عنوان المقال هو بيت من اشعار الألماني هلدرلين، كتبه بعد رحلة لدراسة الحضارة الاغريقية في جبال الأولمب في اليونان استغرقت نحو ثلاثة اعوام. عاد الى ألمانيا ليُصاب بالجنون وهو في الثلاثينات من العمر. غاب نور عقله وبقي نور اشعاره يضيء بعض جوانب الحياة، اذ ان الشعر يساوي النور احياناً. كيان المثقف العراقي الاقتصادي والانساني والابداعي مهدد وفي خطر، وبالتالي يكون وضع الثقافة العراقية الحديثة مرهوناً بأوضاع صانعها. اي ان الخطر يهددها ويحيق بها في هذا المخاض الشاذ والعسير من تاريخ العراق. تدّعي احزابنا التي اشتهرت بالوطنية والتقدمية واليسارية عموماً بأنها الحاضنة الشرعية للثقافة العراقية الجديدة. وكان هناك في العراق مطبوع صدر أواخر الستينات من القرن الماضي يحمل هذا العنوان بالتحديد "الثقافة الجديدة". ومنذ ذلك الوقت وحتى الوقت الحاضر تسمى الثقافة عندنا ب"الثقافة الجديدة"، ويتبادر الى الذهن سؤال بسيط: اي جديد تعنيه هذه الثقافة؟ فإذا كان العنوان يصلح لأن يكون تقليداً لمطبوعات صدرت في بلدان كانت تنادي بالجديد على الطريقة السوفياتية وهي تعود اليوم لتراثها القديم وجذورها الحقيقية بعد تجربة مريرة دامت اكثر من سبعين عاماً، فالأولى بنا النظر الى واقع ثقافتنا اليوم وغض الطرف قليلاً عن ماضي الستينات. خرج الحزب الشيوعي العراقي، وهو احد أهم الاحزاب الوطنية، من الفعل السياسي المؤثر داخل العراق أواخر السبعينات إثر الهجمة الشرسة المنظمة التي قادتها اجهزة حزب البعث الحاكم على حليف لها في السلطة كما يليق بأخلاق عصابة قطاع طرق وليس بعملية صراع سياسي شريف. طرد الحزب من ساحته وميدانه وبيئته وحاضنته الاجتماعية، بيد ان جذوره الضاربة في العمق لم تستأصل كلياً من تربةالعراق الخصبة. وعندما خرج الحزب الشيوعي بمؤسسته الرسمية ليقود النضال من الخارج، فإنه جر خلفه قطاراً طويلاً من ارثه البشري الثقافي والاكاديمي ومن ثم جوقة الرفاق الاعضاء الاعتياديين. جرّت ماكينة قطار الحزب الشيوعي خلفها، بما جرّته من قاطرات، قاطرة خاصة جداً كانت محملة بخيرة المثقفين العراقيين. ومن تخلف عن الركب، تسنى له ان يلحق بالقطار "الثوري - المعنوي" الصاعد نحو شمال العراق، وبالتالي شمال الكرة الارضية كما يحتم قانون الفيزياء. فنحن هنا بصدد قانون الجاذبية، لكن بدل السقوط الى الاسفل كما هو معروف، سقطنا الى الاعلى. كان لذلك معنى كبير. فمجرد الاستسلام لمعنى "السقوط سياسياً" كان يعني السقوط كلياً، ثقافياً واجتماعياً واخلاقياً، وهذا ما لا يقبله المثقف العراقي الشريف بأي حال من الاحوال. ثم بقينا نسقط نحو الاعلى، ليس رغبة منا، لكن مطبات السياسة في عالمنا العربي وممرات الحياة الضيقة في مدن الشرق هي التي كانت تجبر الكثير منا على سلوك هذا الدرب الشاق. وكنا نفعل كما يفعل سمك السلمون وهو يشق طريقه الوعر نحو شمال الأرض، ويضحي بحياته في سبيل بلوغه هدفه الاخير، لكن الفارق شاسع بيننا وبين