في فيلمه الذي أوصل شهرته الى مستوى عالمي لم تكن وصلته من قبل "تكسير الأمواج"، ينهي لاس فون تراير الحكاية على بطلته الشابة الساذجة، وقد ضحت بنفسها، جسدياً وأخلاقياً ونفسياً لكي تنقذ زوجها العامل المشلول من محنته. تموت وتذل هي لكي يعيش هو. وفي فيلمه الذي تفجّر في "كان" العام قبل الماضي "راقص في الظلام" تأتي نهاية بطلته أشبة بجريمة ضد العدل والإنسانية: يتم إعدامها في المدينة الأميركية حيث تعيش، بتهمة قتل جارها الشرطي، وهي التي لم تكن تسعى إلا الى نيل حقها منه بعدما استولى على مال أودعته لديه لكي تجري به جراحة لطفلها المهدد بأن يصاب بالعمى. هاتان البطلتان واجهتا في كل من هذين الفيلمين مصيرهما، بكل هدوء وشجاعة، ومن دون أن تفقد أي منهما إيمانها بالبشر وبطيبة البشر. بالنسبة إليهما كان الشر الذي أدى بهما الى الهلاك، عارضاً استثنائياً، وربما أيضاً طريقهما الى الخلاص. وهذا ما يجعلهما علامتين في تلك السلسلة من الشخصيات الطيبة الممتدة من السيد المسيح الى "أبله" دوستويفسكي. ومع هذا، فإن السؤال الأساس الذي لا شك ورد في أذهان متفرجي الفيلمين كان: لماذا؟ لماذا لم تَثُر كل من البطلتين على مصيرها؟ لماذا رضيتا بالتضحية وإلامَ سيظل المقهور أو المظلوم معتقداً أن مصيره المرسوم هو درب خلاصه الوحيد؟ في فيلمه الجديد "دوغفيل" الذي أيقظ الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي من تثاؤب طويل وقاتل، أجاب لاس فون تراير عن هذا السؤال. أجاب بقوة وبلؤم، ولكن من دون أن يخبرنا ما إذا كان الجواب اختمر لديه منذ أول أفلام هذه "الثلاثية" بحيث خبأ الجواب حتى نهاية النهاية، أم أن الأمر لم يعدُ كونه تواتراً، انتقل فيه من حال الى حال، مع بطلاته الثلاث، فيلماً بعد الآخر، بحيث وصل من طريق ذلك التواتر، لا من طريق خطة موضوعة سلفاً الى هذه النهاية... غير المتوقعة؟ بين ثلاثية وثلاثية وربما يكون هناك شيء من التعسف في ربطنا الأفلام الثلاثة "تكسير الأمواج"، "راقص في الظلام" و"دوغفيل" واعتبارها "ثلاثية"، طالما أن المخرج ينبئنا بأن "دوغفيل" نفسه إنما هو بداية "ثلاثية" يطلق عليها اسم "يو إس إي" الولاياتالمتحدة الأميركية ويريد منها الغوص في نظرة معينة الى أميركا وأخلاقها. إذ بهذا النبأ، يبدو فون تراير وكأنه يفصل "دوغفيل" عن الفيلمين السابقين عليه وهو على أي حال، فصل بينهما بفيلمه الوحيد المنتمي الى أسلوب "دوغما 95" الذي كان هو مبتكره وواضع أسسه، ونعني به فيلم "الحمقى". ومع هذا، ها هي البطلات الثلاث في الأفلام الثلاثة، ماثلات أمامنا كالشقيقات، في طيبتهن، في إيمانهن بالبشر، في رضوخهن لمصيرهن. لكن الأخيرة غريس في "دوغفيل" ستظل كذلك حتى ربع الساعة الأخير من الفيلم. بعد ذلك ستنقلب تماماً. ستبدو، بعد تفكير، وكأنها لا تنتقم لنفسها فقط من خبث البشر والشر الكامن في الطبيعة الإنسانية نفسها، بل تنتقم "لشقيقتها" بطلتي "تكسير الأمواج" و"راقص في الظلام". وربما في هذا الإطار وحده، يكمن العنصر الذي يمكننا من التحدث هنا عن "ثلاثية"، وربما يكون اسمها "ثلاثية القلب الطيب". أما في ما عدا هذا، فإن "دوغفيل" فيلم متفرد، استثنائي، يقف وحيداً، ليس في تاريخ مخرجه وحسب، بل في تاريخ السينما أيضاً. وفي هذا الإطار الشكلي أساساً قد يكون نقطة البداية للثلاثية الجديدة. ففي هذا الفيلم يبدو لارس فون تراير وكأنه راغب في إعادة اختراع السينما، في إعادة تعريف السينما ليس بصفتها "الفن السابع"، بل بصفتها الرحم الذي تنمو فيه الفنون كافة، ولا سيما فن المسرح الذي كان في أصل السينما. ومن هنا، كما ان الموسيقى والشعر والصورة الفوتوغرافية وحكايات الجن... وغيرها من الفنون حاضرة في "دوغفيل"، ثمة أيضاً وأساساً حضور للمسرح، بل إن الفيلم كله بني بناء مسرحياً يضعنا مباشرة وفي الوقت نفسه أمام المسرح المؤفلم عند بدايات السينما الصامتة، وفي خضم المسرح الاجتماعي الأميركي، كما تجلى لدى أورسون ويلز وكذلك لدى كليفتون أوديتز "في انتظار ليفتي" في الثلاثينات الأميركية. وربما يضيف فون تراير نفسه الى هذه المؤثرات، المسلسلات التلفزيونية التي كانت تصور وتبث حية في الخمسينات، ونضيف نحن أجواء بريخت وبيرانديللو وعوالم ثورنتون وايلدر في "بلدتنا"، وما إلى ذلك. مسرحُ بدايات السينما بناء الفيلم كله، إذاً، بناء مسرحي. والقرية دوغفيل التي تدور فيها الأحداث، ليست هنا سوى مسطح عريض من الأرض رسمت عليه بخطوط طبشورية بيوت ومخازن ودوائر رسمية، لا جدران لها، بحيث ان المتفرج يشاهد كل ما يحدث أمامه، فيما الممثلون يتصرفون وكأن هناك جدراناً ونوافذ وأبواباً. وإذ تدور الأحداث طوال ثلاث ساعات هي مدة الفيلم على هذا النحو، يأتي صوت الممثل جون هارت وهو يروي لنا الأحداث ليضفي على العمل ككل جواً حلمياً يحيلنا مباشرة الى حكايات الأطفال المروية، ويعيد الفن الى جوهره الرواية بصوت الرواية... ثم وببطء شديد، يروح هذا كله راوياً لنا الأحداث، مع تعليقات خفيفة عليها، فيما الشخصيات تتحرك أمامنا - وأيضاً في شيء من البطء الذي يخلق سأماً مزيفاً أول الأمر - حتى تتصاعد العواطف والأحداث ممسكة بخناقنا بعد ساعة، تقريباً، من بداية الفيلم. فما هو "الحدث" الذي يروى لنا على هذه الشاكلة؟ ببساطة هو وصول شخص غريب الى قرية منغلقة على نفسها تعيش حياتها اليومية بكل هدوء ومن دون أية أحداث كبيرة صادمة. وهذا الشخص الغريب هو غريس نيكول كيدمان في واحد من أروع أدوارها حتى اليوم التي نجدها تصل القرية تحت جنح الظلام بعد سماعنا طلقات نارية غامضة. وإذ يستقبل فيلسوف القرية ومثقفها توماس أديسون - توم - غريس، تخبره أنها مطاردة من عصابة من الأشرار، فيقبل مع شيء من التردد إيواءها تلك الليلة. ومنذ صباح اليوم التالي وعلى مرأى هذه الغريبة تبدأ الحياة اليومية بالانقلاب في القرية: البعض يريد التخلص من غريس بطردها، والبعض يريد إعطاءها مهلة... الخ. وفي نهاية الأمر يغلب حب البرّ على أهل القرية ويقبلون ايواء غريس لمدة محدودة. إن غبطة غريس هنا كبيرة، إذاً، وها هم أهل القرية يبرهنون لها عملياً على طيبة الإنسان. وهي في مقابل اريحيتهم هذه تبدأ بمعاونتهم في حياتهم وأعمالهم، غير متنبهة، إلا لاحقاً، الى أن عونها الطوعي سرعان ما تحول الى سخرة ورمي كل الأعمال المتعبة عليها. تقاوم في البداية أي رد فعل ضدهم، ثم حين يطفح الكيل تقرر الهرب، لكنها تفشل، ليس لأنها عاجزة عن ذلك، بل لأنها مرة أخرى وجدت نفسها تجابه حقيقة الطبيعة البشرية. وهكذا تتحول نظرة غريس الى البشر من اليقين الإيجابي، الى الشك، ثم الى اليقين السلبي، خصوصاً أن "محكمة" القرية تحكم عليها بأن تربط بالأغلال، وتحول عونها الطوعي للناس الى أشغال شاقة تقوم بها. وهكذا تصبح غريس، مقيدة ومضطهدة الى هذا الحد، مطية لأهل القرية، بل كذلك متنفساً لإحباط رجالها الجنسي... وهي في كل هذا عاجزة عن أية مقاومة، ولا تلقى يد العون من أحد. وحتى توم، الفيلسوف المثقف، يعجز في نهاية الأمر عن أن يكون طيباً معها. فهل يفقد هذا كله غريس إيمانها بطيبة البشر؟ ملاك الانتقام انها حتى هنا تتصرف، والى حد ما، تصرف "شقيقتيها" في "تكسير الأمواج" و"راقص في الظلام": تنصاع لمصيرها معتبرة إياه خلاصاً وفداء للبشر ولنفسها أيضاً... وتنتظر المصير الذي ستؤول إليه. أما هذا المصير فإنه سيكون على يد توم، نفسه، حبيبها، الذي سيكون هو من يتصل بالعصابة التي تطارد غريس لإخبارها بوجودها هنا. وهكذا تغزو العصابة القرية لتقبض على غريس... فهل علينا هنا أن نتابع لنكشف بقية الأحداث، ونفضح "الخبطة المسرحية" الأخيرة؟ سيكون في هذا ظلم للذين قد يرغبون في مشاهدة هذا الفيلم، لذلك يكفي أن نشير الى أن غريس بعد حوار مع رئيس العصابة داخل سيارته، تفكر ملياً: هل الجنس البشري لا يزال طيباً أو لا يزال في الإمكان إعادته الى الطيبة أم لا؟ والحال أن تفكيرها هذا، أو الحوار مع رئيس العصابة ولن نقول هنا طبعاً من هو، يشكل جوهر الفيلم... ولعله أهم تبادل للحوار في تاريخ السينما... وأيضاً: لعله أول غوص حقيقي في الطبيعة البشرية... وأيضاً وأيضاً لعله إشارة الى واحدة من تلك الثورات الكبرى في عالم الأخلاق...إذ، مع هذا الحوار، يتجاوز الفيلم تماماً ما كان يبدو عليه أول الأمر من أنه نوع من إدانة الأخلاق الأميركية في حقبة الانهيار الاقتصادي في الثلاثينات، ليغوص في ميتافيزيقا الأخلاق غوصاً قد لا تبدو سوداوية الفيلسوف الروماني - الفرنسي سيوران بعيدة منه، وقد يتلاقى طرداً مع "كانديد" فولتير. إذاً، في هذا المشهد، الذي يبدو لنا الأكثر سينمائية من حيث واقعيته واستخدام الكاميرا فيه، يطرح لارس فون تراير كل تلك الأسئلة المقلقة والشائكة حول التسامح والاضطهاد، حول الطبيعة البشرية، حول الفرد والمجتمع، حول مفهوم الغريب، حول العنصرية. والحال ان مثل هذا الحوار الذي يطول دقائق عدة، كان يمكنه أن يكون مضجراً تحت يدي أي مخرج آخر، لكنه هنا أتى لحظة سينمائية بصرية استثنائية، خصوصاً وقد أداه ممثلان استثنائيان: نيكول كيدمان وجيمس كان، في دقائق هي أروع ما قدم في حياته السينمائية حتى اليوم، وتضعه في صف واحد مع مارلون براندو وجاك نيكلسون. بعد هذا الحوار، لن تعود غريس كما كانت، ستصبح ملاك الانتقام. ستقرر أن العالم سيكون أفضل حالاً إذا تخلص من تلك القرية الظالمة. ستجيب عن السؤال الذي لطالما طرح حول رضوخ السيد المسيح لمصيره. سترد على الذين تسببوا في قتل بطلة "تكسير الأمواج" وفي إعدام بطلة "راقص في الظلام"... وكل هذا في مشهد أخير يدور أمامنا كالرسوم المتحركة. وبعد هذا المشهد ينهي لارس فون تراير فيلمه الأخّاذ هذا، بدقائق يقدم لنا خلالها مجموعة هائلة من صور فوتوغرافية فيها مشاهد من الحياة الأميركية ومن الحلم الأميركي منذ الثلاثينات... صور تقول الكثير في تتابع مدهش وعلى إيقاع موسيقي لا يفوته أن يضع المتفرج، بعد الساعات الثلاث المدهشة والغريبة التي عاشها، في خضم أسئلته حول أميركا وتكبُّرها على العالم وتعاملها "الاستكباري" مع الغرباء و"المستضعفين"، ولكن أيضاً وخصوصاً أسئلته حول الطبيعة البشرية نفسها والشر المتأصل في داخل الإنسان... ما إن يجابه بما يخرجه عن روتينيته اليومية. كل هذا يجعل من "دوغفيل" فيلماً كبيراً... لكنه يجعل منه أيضاً فيلماً عسير الهضم، بالنسبة الى الذين يريدون من السينما أن تكون مجرد مشهد استعراضي، أو الذين فهموه على أنه مجرد هجوم كاسح على الأخلاق الأميركية. ومن هؤلاء بعض الأميركيين الذين هاجموا الفيلم، وكان لهجومهم بالتأكيد دور كبير في استبعاد الفيلم من أية جائزة ومنذ عرضه كانت "السعفة الذهبية" مضمونة له، كما كانت جائزة أفضل ممثلة مضمونة لنيكول كيدمان عن دورها فيه، خصوصاً ان فون تراير نفسه آثر ألا "يطرّيها" مع الأميركيين. مهما يكن، من المؤكد أن "دوغفيل" سيظل حاضراً، وعلامة أساسية في تاريخ السينما، حين تنسى هذه الدورة الكئيبة من دورات "كان"، وحين ينسى حقد الأميركيين عليه، هؤلاء الذين كان مأخذهم عليه أن يتحدث في بعض أفلامه عن أميركا من دون أن يكون قد زارها... وكان ردّه هو عليهم: وهل زارت هوليوود يا ترى كل المناطق التي صورت أفلاماً عنها؟