بعد نصف قرن ونيف من انقلاب تنظيم "الضباط الأحرار"، تقف السياسة الخارجية المصرية بعيداً تماماً مما كانت عليه في المراحل الأولى "للثورة"، فلأنها لم تكن "ثورة" وإنما انقلاباً كان من السهل الانقلاب عليه داخلياً وخارجياً. لم تتخذ مصر موقفاً معادياً أو مناوئاً للدول الغربية إلا بعد رفض البنك الدولي، نتيجة تدخل الولاياتالمتحدة، تمويل بناء السد العالي، ثم إبرام صفقة الأسلحة التشيخية الشهيرة. وكانت العلاقات اتسمت بنوع من الشد والجذب وإطلاق إشارات اختبار متبادلة بين مصر والغرب لا سيما واشنطن، حتى أن الموقف الأميركي من الغزو الثلاثي في 1956 كان بمثابة فرصة ذهب لتطوير علاقات قوية واستراتيجية بين القاهرةوواشنطن، غير أن الشك المتبادل وعدم الاتفاق على حدود المصالح المتبادلة التي ينبغي مراعاتها حالا دون اغتنام الفرصة. من هنا يمكن القول إن اتجاه مصر إلى التحالف مع المعسكر الشرقي جاء اضطرارياً وليس بدوافع عقيدية أو نتاج فكر سياسي معين، ما يرجح أن الفجوة بين مصر والغرب لم تكن سوى رد فعل على تردد وريبة غير مبررين من الغرب وتحديداً الولاياتالمتحدة تجاه عبد الناصر وليس العكس. الملمح الثاني في الوجه الخارجي لانقلاب تموز هو أن الحضور العالمي لمصر بفضل سياسة دعم حركات التحرير ومكافحة الاستعمار لم يكن بهدف الحصول على مكانة أو ثقل عالمي لمصر وإنما كان نتيجة طبيعية لحرص مصر عبد الناصر على دعم حركات الاستقلال العربية والأفريقية، ولعبت حالات بعينها دوراً مؤثراً في تضخيم صورة نظام ناصر كداعم لحركات التحرير في العالم وأبرز تلك الحالات استقلال الجزائر، فخصوصية الجزائر كمستعمرة فرنسية جعلت لاستقلالها وقعاً وصدى كبيرين في العالم كله، غير أن مقارنة الدعم المصري لاستقلال الجزائر أو بعض الدول الأفريقية بحالات أخرى في أميركا اللاتينية أو آسيا تشير إلى أن توجه مصر نحو دعم حركات الاستقلال والتحرير لم يكن مطلقاً ولا الهدف الأصلي منه ممارسة دور خارجي فاعل على مستوى العالم. بدرجة أقل، يبدو التوجه القومي الوحدوي لنظام حكم عبد الناصر متسقاً مع الطابع العام الظاهر وهو مناوأة الاستعمار، فالسعي إلى الاستقلال أو الحصول عليه بالفعل كلاهما يستلزم الاستقواء بالدول العربية الأخرى أو بعضها. غير أن مقاومة الاستعمار أو حتى الخشية من هيمنة الدول الاستعمارية على مستعمراتها السابقة لم تكن كافية بمفردها لإقامة وحدة عربية شاملة ولا حتى كيانات وحدوية ثنائية أو ثلاثية، فمن جهة لم تكن مقاومة الهيمنة الاستعمارية عسيرة بمجرد التنسيق والتعاون السياسي والعسكري والاقتصادي البيني، خصوصاً في وجود المعسكر الشرقي الذي كان يمثل سنداً لتلك التوجهات الراديكالية ويتلقف أي بادرة من دولة صغيرة ابتعاداً عن المعسكر الغربي. ومن ناحية ثانية لم تكن المقومات الذاتية للوحدة متوافرة بما فيها الإرادة السياسية الحقيقية والرغبة الفعلية في التوحد أو الاندماج، فقد كانت الدوافع نحو مختلف تجارب الوحدة إما موازنة تكتلات أخرى مثل حلف بغداد على سبيل المثال، أو تعظيم الثقل الإقليمي لدولة على حساب دولة أخرى، كما حدث خصوصاً بين مصر والسعودية في بداية عقد الستينات. وكان من الطبيعي أن تنكسر الروح القومية مع نكسة 1967، ثم مع النقلة النوعية في شخص القيادة السياسية بحلول أنور السادات مكان جمال عبد الناصر. ففضلاً عن الفوارق الكبيرة في السمات الشخصية لكل منهما، فإن التوجهات الفكرية بل والنسق القيمي والإدراكي يبدوان متباينين تماماً أيضاً. بيد أن التقويم الموضوعي يقتضي الأخذ في الاعتبار اختلاف عوامل عدة ومدخلات أخرى تتجاوز شخص القيادة السياسية، بدءاً من النظام الدولي حيث انفرجت العلاقة بين القوتين العظميين في السبعينات عنها في الستينات فترة التأزم والاستقطاب الحاد، كذلك كان عدد كبير من المستعمرات السابقة قد حصل على الاستقلال، ولم يعد هناك محل أو وجود كبير لحركات التحرير وبالتالي فقدت الاتجاهات الراديكالية المعادية للقوى الاستعمارية السابقة كثيراً من حُجّيتها بل من فلسفة وجودها. المفارقة الواضحة في الدور الخارجي لمصر بين عهدي ناصر والسادات، أن الأول ذهب بالدور المصري إلى أبعد مدى، فتجاوز سريعاً النطاق الإقليمي إلى الدائرة العالمية سواء بتأييد حركات التحرير والاستقلال عموماً، أو بالمشاركة في تزعم حركة عدم الانحياز ومحاولة إلباسها ثوب قطب عالمي ثالث. بينما قصر الثاني محددات السياسة الخارجية المصرية في المصلحة المصرية على أضيق نطاق لها. وتزداد هذه المفارقة وضوحاً بالنظر إلى المرحلة الثالثة، مرحلة مبارك الذي التزم الوسطية بين هذا وذاك، فلا سخّر المجتمع والدولة كلها لدور خارجي، ولا انكفأ على مصلحة قُطرية خالصة. فاختار مبارك النأي بمصر عن إلباسها ثوباً أوسع منها، والحرص في الوقت ذاته على استعادة روابطها مع محيطها العربي حيث انتماءها الطبيعي بحكم التاريخ والجغرافيا. ويمكن اعتبار تلك الوسطية ترشيداً للبعد الخارجي في النظام المصري المحسوب - لا يزال - وريثاً لتركة تموز، والأهم من ذلك أن هذا التسلسل في تحولات السياسة الخارجية المصرية في ظل نظم خرجت كلها من عباءة تموز 1952 يشير إلى أنها بالفعل لم تكن ثورة وإلا لخضعت سياساتها الخارجية لمقتضيات النظم الثورية ولتطورت بحسب مراحلها. * كاتب وباحث مصري.