شعرت بمشاعر متباينة، عندما تطلعت إلى الجمع الحاشد الذي امتلأت به قاعة المسرح الصغير في دار الأوبرا المصرية في القاهرة صباح الثلثاء الأول من تموز يوليو 2003. وكان ذلك بمناسبة افتتاح مؤتمر "الثقافة العربية من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل" تحت شعار "نحو خطاب ثقافي جديد". وكانت دلالة افتتاح المؤتمر مع مطلع تموز شهر الثورات ضد الاستعمار القديم غير بعيدة من ذهني، فقد حرصنا على أن يكون افتتاح المؤتمر مع مطلع هذا الشهر الذي يرتبط بذكريات التحرر الوطني في أذهان المثقفين العرب، خصوصاً أولئك الذين يشعرون - بعد أحداث الغزو الأميركي للعراق- أننا نعود مرة أخرى إلى أشكال الاستعمار الذي يفرض نفسه بقوة السلاح، هادفاً إلى نهب الثروات العربية، والسيطرة على المقدرات العربية تحت شعارات براقة، لا علاقة بحقيقة الأهداف التي يسعى إليها هذا الاستعمار الجديد في تحالفه مع الصهيونية العالمية. وقد دفعتنا كارثة غزو العراق إلى التفكير في اتخاذ موقف احتجاجي من خلال المجال الثقافي الذي نعمل فيه، وتلاقت رغبتنا مع إلحاح عشرات من المثقفين العرب لضرورة عقد مؤتمر قومي، يلتقي فيه مثقفو الأمة العربية بتياراتهم وأجيالهم المختلفة، كي نواجه تحديات الحاضر، ونتطلع من خلال مشكلات هذا الحاضر وكوارثه إلى آفاق المستقبل. وجعلنا شعارنا "نحو خطاب ثقافي جديد" قاصدين بذلك إلى هدفين أساسيين. أولهما مواجهة عوائق الاتِّباع الفكري والسياسي والاجتماعي التي تحول دون العقل العربي والإبداع الحر لحياة تغتني بالاجتهاد والتجريب والتمرد والخروج على أي شكل من أشكال الضرورة السياسية والاجتماعية والفكرية، ومن ثم التمرد على فساد الأنظمة السياسية التي قادتنا إلى الهزائم والكوارث المتلاحقة، وآخرها كارثة غزو العراق التي لا تزال تنزّ دماً أسود، وستظل جرحاً مؤلماً يدفعنا ويدعونا إلى مقاومة أسبابه الداخلية التي ارتبطت بنظام حكم فاسد، وصل في قمعه واستبداده إلى درجة بشعة، كانت نتائجها الوخيمة، وعلى رأسها الغزو الأميركي، درساً قاسياَ لمن يريد المستقبل الواعد، ولمن ينبغي أن يدرك أن هذا المستقبل الواعد يبدأ من التحرر الداخلي الذي هو المصدر الدائم للقوة. ولم يكن الهدف الثاني في مسعانا بعيداً من التمرد على فساد الداخل، بل كان مكمِّلاً له، ووعياً بأن فساد الداخل يجلب مخاطر الخارج، وينتهي بالغزو الاستعماري الذي يزيد الفساد فساداً، والظلم ظلماً، والتخلف تخلفاً، فلم نسمع عن شعب من الشعوب - في تاريخ البشرية - حقق تقدماً على أيدي المستعمِرين، فالديموقراطية لا تنبت مع القنابل، ولا تزرعها الصواريخ، والعدل الاجتماعي لا يتحقق بقذائف الجنود المدجَّجين بأحدث أنواع السلاح، فالديموقراطية كالعدل وكالحرية إن لم تنبت من الداخل، وترويها دماء شعوبها، ويرعى براعمها رغبة أبناء الوطن في صنع مستقبلهم الواعد على أعينهم، لا تنبت على الإطلاق، وتظل سراباً خادعاً سرعان ما تتكشف حقيقته الموجعة. ولذلك فإن مقاومة مفاسد الداخل بكل أشكالها هي الوجه الآخر من مواجهة مفاسد الخارج التي تتخذ أشكالاً كثيرة من الهيمنة، أقبحها ما نراه الآن من كوارث الهيمنة الأميركية، خصوصاً بعد أن تحولت الولاياتالمتحدة إلى إمبراطورية جديدة، يقودها يمين متطرف، يهدف إلى السيطرة الكاملة على العالم تحقيقاً لأطماعه، وتحويلاً للكوكب الأرضي كله إلى مجال مفتوح للعولمة الاقتصادية التي أصبحت تتحرك بقوة السلاح الجديد. وكان هذان الهدفان حاضرين في أذهان الذين خططوا لمؤتمر رأينا ضرورة المسارعة بعقده، خصوصاً