على "أننا لسنا في حاجة الى قانون جديد فقط، علينا النظر بدقة الى القانون القديم". من جانبه اكد محافظ البنك المركزي محمود ابو العيون أن القانون سيساهم بصورة كبيرة في تقوية الجهاز المصرفي وضبط معدلات التضخم وتقوية دور البنك المركزي سواء من ناحية الرقابة او من حيث رسم السياسة النقدية. واعلن ان المركزي اتخذ الاجراءات الكفيلة بالحد من الديون المتعثرة من خلال انشاء مركز لتقويم مخاطر الائتمان يسمح للبنوك من خلال شبكتها المرتبطة بالبنك المركزي بالتعرف على كل المعلومات اللازمة عن عملاء البنوك، مشيراً الى انه تم الانتهاء من ربط 27 بنكا حتى الان بشبكة تبادل المعلومات عن العملاء، كما سيتم ربط كل بنوك مصر بهذه الشبكة نهاية ايلول سبتمبر المقبل. واكد ان القانون الجديد يتضمن تيسيرات للعملاء المتعثرين تكفل لهم التصالح مع البنوك، ومن جهة اخرى يكفل حماية حقوق البنوك قبل العملاء المتلاعبين بالقانون من خلال ما درج على تسميته "دعوى الحساب" حيث سيتم تطبيق المعايير الخاصة بتصديق المودعين نفسها على صحة حساباتهم لدى البنك على كشوف الحساب الخاصة بالعملاء المقترضين ايضاً، وهو ما يعني من ناحية اخرى ضمان حق البنك في التنفيذ على العميل. وذكر ان القانون يتضمن نصاً مقيداً لحجم اقتراض العميل الواحد بما لا يزيد على 30 في المئة من القاعدة الرأسمالية للبنك، الا ان هناك اقتراحات تفيد بتخفيض هذه النسبة لانها ما زالت مرتفعة عن الحدود المطلوبة. الرهن العقاري وبالنسبة لقانون الرهن العقاري، يرى الخبير البارز عصام عباس ان قضية الاسكان في مصر منذ عشرين عاماً تشير الى انه لا عجز في البنائين أو في طالبي الشراء لكن المشكلة انه لا توجد موائمة بين قيمة الوحدات ودخول المواطنين، فإذا كانت الوحدة ذات المساحة 50 متراً تكلف 50 ألف جنيه ذلك يعني قسطاً شهرياً 400 جنيه، وبالتالي ينبغي ان يكون الدخل الشهري للمواطن ألف جنيه في حين ان غالبية الاجور تقل اساساً عن قيمة القسط المطلوب. وعلى رغم أن الحكومة تتجه الى ضخ بليون جنيه في صندوق دعم التمويل العقاري لتأجير شقق، مقابل 25 في المئة شهرياً من قيمة الراتب الشهري للمواطن، الا ان الفكرة للاسف لم تنفذ لان القانون في حاجة الى تعديل قبل العمل به، فشركات الاسكان تئن من خسارة كبيرة منذ عامين تقريباً تصل الى ستة بلايين جنيه وهي في حاجة الى دعم حكومي للاسف غير قائم حالياً، ومن ثم فالقانون على رغم اقراره لا يلمسه المواطن في الشارع.