أميركا في ديارنا. حدثٌ مثل هذا لن يكون عابراً. لن يكون عابراً في هذا الجانب من الخريطة. ولن يكون عابراً في الجانب الآخر. الحشود التي نزلت الى شوارع نيويورك قبل شهور كانت تقول شيئاً. لعل صوتها لم يُسمع الى هنا، رغم الشاشات الصغيرة، ورغم العناوين العريضة في الصحف. الحشود يتبدّد صوتها سريعاً في الهواء. كل الزعيق البشري لا يدوم أكثر من لحظات، وعند السكوت يتردد الصدى ثواني بين ناطحات السحاب، ثم تُسمع الموسيقى الأليفة متصاعدة من عربات بيع البوظة، ومن المتاجر اللامعة الواجهات. صراخ الحشود يصمّ آذانهم ويهزّ اسفلت الشوارع ويُعطل حركة السير... لكنه لا يلبث أن يتلاشى. الحشود تتلاشى أيضاً. الى متى يبقون في الشوارع، تحت الشمس الحارقة، أو تحت وابل المطر؟ حتى في ظروفٍ مناخية ملائمة لن يلبث التعب أن يصيبهم. بعد التعب يرجع كل واحد الى بيته يأكل البوشار ويشاهد التلفزيون. في هذه الأثناء تبدأ حربٌ وتستمر حربٌ وتنتهي حربٌ. تنتهي الحروب ولا تنتهي. أميركا في ديارنا الآن. هذا حدث لا يستطيع أن يكون عابراً. الجيوش تُبدل الحياة. الى أفضل؟ الى أسوأ؟ هذا سؤال يضع الواحد على تقاطع طرقٍ. المستقبل يتفرع أمام الاقدام ولا ندري في أي دربٍ يمضي بنا العالم: الى أيامٍ أقل صخباً؟ الى أيام أشد عنفاً؟ لا ندري - أو ندري - وفي الحالين نرى المستقبل يتفرع. بعد عقود سيخرج باحثون بمؤلفات تاريخية تدرس هذه الحقبة وتحلّلها. بعد عقودٍ نصير - وتصير أيامنا المرتبكة هذه - جزءاً من التاريخ. يحتاج المؤرخ وقتاً لكي يفهم الأشياء. الفهم، كما لاحظ شوبنهاور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يأتي دائماً على مهلٍ. لا نصيب فهماً بالعواطف، بالركض وراء الانفعال، بمسابقة الحشود الى اطلاق الصرخات. كل البكاء في العالم لن ينفع. وكل الضحك أيضاً. لنعثرْ في أعماقنا على بعض التواضع. ولنكفْ عن الوقوف شامخين. الشجرة التي تنحني لا تكسرها عاصفة. والشجرة المغرورة بخشبها الصقيل يقطعها الحطابون. بلادنا تعبر لحظة صعبة. من دون أن نقرأ شيئاً عن مقابرٍ جماعية، أو عن بشرٍ يسقطون قتلى في أي لحظة أمس والآن وغداً، علينا العثور على حزنٍ طيبٍ في أعماقنا. العالم مملوء بالظلمات. والفجيعة يمكن أن تضربك في رمشة عين. لا تكنْ طاووساً. ارفع صلاتك هادئة وفكر بعقلٍ بارد. تعبر بلادنا لحظة حرجة لكن التاريخ لم ينتهِ. والمستقبل قد يكون افضل من الماضي. في هذه اللحظة نستطيع أن نكتشف أشياء وأن نفهم أشياء... فقط إذا راقبنا برغبةٍ في الفهم. الرغبة العميقة في المعرفة هي البداية هنا. الرغبة في المعرفة، إذاً، وليس في المباطحة، وليس في قتال الديوك. البداية هي البحث. وليس تناول الشحم بالمناقير. نبدأ من هذه الرغبة. إذا وُجدت بدا المستقبل منيراً. حتى ولو غمرتنا الظلمات تقدر الرغبة في المعرفة، ويقدر الاجتهاد، على ارسال النور من العيون. يخرج النور من العيون ويضيء الدروب. الدماء تتدفق والرؤوس تكرج على التراب. لكن هاملت يحكم ممالك لا تُحد محبوساً في قشرة جوزة. الحروب تبدأ. وتبدو كأنها لا تنتهي. المهابهاراتا كتاب حرب. لكنها حرب تعثر على نهايتها حين تُخط الكلمات على الورق. نهاية هذه الحروب معاهدات ومؤلفات تاريخية. في خريف 1831 اجتاح ابراهيم باشا - ابن عزيز مصر محمد علي باشا الألباني - بلاد الشام. وفي خريف 1840 غادرها عائداً الى القاهرة حارقاً أريحا في طريقه. في حفنة أعوام تغيرت بلادنا. ابراهيم باشا أدخل بلاد الشام في عصرٍ آخر وفصل تاريخ هذا الجزء من السلطة العثمانية عن تواريخ أجزاء مجاورة. تاريخ سورية الطبيعية انفصل منذ 1831 عن تاريخ العراق. كل تلك الثورات والفتن التي اشتعلت في الجبال بين 1832 و1840 انتهت حفنة سطور في مذكرات مرسلٍ أميركاني اسمه كرنيليوس فاندايك. ماذا يُنقذ تاريخنا من الضياع والتلاشي؟ الجهد، البحث، التدوين. حقبة 1831 - 1840 الشامية ليست سطوراً في مذكرات فاندايك. هناك حفنة كتب عن تلك الحقبة. من دونها كنا نجهل ما حدث. أميركا في ديارنا الآن، ومنذ اللحظة يسأل الواحد نفسه ماذا سيقرأ عن هذه الأيام بعد عقود؟