السلمون، اذ يطفر هو نحو موطنه الأم بينما نطفر نحن طفرتنا القوية واحياناً المميتة بعيداً عن ارضنا الأولى. هذا لا يهم كثيراً، حيث ان العالم غدا ملتصقاً بعضه ببعض بفضل وسائل الاعلام الحديثة، وبقي سمك السلمون على عاداته القديمة، وكذلك بقية الحيوانات الاخرى التي تقودها غرائزها الطبيعية نحو أوطانها الأم. الا نحن بني البشر الذين ننفرد بالطمأنينة الكاذبة كوننا فقدنا خاصية الغريزة أو تنازلنا عنها طواعية لصالح موهبة العقل والتحلي بزينة الحكمة. المهم الأن ان ننظر الى حالنا وحال ثقافتنا وحال مؤسساتنا العلمية والاكاديمية. واذ نجد بعض شيوخ ثقافتنا العراقية من يطيب له شن الحروب الجديدة باسم "المقاومة الشعبية" وهم انفسهم من تخلوا ووقفوا بوجه هذه المقاومة في أوج عنفوانها وشبابها وحقيقتها مطلع الثمانينات، نجدهم اليوم، وبعد سقوط رمز معارضتهم، يتكئون على عكاز ثوريتهم الهرمة لينفخوا انفاسهم الضعيفة في رماد جمر منطفئ. ليس لدينا "كارلوس" عراقي، وليس لدينا غيفارا عراقي. لكن، لدينا كاسترو عراقي، ولدينا عشرون الف لينين عراقي، ومثل هذا الرقم مضاعفاً من ستالين. كتب لي صديق، هو شاعر شعبي عراقي معروف ومحبوب ايضاً، هذه العبارة المفزعة: "لقد سقطنا بسقوط صدام حسين"!. وكان يقصد بعفوية مفرطة ان مهمتنا الحياتية انتهت بسقوط النظام العراقي كوننا "معارضة". في هذه الحال يجب على صديقي الشاعر ان يجد له ضالة كي يعارضها، وكي يشتغل ضدها، وكي يكتب من وحي ادمانه على الاضطهاد المزمن. تلك هي بالحق عقدة الشعور بالاضطهاد، وهي عقدة توفر بعض الارباح احياناً، وهي ضالة ينشدها البعض من المثقفين حسب اتجاهات الرياح. ما الذي يجعل المثقف العراقي يتخبط كل هذا التخبط والاحداث الجارية تتسم بكل هذا الجلاء والوضوح؟ وبين داع للثورة على الأميركيين، وبين مرحب بهم، وبين شغّال سري وبين ساكت، وبين قابض وبين لاهث، بين كل هذا الرهط العجيب ضاع موقف المثقف النبيل، موقف المثقف الوطني الاصيل. الواقع السياسي المعقد والملغوم هو بالضبط ما يجعل المعادلة الثقافية العراقية تبدو على هذا القدر من القباحة والتشويه والظلام. غياب المؤسسات الثقافية في الداخل وفي الخارج. الاحزاب العراقية هي ذاتها اذا كانت في الداخل او في الخارج، فهي لا تعنى بالشأن الثقافي الا بمقدار ما يوفر لها الفائدة والدعاية والكسب على حساب الشأن الابداعي الحقيقي وقوانين التطور الاجتماعي الطبيعية. ادت الظروف الشائكة والمعقدة التي افرزتها الهجمة الشرسة ل"قبضايات" حزب البعث العراقي وعلى رأسهم صدام حسين على القوى الوطنية العراقية الى نشوء حالة من الفصام بين المثقف العراقي وبيئته الاجتماعية بغض النظر في ما اذا كان هذا المثقف ينتمي الى تيار سياسي معين ام غير منتمٍ. فالسلخ والتجريد الذاتي الذي تعرض له المثقف العراقي تساوى او يكاد تقريباً بين الجهتين. واذ تنعم المثقف المنفي ببعض اشكال الحرية المزيفة بعيداً عن مجتمعه الاصلي فإن عقله الباطن ونتاجه الابداعي وشغله الشاغل ظلت تعاني مرارة الانفصال عن البيئة الشرعية والحاضنة الطبيعية والرغبة الشديدة بالعودة اليها بعد تصليحها سياسياً، وبين الحرية الجديدة في المجتمعات الغربية، تلك التي لا تمت بصلة جذرية لمكونه الابداعي. بينما ظل المثقف داخل الاسوار "الوطنية" الحديد التي يمكن ان يشيدها نظام همجي متخلف كالنظام القبلي البعثي، يرزح تحت اعباء بعيدة كل البعد عن التفكير بانتاج ادب ابداعي وانساني يعيد ويؤسس للكائن البشري حضوره الطبيعي ويصنع علامات رقيه وتطوره اللاحق. حيث كان تكريس روح القائد، على رغم بشاعته وشكله الاستفزازي، وحروبه وسكناته وهمساته هي المرتع والمنفذ والمتنفس الضيق والوحيد امام هذا الانسان المسكين الذي يمتلك مشقة الكتابة او الرسم، او يبتلي في شكل او في آخر بهم من هموم الابداع. ربما كانت تلك قسمة عادلة بين المثقف المنفي والآخر المقيم في ارض الجحيم. ليس لأحد فضل على احد، فكل واحد دفع الثمن الباهظ على طريقته. نعود الى قطار الحزب الشيوعي المحمل بالمثقفين العراقيين، وربما بخيرة اولئك المثقفين. يصح القول الذي تفاخر به القيادات الشيوعية في العراق وهي تخوض الصراع من منافيها بأن خيرة المثقفين العراقيين ركبوا قطار الحزب بطريقة تدعو الى الظن بأن الجميع كانوا منضوين تحت هذه اليافطة السياسية. وقليل من التدقيق بهذه الحالة يبين العكس. فإذا استثنينا شاعراً معروفاً مثل سعدي يوسف لا يبقى للحزب الشيوعي شاعر بهذه المكانة الاعلامية. وإذ حسبنا الجواهري وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري ومظفر النواب، فإن الكفة لا تميل الى الحزب الشيوعي، لكن توظيف المعادلة الثقافية كان لا شك في مصلحة الحزب كون جميع الشعراء الكبار منهم والصغار - أرفض رفضاً قاطعاً هذه التصنيفات واعتبر ان كل الشعراء الحقيقيين كبار حتى لو لم نكن نعرفهم - كان يوحدهم موقف واضح هو رفض ديكتاتورية صدام حسين ونظامه الاجرامي الدموي المتخلف. ألقت قاطرة الحزب حمولتها في بيروت، وكانت حمولة قيمة وكبيرة لعبت دوراً مميزاً في حياة النضال العربي، خصوصاً الفلسطيني، سيذكره التاريخ اذا كان للعرب والفلسطينيين منهم من سيهتم بالتاريخ. وفي احدى المناسبات النضالية التي جرت لاحياء الذكرى السنوية لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي في بيروت مطلع الثمانينات احتشد لاحياء هذه المناسبة حشد من المثقفين العرب، فضلاً عن العراقيين، ما لم يكن ليتوقعه المرء. كان ادونيس - الذي قال امام الجمهور المحتشد في تلك الليلة انه يحنث في هذه اللحظة وعداً قطعه على نفسه منذ ثلاثة عشر عاماً وهو عدم قراءة الشعر في مناسبة سياسية - ومحمود درويش اللذان لا يلتقيان الا اذا التقى الخطان المستقيمان باذن الله. وكان، اذا لم تخن الذاكرة، الشاعر معين بسيسو وعريف الحفلة كان الشاعر اللبناني شوقي بزيع. من دون مبالغة كان في تلك القاعة من المثقفين العرب والاسماء اللامعة "ما يضيق به