على مدى أكثر من عقدين من الزمن، كتبت كل سيدة أولى في الولاياتالمتحدة عن السنوات التي قضتها في البيت الأبيض مع زوجها. ولكن لم تثر أي منهن جزءا صغير من الاهتمام الذي لقيته مذكرات هيلاري كلينتون في الأيام الماضية. فعلى مدى شهور قبل خروج هذه المذكرات الى النور أخيرا، في كتاب يحمل اسما مبتكرا هو "التاريخ الحي" أو "معايشة التاريخ" Living History ، انتظر كثيرون ما ستقوله السيدة الأولى التي سكنت البيت الأبيض من 1993 إلى 2000. فقد فاز الرئيس السابق بل كلينتون بولايتين متتاليتين شهدتا أحداثاً كبرى في الولاياتالمتحدة والعالم. ولكن الحدث الذي أثار أكبر قدر من الاهتمام كان متعلقا بعلاقته بالمتدربة في البيت الأبيض التي صارت مشهورة في أنحاء العالم مونيكا لوينسكي. ولا شك في أن هذا الحدث كان ومازال هو الالعامل الأول وراء الإقبال الكبير على الكتاب. ولذلك حرصت المؤلفة على مطالبة الجمهور بقراءة الكتاب كاملا أو من الغلاف إلى الغلاف على حد تعبيرها. وليست هذه هي المرة الأولى التي تجني فيها السيدة كلينتون ربحاً من الفضيحة التي أحسنت التالعامل معها وإدارة الأزمة التي نجمت عنها، الأمر الذي ساهم في صعود نجمها على نحو كان من الصعب أن يحدث في ظروف مغايرة. فقد تصرفت بذكاء اجتماعي وسياسي فائق ونجحت في التالعامل مع الإعلام فأطلت على الرأي العام الأميركي، وغير الأميركي، بصورة الزوجة الضحية لكن القوية أيضا، والمرأة المتسامحة من دون أن تقبل إهانة كرامتها، والسيدة العاقلة الحكيمة التي وقفت الى جانب زوجها في لحظة يصعب تحكيم العقل فيها. وتعمدت إبراز أن الأمر لم يكن سهلا بل شديد الصعوبة الى حد أنها لم تكن قادرة في بدايته على تحديد ما إذا كان زواجها وكلينتون سيستمر. ولكنها قررت في النهاية ليس فقط أن تبقى معه ولكن أيضا أن تساعد في إنقاذه. فأظهرت بذلك نبلاً من النوع الذي يثير إعجابا في مثل تلك الظروف. وبفعل هذه الصورة خطت هيلاري خطوة أولى كبيرة في طريق الصعود السياسي، فخاضت انتخابات مجلس الشيوخ في ولاية نيويورك وفازت وصارت السناتورة هيلارى رودهام كلينتون. والحديث عن خطوة أولى يعني أن لها ما بعدها. وهذا هو الموضوع الذي يثير تساؤلات الآن في الأوساط السياسية الأميركية، إذ يوجد اعتقاد قوي في أن كتابها يمثل الجسر الذى تريد أن تعبر عليه وهي تجهز نفسها لخوض انتخابات الرئاسة بعد المقبلة التى يحل موعدها في تشرين الثاني نوفمبر 2008. فالكتاب ليس مجرد مذكرات سيدة أولى، بل هو وثيقة سياسية من الدرجة الأولى إذ تطرح عبر صفحاته مواقفها السياسية والفكرية ورؤيتها لكثير من القضايا الداخلية والخارجية. وفي الكتاب رسالة قوية وواضحة موجهة الى حزبها الديموقراطي عن مغزى وقوفها الى جانب زوجها الرئيس الديموقراطي رغم شدة آلامها في الوقت الذي تخلى عنه كثير من الديموقراطيين الذين كان مفترضا أن يساندوه خصوصا في مواجهة خصومهم الجمهوريين. وفي هذا السياق أثارت البعد السياسي فى قضية كلينتون - مونيكا، والذي يتعلق بمحاولة اليمين المحافظ استغلالها لمصلحته. وهاجمت المحقق كينيث ستار من هذا المنظور واتهمته بتجاهل الدستور واستخدام سلطته لتحقيق أهداف خبيثة في مقدمها محاولة الإطاحة برئيس يختلف معه سياسيا وفكريا. وكم بدت مقنعة هنا وهي تفصل بين بل كلينتون الزوج الذي خان ثقتها وبل كلينتون الرئيس الذي تشاركه الرؤية السياسية والخلفية الفكرية وتؤيد الطريقة التي قاد بها الولاياتالمتحدة. ولذلك أصبح السؤال عن احتمال ترشيح السيدة كلينتون لانتخابات الرئاسة الأميركية العام 2008 مثارا بشكل متزايد ومثيرا لقضية حلول إمرأة رئيسة في البيت الأبيض للمرة الأولى في تاريخ الولاياتالمتحدة. فرغم ازدياد النزعة المحافظة Conservatism خلال العقدين الأخيرين بشكل مطرد وما يقترن بها من تنامي أصولية دينية بروتستانتية، يظل المجتمع الأميركى مهيأ لقبول إمرأة في أعلى منصب بالبلاد. والطريف أن إثارة هذا الموضوع شجعت سيناتورة أخرى ولكن جمهورية على التطلع الى خوض انتخابات الرئاسة وهي اليزابيث دول زوجة السيناتور الجمهوري السابق روبرت دول الذي خسر معركة الرئاسة أمام بل كلينتون العام 1996 . وبخلاف السيدة كلينتون فإن للسيدة دول تجربة في السعي الى خوض انتخابات