على رغم الخبرات السياسية الغنية والمعقدة التي اختزنتها الحركة الوطنية الفلسطينية طوال عقود أربعة، إلا أن هذه الحركة لم تتمثل، تماماً، هذه الخبرات، في خطاباتها السياسية وبناها التنظيمية وأشكال عملها المجتمعية والنضالية. ويمكن تفسير ذلك بأسباب عدة، منها: أولاً، غياب الاشتغال على الفكر السياسي باعتباره حقلاً معرفياً. وثانياً، ضعف العلاقات الديموقراطية والتفكير النقدي. ثالثاً، سيادة التفكير الذي لا يشجع على الاجتهاد والذي يميل إلى التصنيفات المسبقة وإثارة الشبهات. رابعاً، الحذر من تبعة تقديم أفكار سياسية غير تقليدية، بسبب عدم نضج المجتمع الفلسطيني والتخوف من مغبة طرح مثل هذه الأفكار، التي ربما تصوّر على أنها تفريط بالحق والوطن. خامساً، سيادة روح الوصاية الفصائلية وغياب علاقات التفاعل والمشاركة والتداول بين الشعب والطبقة السياسية سلطة ومعارضة، ما يحول دون تنمية ثقافة سياسية مجتمعية. واللافت أن اختزال المقاومة بالمظاهر المسلحة/ العنيفة، يتم من دون انتباه المعنيين إلى أنهم كانوا يتغنّون بتجربة الانتفاضة الأولى 1987-1993، التي عرفت بطابعها الشعبي، وبكونها قدمت إضافة نوعية الى الحركة التحررية الفلسطينية، لا سيما وأن هذا الاختزال يثير شبهة افتقار الحركة الفلسطينية الى التجرية السياسية. والأنكى، أنه يثير شبهة افتقارها الى البعد الشعبي، ويجعل المقاومة حكراً على فئة من المحترفين. وأساساً فإنه ينبغي الانتهاء من الثقافة السياسية السائدة التي تحصر الصراع مع إسرائيل بالوسائل العسكرية، إذ ان مساحة المقاومة ومظاهرها وأشكالها، في ظروف الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أوسع وأعمق وأكثر من أن تحصر في شكل بعينه، إضافة إلى أنه ليس ثمة جدال في شأن تفوق إسرائيل في مجال المواجهات العسكرية. المتحكمون في العمل الفلسطيني لا ينطلقون، على الأغلب، من إدراك حقيقة مفادها أن المقاومة، في حال الفلسطينيين، لا تقتصر على الصراع ضد العدو، وأنها تشتمل على متطلبات بناء المجتمع والكيان، بتعزيز وحدته وبناء مؤسساته وتطوير إمكاناته وترشيد توجهاته. فالمقاومة هنا ليست فعلاً للهدم أو للثأر أو للقتال أو للاستنزاف فحسب. بمعنى ان القضية ليست في حساب عدد الخسائر لدى العدو، وإنما في انعكاس هذه المقاومة على المجتمع الفلسطيني وعلى مستوى وعيه وتطوره السياسي والثقافي. الجانب الآخر الذي يمكن مناقشته، هنا، يتمثل بالفجوة بين خطاب الفلسطينيين وإمكاناتهم. فثمة افتراق بين الاستراتيجية السياسية المعتمدة والإمكانات والقدرات والمعطيات المتوافرة. ومن الواضح أن شعارات الفلسطينيين السياسية، طوال المرحلة الماضية من المواجهات الحامية، لا تتطابق مع خريطة الانتفاضة وحدودها الجغرافية والبشرية، وتحملها أكثر مما تتحمل. وهذا الافتراق يقودنا إلى مواجهة اشكالية أخرى، تتمثل بعدم التلاؤم بين الهدف السياسي الممكن للفلسطينيين وأساليب المقاومة المسلحة المتبعة. ومن الأساس، فإن الفلسطينيين، وبعد هذه التجربة المريرة، معنيون بتحديد ما الذي يريدونه، لأنفسهم، أولاً، ثم للإسرائيليين وللعالم، فإذا كانوا يريدون حلاً على شكل دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، أو دولة ثنائية القومية أو اتحاد كونفيديرالي إلى دولة ديموقراطية علمانية، فإنهم معنيون أيضاً بمعرفة الوسائل السياسية والكفاحية التي تتناسب مع الحل الذي يريدونه. فمن غير المنطقي، مثلاً، التحدث عن حلول كهذه في وقت يجرى الحديث عن الحرب الوجودية وتدمير إسرائيل وتقديس العمليات الاستشهادية كشكل احادي للكفاح، ما يعطي انطباعاً بأن ثمة حرباً دينية ووجودية وإفنائية، وهي الاطروحات التي تتلطى وراءها إسرائيل للتغطية على بطشها بالفلسطينيين والتملص من الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية والتنصل نهائياً من مسؤوليتها عن ولادة مشكلة اللاجئين وحلها. يبقى أن ثمة تحفظاً لدى البعض من فكرتين، أو اشكاليتين، أساسيتين: الأولى، تتعلق بالتطبيع والثانية بمفهوم انتهاء الصراع. وفي الواقع فإن إسرائيل نفسها بسبب طبيعتها ورؤيتها لذاتها ولدورها في المنطقة، الطرف الذي يجد نفسه على تناقض مع هاتين الفكرتين أكثر من أي طرف آخر، على رغم كل الاجحاف الذي يلحق بالعرب، جراء هذه التسوية. بالنسبة إلى الفكرة الأولى، مثلاً، فإن إسرائيل نفسها تبدي ممانعة للتطبيع مع محيطها، لأنها أصلاً لم تطبع مع ذاتها، بحكم التناقضات الداخلية فيها، بين العلمانيين والمتدينين والشرقيين والغربيين والمتطرفين والمعتدلين، وبين كونها دولة يهودية وديموقراطية. ومن المعروف أن إسرائيل تصر على تعريف ذاتها كدولة يهودية، كما تصر على انتمائها الىالغرب وليس الى الشرق الأوسط. والنتيجة أن إسرائيل تريد التطبيع، ولكنها تريده انتقائياً، ما يفسر سعيها الى التطبيع مع الحكومات والنخب الاقتصادية، الذي يؤمن لها الاعتراف بحقها في الوجود وضمان أمنها والاستفادة من المجال الاقتصادي الشرق أوسطي. أما التطبيع بمعنى التحول إلى دولة عادية، فهو، بغض النظر عن الضجيج والاطروحات الساذجة، يتناقض مع طبيعة إسرائيل وحتى مع تعريفها لدورها ولذاتها كدولة صهيونية - يهودية. * كاتب فلسطيني.