وطن كامل" على حد تعبير شوقي بزيع. هكذا كان صيت المعارضة العراقية مطلع الثمانينات ضد عصابة الهمج من الذين كانوا يحكمون في بغداد من دون شرعية وطنية. فضلاً عن هذا كله كانت الصحافة الفلسطينية التي رفدها القلم العراقي المبدع والجريء والمتخم بالهم القومي العربي قد جسدت هويتها بفضح همجية النظام، حتى ان مجلة "الثورة الفلسطينية" الناطق الرسمي باسم منظمة "فتح" كبرى المنظمات الفلسطينية تصدر عددها بغلاف يحمل صورتي الرئيس العراقي احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين وعليهما عنوان كبير "القتلة"!. كل هذا كان متوافراً بيد المعارضة العراقية وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي. لماذا لم يستثمر هذا الوضع الذي اكتسب شرعيته الجماهيرية والشعبية بين صفوف الشعب العربي لتأسيس معارضة عراقية حقيقية، على الاقل بين نخبة المثقفين؟ ولماذا الانتظار حتى تأتي ماكينة ضخ الدولار الاميركي عبر الأداة العراقية لتلتهم هذا الموقف برمته، بحيث يعزف الشاعر ادونيس عن نشر نص شعري طويل يدين النظام العراقي لينشره بعد ربع قرن، مباشرة عقب سقوط تمثال الطاغية 9 نيسان ابريل 2003. حتى ان النص على جماله ودقة صنعته افتقد الى الصدقية بعد افتقاده الى عنصر الزمان والتوقيت. من هو المسؤول الحقيقي عن هذا الوضع المؤلم والشاذ، أليس هو المعارضة العراقية التقدمية ذاتها؟ كان الشارع الثقافي العربي يقف بقلبه الحار والصادق، عاصمة الثقافة العربية الحرة بيروت، مع ضحايا نظام حزب البعث العراقي من المثقفين والفنانين والمناضلين على مختلف اصنافهم. كانت تلك بديهة وسليقة ثورية وانسانية واضحة السمات في سلوك المثقف العربي وبالتالي الشارع العربي بسواده الاعظم. ماذا حدث كي تنقلب تلك المعادلة الصحيحة رأساً على عقب والضحايا هم الضحايا، بينما ازداد وجه النظام العراقي قباحة بالصعود الاجرامي لعصابة مجهولة الماضي وضارية السلوك مثلها الثالوث الأمي صدام التكريتي - طه الجزراوي - عزت الدوري؟ انه سلوك المعارضة العراقية الذي هدم صرح التضامن العربي الحقيقي ممثلاً بخيرة رموزه ونبضه الحار من المناضلين والمثقفين العرب، وليس السفراء ورجال المهمات الخاصة من استخبارات الدول العربية الحليفة للنظام العراقي. وكان ذلك الانهيار الذي ألحق الصدع بهذا التضامن قد برز قبل اعلان العراق شن الحرب على الجارة ايران، وقبل بدأ ضخ الدولار الى جيوب المرتزقة الصغار والصحافة الصفراء التي أسسها أولئك المرتزقة اواسط الثمانينات لخدمة اهداف النظام الصدامي التخريبية. سلوك الهيمنة الذي يحاول كل حزب من الاحزاب العراقية، القائدة منها او المعارضة، فرضه على المثقف العراقي هو الذي ادى ويؤدي باستمرار الى تشتيت دور هذا المثقف وتدمير طاقاته الابداعية وجعل صورته باهتة في المعترك السياسي. وبالطبع تتفاوت اشكال هذه الهيمنة ودرجاتها ونوعيتها بين هذا الحزب او ذاك، لكن جوهر النتيجة يبقى متماثلاً. * كاتب عراقي.