لا أظن أن أحداً من الناس، فضلاً عن رؤساء الدول العربية وغيرها، يتوقع ان يتم أي تشكيل من التشكيلات السياسية والادارية في العراق تحت الاحتلال، من دون تدخل أو موافقة من سلطات الاحتلال، هذه مسلمة تاريخية، تقابلها مسلمة تاريخية أخرى لا بد من الاعتراف بها، تجنباً للوقوع في محذور الكيل بمكيالين. المسلمة التاريخية الأخرى هي أنه ما من بلد من البلدان المستقلة في الوطن العربي الأكبر وفي كثير من البلدان المستقلة الأخرى، يتم أي تشكيل سياسي وإداري، من مجالس النواب الى الحكومات، فضلاً عن المقامات الأعلى، الا يتدخل أو موافقة من قوى أخرى، على رأسها أو في مقدمها الولاياتالمتحدة الأميركية أو لنقل ان المستشار الأول والناخب الأول في هذه الأمور هو الآن: الولاياتالمتحدة الأميركية حصراً، وقد يتوافر في بعض الظروف ولخصوصيات ليست دائمة، ان يكون هناك شريك مواز ومعادل للولايات المتحدة في الاختيار، كما كان يحصل في لبنان أيام حكم الرئيس جمال عبدالناصر. ونذكر في المناسبة اننا في لبنان عام 1992 وأمام احتمال اجراء الانتخابات النيابية بعد الطائف أو عدم اجرائها، كان الكبار من حكامنا وساستنا يركزون اهتمامهم على معرفة رأي السفير الأميركي في لبنان، وقناعته فيما اذا كانت الانتخابات ستجري أم لا؟ ما يعني ان السفير ليس مراقباً ومحللاً سياسياً فقط، بل هو نافذة على القرار الأميركي... اذاً فليس الاحتلال المباشر للعراق هو وحده الذي يتدخل لأنه احتلال مباشر، فهناك احتلالات غير مباشرة، أو استقلالات غير مباشرة، تفسح في المجال، أو تستدعي أو تستلزم أو لا تستطيع ان تمانع في التدخل في ترجيح عدد من الحكام العرب الا ما رحم ربك. أما في ما يخص العراق، ومجلس الحكم الانتقالي، وتشكيل الوزارة، ومقدمات الدستور والانتخاب والاستفتاء، وتشكيل الجيش والقوى الأمنية والادارة، فلا شك في ان القرار الأميركي وازن وحاسم، كان كذلك قطعاً في البداية، ولكن ذلك لا يمنع ان تتراجع نسبة الحسم في القرار الأميركي في ما يخص الشأن الداخلي العراقي، تدريجاً، ومع كل إشكالية أو خطأ أو حماقة ترتكبها سلطات الاحتلال. وما يمكن ان يكون دليلاً أو مؤيداً لاستخلاصنا هذا هو مثلاً: رفض المرجعية في النجف استقبال بول بريمر بعد استقبال الأممالمتحدة ممثلة في الفقيد سيرجيو دي ميلو والدكتور غسان سلامة، والمحادثات الشفافة والعميقة التي حصلت، ومثلاً: رفض المرجعية لاعداد الدستور بالطريقة التي اقترحتها قوات الاحتلال والاصرار على تشكيل لجنة متخصصة تمهيداً لمسودة تعقبها انتخابات عامة للهيئة التي تضع الدستور، بصرف النظر عن تعقيدات هذه المراحل وإمكان تحقيقها بالصورة المرجوة، الى ذلك، وبعد تفجير السفارة الأردنية ومقر الأممالمتحدة ومحاولة اغتيال المرجع السيد محمد سعيد الحكيم واغتيال الزعيم الديني والسياسي السيد محمد باقر الحكيم، تعالت أصوات الاعتراض، من المرجعية في النجف، الى بغداد والى اعضاء مجلس الحكم، على حصر الشأن الأمني في أيدي قوات الاحتلال، ما كان