بعد أن وصلت الكوارث القومية إلى مدى غير مسبوق، مدى لم يعد يُجْدِي معه التريّث، ولا بد من ملاحقته بجمع المثقفين العرب ليحتجّوا على أشكال الهوان في حاضرهم، ويجسِّدوا تحديات مستقبلهم، ويفكروا معاً على رغم اختلافاتهم في لقاء يمكن أن يكون بداية لغيره، وفاتحة لتفكير مختلف. وجاءتنا النتائج مبشِّرة، دالة على حماسة الغالبية من المثقفين الذين أدركوا الخطر الذي أدركناه، فاندفعوا بالموافقة، وحضروا إلى القاهرة، منهم من يحمل ورقة جهَّزها في أقل من شهرين، تمهيداً لأوراق أخرى تكتمل في مستقبل العمل، ومنهم من يحمل أفكاراً يطلقها بصوت مسموع تعقيباً على الأوراق، أو في جلسات النقاش الذي تفجرّ في الموائد المستديرة، حرّاً بلا قيود ولا التزام إلا التزام حلم المستقبل الذي يخلصنا من كوابيس الحاضر. ولذلك شعرت بالفرحة والفخر والأمل وأنا أتطلع إلى الحشد الغفير من المثقفين العرب الذين ضاقت بهم قاعة مسرح الأوبرا الذي شهد وقائع جلسة الافتتاح والجلسة البحثية الأولى في الأول من تموز شهر الثورات القومية. وكانت الفرحة نابعة من حماسة الاستجابة التي لقيتها الدعوة إلى المؤتمر، على امتداد الوطن العربي، من التيارات والأجيال الثقافية المختلفة التي يؤرّقها ما يؤرّقنا، وتبحث مثلنا عن أفق واعد نتجاوز به ما نحن فيه، فلم تتردد في القبول، أو تترك أذهانها فريسة لأسئلة لا معنى لها في هذا المجال. وكان الفخر راجعاً لما رأيته من ظهور التنوع الخلاق للثقافة العربية المعاصرة بأجلى صوره في مؤتمر ثقافي عن تحديات الحاضر وآفاق المستقبل، مؤتمر لا ينحاز إلى تيار بعينه، ولم يتعصب لاتجاه من دون غيره، ولم يكن هناك من سلطة عليه أو فيه إلا سلطة المثقفين الأحرار، في بحثهم عن إجابات جديدة عن أسئلة عالمهم الذي تتدافع متغيراته على نحو غير مسبوق. ودفعني شعور الفرحة والفخر إلى الأمل في أن يصل هذا التجمع الذي شَهِدْتُهُ من المثقفين - على اختلاف تياراتهم - إلى منطلقات مغايرة لخطاب ثقافي جديد، خطاب يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق، ينبني على التنوع ويثرى به، خطاب لا يقدس إلا حريته واستقلاله، ولا يكفّ عن التطلع إلى المستقبل الذي يقيس على إمكاناته الواعدة واحتمالاته الموجبة، خطاب لا يعرف سوى المكاشفة التي لا يفسدها النفاق أو الخوف، ولا يقبل إلا التسامح الذي ينقض التعصب، والعقل الذي ينحاز إلى العلم في نبذ منطق الخرافة، خطاب يعترف بالمختلف والمغاير، بل المعارض، بصفته الوضع الطبيعي للحضور الفاعل في الحياة، خطاب يضع نفسه في قلب الحركة المتدافعة لعصره الصاعد، عبر الكوكب الأرضي كله، بعيداً من سطوة أي مركز من مراكز الهيمنة في العالم، منحازاً إلى ما يؤصِّل هويته المتجددة، ويؤكد عدالة قضاياه، ويقيم بينه وبين خطابات التنوع البشري الخلاّق، في كل مكان، ما يجسد مبدأ الاعتماد المتبادل، والحوار المتكافئ، بين الثقافات والحضارات. وما أحوجنا إلى هذا الخطاب الجديد في الزمن الذي نعيشه، ونكتوي بما يحدث فيه، من غير أن تكون لدينا القدرة على دفع الكوارث التي تصيبنا أو تجنّب المحن التي تصدمنا. لقد شهدت الأمة العربية من الفواجع غير المسبوقة ما يفرض عليها مراجعة شاملة لمشروعاتها القائمة، وخطاباتها السائدة، وأنظمتها الحاكمة. وقد شهد العالم كله من المتغيرات العاصفة ما جعل البشرية تدرك أنها انتقلت من زمن إلى زمن، ومن تحالفات قديمة إلى تحالفات جديدة. وقد جاءت كارثة الحادى عشر من ايلول سبتمبر لتلقي بظلالها القاتمة علينا، وتضع الثقافة العربية كلها - ظلماً - موضع الاتهام، وتدفع بأحدث أشكال الاستعمار إلى غزونا، والهيمنة على ثرواتنا بدعوى تحريرنا. وتلك أوضاع تفرض علينا التخلص من كل ما أوصلنا إلى نهاية النفق المظلم، والبحث عن منافذ جديدة للضوء تنير لنا سبل الخلاص، وتعيننا على صوغ خرائط عقلية جديدة، تدفع بنا إلى مستقبل أكثر وعداً. يؤكد أهمية ذلك ما يصدم الأعين ويؤرّق العقول على المستوى القومي، إذ لا تزال الأرض العربية محتلة، بل ازداد احتلالها بعد الغزو الأميركي للعراق، ولا تزال مخاطر العولمة قائمة، متصاعدة، تهدد استقلال الدولة الوطنية كما تهدد الثقافة القومية. ولا تزال الأنظمة العربية الاستبدادية ماضية في المدار المغلق الذي يبدو محتوم النهايات، محكوماً بالدمار الذي لا مفرَّ منه، كما يحدث في المآسي الإغريقية، ولا تزال الحرية الفكرية والإبداعية كالحرية السياسية مكبَّلة بالقيود التي علاها الصدأ، ولا تزال المرأة العربية مهمَّشة، محاصرة، تعانى الكثير من أشكال التمييز الواقعة عليها وضدها، ولا تزال ثقافة التطرف والأصولية موجودة، غالبة، لا تقتصر على التيارات الدينية بل تجاوزها إلى التيارات المدنية التي ينغلق فيها الفكر على نفسه، جامداً على مطلقاته التي لا تقبل الحوار أو المساءلة أو الاختلاف أو حتى المغايرة. ولذلك تتكاثر الخطابات المتنابذة المتصارعة للإخوة الأعداء، حيث الحدِّية الخطرة التي تقسم الأمة، وتشيع البطريركيات المتأصِّلة في ثقافات العنف التي تستبدل بلغة الحوار والاحترام المتبادل بين المختلفين لغة الاتهام والإقصاء والاستئصال المعنوي أو المادي. وأتصور أننا عندما ندعو إلى خطاب ثقافي جديد، فإننا لا نعني خطاباً واحداً مهيمناً، لا يقبل غيره، ولا يسمح بالوجود لسواه، وإنما نعني خطابات ثقافية متعددة، متحاورة، متفاعلة، تزداد ثراء بالانفتاح على الآخر والمختلف، معتمدة على يقظة الوعي النقدي الذي يدفعها إلى مساءلة تكويناتها الذاتية أثناء مساءلة غيرها من الخطابات. وما أعنيه، شخصياً، بالخطاب الثقافي الجديد هو الوضع الثقافي الذي ينتج من اللغات المتعددة للممارسات الفكرية، المتحاورة والمتجاوبة بما يضيف إلى حضارة الأمة، ويدفعها إلى التقدم الذي تحلم به في كل مجال. ولا شك في أن هذا الخطاب الجديد لا يمكن أن ينبثق في فضاء مطلق، بلا متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية تعمل على سرعة تولّده، وزيادة تأصّله ورسوخه. ولكن كل خطاب ثقافي جديد - من هذا النوع - هو بشارة بالمتغيرات الإيجابية ودافع إليها، كما أنه يتأسس بحضورها الإيجابي ويزداد قوة بحيوية صعودها. ومن المؤكد أن الحاجة إلى خطاب ثقافي جديد من هذا النوع لا تعني نبذ القيم الأصيلة للعناصر الإيجابية الموجودة في بعض الخطابات القائمة، خصوصاً المهمَّش منها. فمن الأمانة أن نعترف بوجود العناصر الإيجابية التي حمت الثقافة العربية من الانهيار الكامل، أو الوقوع في أسر التبعية المطلقة أو الاتِّباع الخالص، وظلّت تقاوم التعصب والتطرف في الفكر مقاومتها للتسلط والاستبداد في السياسة. هذه القيم والعناصر الإيجابية ينبغي البدء منها، ولكن بصفتها نقطة انطلاق وليس نقطة انتهاء، فالمستقبل الذي يتحدانا بوعوده ورعوده يفرض علينا إعادة النظر في سرديَّاتنا الكبرى، ومشروعاتنا الشمولية، وشعاراتنا المكرورة وخرائطنا العقلية القديمة، كما يفرض علينا مراجعة الأنظمة السياسية التي لا تزال تحكمنا على امتداد الوطن العربي، والأعراف الاجتماعية السلبية التي لا تزال تعرقل خطونا. ويعني البدء من الإيجابي الذي نمتلكه والحرص على تأكيده وتطويره والوعي بما يحيط به من عناصر تراثنا المتجدد، وإدماج هذه العناصر في شبكة جديدة من المبادئ الدافعة إلى الأمام. ونقطة الانطلاق الحقيقية، في بحثنا عن آفاق واعدة لهذا الخطاب الثقافي الجديد، هي الأسئلة التي نقرع بها جدران الصمت، حيث المسكوت عنه من الكلام المقموع سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وقد آن الأوان لإنطاق المسكوت عنه، والتصريح به ومناقشته، بدل تركه حبيس الصدور والعقول التي تتأذى بكتمانه والخوف من النطق به. وإذا كانت الثقافة هي أداة تحررنا وتحريرنا، في الأفق المفتوح على المستقبل، فإننا لا يمكن أن نفصل الثقافي عن السياسي أو الاجتماعي أو الديني، ولكن التركيز على المنظور الثقافي، وضرورة الحرص على استقلاله، أمر له أهميته التي تعزز فاعلية الدور الثقافي في تحرير وعي الأمة، خصوصاً حين تطغى الشعارات الرنَّانة من كل نوع بما يثير الانفعالات الهائجة التي تعكِّر على العقل التأملي. وقد بادرنا إلى عقد هذا المؤتمر لنتيح للعقل التأملي الاستهلال اللازم لممارسة حقه الكامل في التأمل والتحليل، بعيداً من مزايدات المزايدين، أو دموع التماسيح، أو تهوسات المتهوسين، أو شكوك العاجزين، حريصين على تحرير عقولنا من كل القيود. وكانت علامة ذلك حريتنا في تبادل الآراء بلا تحفظات، وقدرتنا على أن نختلف أو نتفق في سلام، وأن نطرح على أنفسنا الأسئلة التي لم نطرحها من قبل، محترمين حرية كل عقل في أن يطرح فكره في أي اتجاه، ما ظل هذا الفكر يقبل الاختلاف والمغايرة، فما من أحد يملك الحقيقة المطلقة أو اليقين الكامل، خصوصاً بعد أن ذهب إلى غير رجعة زمن الحقائق المطلقة واليقين الكامل، والزعماء الملهمين المعصومين من الخطأ، فكرياً وسياسياً واقتصادياً، والنظريات الأصولية في كل من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وأصبحنا نعيش في زمن يرفع شعارات الحرية حتى لو لم يمارسها، ويزهو بالديموقراطية حتى لو كانت شكلاً بلا مضمون، ويتسابق إلى إعلان حقوق الإنسان حتى لو أهدرها في الواقع الفعلي للحياة اليومية. ولكن الوعود الإيجابية لهذا الزمن - مع ذلك كله - تستحق بذل الجهد من أجل تحقيقها، والعمل على تحويلها إلى واقع ملموس، وشكل يتكامل ومضمونه الفاعل في الوجود، خصوصاً بعد أن انتزعنا هذه الوعود بالعمل الدؤوب والمواجهة المستمرة لكل أشكال الأصولية والهيمنة التي تلازم أشكال الاتِّباع الفكري والتبعية السياسية. وهو الأمر الذي حفزنا على التمسك باتساع حلمنا بالغد، وإيماننا بقيمة الثقافة ودورها في صنعه، فالثقافة التي نعرفها هي المسعى الإبداعي الذي يستبدل آفاق الحرية بشروط الضرورة، والعدل بالظلم، والاستقلال بالتبعية، والاتباع بالابتداع، والتنوع الخلاّق بوحدة الإجماع المفروضة قمعاً وإرهاباً. ولقد بدأت كلمتي - في افتتاح المؤتمر - بالفرحة والفخر والأمل، وأنهيتها بتكرار الأمل في أن يتجسد ما نحلم به من خطاب ثقافي جديد في أبحاث المؤتمر ومناقشاته، وأن نطرح من الأسئلة أكثر بكثير مما لدينا من الأجوبة، وأن نصل باختلافنا الإيجابي إلى بعض المبادئ الهادية، والصياغات الملهمة. ولا أزال على ثقة من تحقق هذا الأمل، فقد حقق المؤتمر أهدافه، وكانت علامات الابتداء تشير إلى إنجاز النهايات التي تتحول إلى بدايات واعدة، حتى لو شكَّك في هذا المؤتمر بعض المشكِّكين، وناوشته بعض حراب المخوِّنين والمكفّراتية من الأصوليين الدينيين والسياسيين في أقصى اليمين وأقصى اليسار، فقد نجح المؤتمر في تحريك المياه الراكدة، وعن قريب ستصدر أعماله كاملة، شهادة له وعلىه.