عزف نصير شمّه أمس وقبله على عوده في بيروت بعد غياب عن جمهور العاصمة اللبنانية دام أربع سنوات، وكانت حفلتان نظمتهما "عِرب" و"لا سديتيك" في المركز الثقافي الروسي وحضرهما محبو الفنان العراقي من فنانين ومثقفين وشبان صغار أتوا يستمتعون بعرض قل ما تستضيف مثيلاً له العواصم العربية. لم ينفصل العزف في الحفلتين عن السياسة، شمّه المجدد، الباحث من دون تعب عن صيغ جديدة في الموسيقى العربية كان يقدم أمس جديده وقديمه وكان يثبت أن الفنان الحقيقي المثقف هو مرآة لمجتمع ينتمي إليه، يحفظ تراثه، ويتألم بآلامه، ويعرف كيف "يحول القبح إلى جمال". في الحفلة الأولى كان "حوار مع الكبار". اختار شمّه معزوفات لكبار الموسيقى العربية فعزفها بعوده متنقلاً من موسيقي لآخر بخفة، نجح في اقامة حوار في ما بينها، لم تعد قطعاً لأشخاص متنوعين صارت فعل انتقال أو تتالٍ صحيح بين جمالية وأخرى. لكن تحيته للكبار كانت محطة. بدأ الحفلة ب"أحلام عتيقة" وختمها ب"حدث في العامرية" المقطوعة التي جعلنا عبرها نسترجع صوراً شاهدناها أو تخيلناها لكثرة ما حفظت ذاكراتنا مثيلات لها، صور طائرات تمطر ملجأ بالقنابل وتحوله من مخبأ إلى ظلام ممزوج بدماء جثث الأطفال والنساء الأبرياء. وما بين المقطوعتين كان الكثير الكثير من السياسة والمقاومة والحزن. وكانت مقطوعة "إشراق"، حيوية موسيقية هي الترجمة الصحيحة لكل أمل، كانت الرؤوس تتمايل معها، تصفيق طويل تلاها عرفاناً من الجمهور لهذا الموسيقي بالأمل الذي حمله له في عزفه، وكان التصفيق لشمّه الذي خص الفنان العراقي الراحل جميل بشير بتحية كما خص الشهداء في العراق وفلسطين والمقاومين في لبنان بتحيات. لكن الحفلة لم تكن سياسية، كانت لقاء شمّه مع جمهوره اللبناني، تذكير بموسيقاه هو الذي صمم عوداً ذا ثمانية أوتار متبعاً ما جاء في نظريات الفارابي، مضيفاً بذلك طابعاً نغمياً جديداً على العود، وكانت إحدى منجزاته أيضاً ابتداع طريقة للعزف على العود باستخدام يد واحدة. في حفلتي بيروت أخذ شمّه جمهوره في رحلته الموسيقية إلى عوالم متعددة، أمتعه بالموسيقى وبذلك المشهد الرائع، مشهد تناغم أصابعه مع الأوتار، كان وكأنه يلاعبها حيناً، ويراقصها حيناً آخر، بيد واحدة، بإصبعين أحياناً، متعة حقيقية كانت متابعة حركة اليدين، تشبه تلك الحال التي يشعر بها المرء وهو يشاهد عرضاً راقصاً حيث جسدا راقصين، يقتربان، يتحاوران، يتابعان بخطوات متماثلة أوامر الموسيقى، وشمّه كان يخلق هذا المشهد بموسيقاه وبحوار أصابعه مع العود. الحفلة إذاً، كانت ضرورة في بيروت وفي أي عاصمة عربية، للتذكير بتجارب المبدعين في العالم العربي - وإن قل عددهم، بمشاريعهم وبموسيقى العود وبامكانات تطوير نغماته إذا صح التعبير، نصير شمّه أمس، وهو حالياً أستاذ لآلة العود في دار الأوبرا المصرية في إطار مشروع "بيت العود العربي" الذي أسسه مع الدار "لخلق مواصفات للعزف المنفرد"، لفت إلى آفاق الموسيقى العربية وبأن الانطلاق من أصولها وقواعدها الصحيحة لا ينتافى أبداً مع التجديد والقدرة على "محاكاة العصر" واستخدام لغته. قد يكون هذا القول في اطار الحديث عن موسيقى نصير شمّه من البديهيات التي يصح تجاوزها، لكن حفلتيه في بيروت أعادتا بعضنا إلى رشده، أخرجتا من وجدانه الآه التي لم تعد الموسيقى العربية المنتشرة حالياً تلامسها. حفلتان فقط أحياهما شمّه في بيروت التي أرسل منها الرسائل الموسيقية الكثيرة إلى بغداد، ليعود إلى القاهرة ليحيي حفلة ويكون له نشاط فني مكثف. وكان الجمهور اللبناني الذي تابعه يتحدث وهو خارج من صالة المسرح عن ضرورة أن يتم مع هذا الفنان لقاء جديد قريب جداً.