مقدمة تشكيل أمني رسمي من الشرطة، بعدما تولى اعضاء وفيلق بدر مهماتهم الأمنية، خصوصاً في النجف وكربلاء بمبادرة ذاتية، لم تعجب المحتل كثيراً حتى انه بادر أو حاول منعها من ممارسة مهمتها. هذه المجريات بمجموعها أدت الى ردم الهوة السطحية بين مجلس الحكم الانتقالي والوزارة العراقية لاحقاً، وبين المرجعية في النجف، بعدما كانت هناك علامات سطحية تشير الى ان تشكيل المجلس وأداءه، إنما يتمان في معزل أو في مقابل المواقع المرجعية. والزيارات المعلنة وغير المعلنة والأسبوعية منذ أشهر عدة لأعضاء في مجلس الحكم والوزارة، منفردين ومجتمعين، الى النجف، والتباحث مع المرجعية في العموميات والتفاصيل، من الأمن الى السياسة الى الادارة والاقتصاد، كانت كافية لأن تقول بأن الهوة التي أراد المحتل توسيعها وتعميقها قد انتهت الى مزيد من الضيق... وقد كان على المعنيين والمهتمين من البداية ان يتحققوا من شخصيات المجلس الانتقالي وانتماءاتهم وماضيهم وكفاياتهم وحساسياتهم الوطنية والعربية، حذراً من التسرع بالحكم عليهم واختزالهم في نعت ظالم أو إلحاقهم جملة وتفصيلاً بسلطة الاحتلال... وأكثرهم قادمون من تاريخ علمي وجهادي لا مزايدة عليه، غاية الأمر ان النظام الصدامي، وبإملاء أو رضا من الادارة الأميركية على مدى ثلث قرن، قد اضطرهم الى أداء مغاير لبعض قناعتهم وتراثهم، لأن الأولوية كانت لاسقاط النظام وإعادة تأسيس العراق على الحرية والتعدد والديموقراطية بالتدريج ومن دون أوهام ومبالغات. أما ان المجلس يمثل أو لا يمثل، فإن نسبة التمثيل المحققة فيه، وغير الكاملة قطعاً، هي من السعة والعمق، بحيث لا يمكن ولا يصح لأي نظام عربي أو اي حزب عربي أو اي تحالف وطني عربي تعددي، ان يزايد عليها ويدعي نقصانها قياساً على المتحقق لديه ولا داعي للتفصيل، لأن الجميع يعرفون ان المجلس على درجة عالية من اللياقة وسعة التمثيل الديني والقومي والوطني والمذهبي والسياسي وأن الماضي العراقي الجهادي محفوظ فيه ومنفتح على الحاضر والمستقبل. على هذا تصبح أنصاف المواقف العربية من المجلس والوزارة العراقية، مقبولة اذا ما كانت آيلة الى الاكتمال، أي التعامل التام وغير المنقوص من الحال العراقية، أما ان تكون هذه المواقف النصفية مساحة للمزاج العربي الرسمي وسبيلاً الى المكايدة والابتزاز فهذا يعني ان العرب مصرون على استكمال دورهم السلبي تجاه الشعب العراقي، أي دفع الحال الوطنية العراقية مجدداً الى الريبة والحذر والعزلة، اي الى الشوفينية العراقية في مقابل العرب والعروبة، في حين ان الظرف يشكل فرصة للتعويض على التقصير، حفظاً لعروبة العراق وحفظاً للعرب في العراق. وهنا يصبح المطلوب من مصر كبيراً... ومصر لا يجوز ان تنسى موقعها ودورها الوازن، لتتصرف بانفعال كما لو كانت دولة صغيرة وهامشية... وقد عودتنا مصر ان تكون كبيرة في المفاصل، اما الآن فالمطلوب ان تكون أكبر... مع التذكير دائماً بأن رأس مصر هو المطلوب أولاً لأنه يطل على العرب جميعاً. * كاتب ورجل دين لبناني.