الرئاسة إذ دخلت السباق التمهيدي في الحزب الجمهوري العام 2000، ولكنها منيت بالفشل مع باقي الطامحين عندما حسم بوش الابن هذا السباق لمصلحته. ورغم أن السيدة دول ستبلغ السبعين من عمرها العام 2008 فربما لا يقلل هذا فرصتها في الحصول على دعم حزبها والفوز بتمثيله في انتخابات الرئاسة التي ستجرى في ذلك العام خصوصا وأنها تتمتع بحيوية فائقة وهي في الخامسة والستين من عمرها الآن. وستكون نقلة كيفية في انتخابات الرئاسة الأميركية إذا وصلت السيدتان دول وكلينتون الى مرحلتها النهائية بما يعنيه ذلك من حتمية دخول إمرأة البيت الأبيض رئيسة وليست زوجة رئيس. ومن الصعب تقدير مدى إمكان تحقق هذا الافتراض بعد خمس سنوات لا نعرف ما ستشهده من تفاعلات داخلية في الولاياتالمتحدة وتطورات في سياستها الخارجية. ولكن وجود احتمال كهذا يثير سؤالا عما إذا كان وجود إمرأة على رأس الدولة التي تتمتع بقوة لا سابقة لها في التاريخ يمكن أن يؤدي إلى انتهاجها سياسة تختلف عما يراه كثيرون الآن نزوعا امبراطوريا أو امبرياليا جديدا، هذا بغض النظر عن مدى صحة أو دقة هذين المفهومين في العالم الراهن. غير أن هذا السؤال قد لا يكون له محل خارج إطار "النظريات" النسوية التي تنسب إلى المرأة "فضائل" من نوع أنها أكثر ميلاً إلى السلام وتكافؤ الفرص والمساواة وأقل نزوعاً إلى القوة والعنف. فلم يثبت في الحالات التي تولت فيها المرأة رئاسةَ دولٍ وحكومات في أوروبا وآسيا أنها تختلف عن الرجل في ادارته للسياسة الداخلية والخارجية. وثبت في المقابل أن الميول السياسية والأيديولوجية تفرق بين إمرأة وأخرى وتجمع نساءً ورجالاً على السياسات نفسها. وعلى هذا الأساس فالأرجح أن تنتهج السيدة كلينتون سياسة خارجية مختلفة عن ادارة بوش الراهنة ليس لأنها إمرأة ولكن لكونها تعبر عن اتجاه مختلف. أما السيدة دول فلا خلاف لها مع سياسة بوش على أي صعيد. ولكن التغيير الذى ستأتي به هيلاري كلينتون في السياسة الخارجية الأميركية، إذا فازت بالرئاسة، لن يشمل القضايا العربية الأساسية وفي مقدمها قضية فلسطين. وهذا هو ما يمكن استنتاجه اعتمادا على ما خطته في كتاب مذكراتها حين تعرضت الى ما يخص هذه القضايا. فهي لا تخفي تعاطفها القوي مع إسرائيل وتألمها المستمر لما تعرض له اليهود من عذابات في أوروبا. وتروي بألم شديد قصة الحفلة التي حضرتها مع السيدة سهى عرفات في ربيع العام 1999 حين اتهمت الأخيرة إسرائيل باستخدام الغازات السامة ضد الفلسطينيين. كانت السيدة الفلسطينية الأولى تتحدث بالعربية ولم ينقل المترجم ما قالته عن الغازات السامة بشكل واضح. ولكن المراسلين نقلوه في تغطياتهم للحفلة الأمر الذي وضع هيلاري في موقف شديد الحرج مع يهود نيويورك النافذين ليس فقط لأنها لم ترد الاتهام عن إسرائيل ولكن أيضا لأن السيدة عرفات عانقتها وفق العادات العربية على حد تعبير السيدة كلينتون. وهي تسجل هذه الواقعة بمرارة شديدة يظهر فيها انحيازها القوي لإسرائيل. وهذا ما بدا أيضا فى تعليقها على فشل مفاوضات "كامب ديفيد 2" التي رعاها الرئيس الأميركي السابق في تموز يوليو 2000، إذ تحمل الجانب الفلسطيني المسؤولية كاملة عن هذا الفشل وعن المواجهات التي تصاعدت بعد ذلك. فهي تقول إن رئيس الوزراء الإسرائيلى حينئذ ايهود باراك ذهب الى كامب ديفيد ليوقع اتفاق سلام بعكس عرفات الذي تتهمه بأنه فشل في أداء دوره في الحرب ضد الإرهاب. وتذهب إلى أبعد من ذلك عندما تقول إن رفض عرفات يد باراك التي امتدت إليه كان من أهم أسباب ما تسميه التطورات المؤسفة التي حدثت منذ ذلك الوقت. إن مشكلتنا في العالم العربي مع السياسة الأميركية تجاه قضايانا لا يغيرها دخول إمرأة البيت الأبيض. فهي مشكلة مع الطبقة السياسية في الولاياتالمتحدة برجالها ونسائها إلا القليل منهم ومنهن. ولا حل لها إلا مد الجسور مع العرب والمسلمين غير العرب في الولاياتالمتحدة عبر منظماتهم التي ازداد دورها نسبيا في السنوات الأخيرة ومساعدتهم في بناء ركائز جماعة ضغط موازية للوبي اليهودي الصهيوني. وهذه مهمة كبيرة تحتاج الى عمل دؤوب وتخطيط سليم وقبل ذلك رؤية واضحة لما نريده من الولاياتالمتحدة. * مساعد مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسية.