سيدة من "فصول أربعة"، هو الوصف الأدق لامرأة طوّعت انكساراتها، وصنعت منها مجداً بات قاب قوسين أو أدنى، في محاولة للاعتزال من أعلى هرم الدولة الأولى، لم تكتف بوصف السيدة الأولى، دون أن تكون الرئيسة الأولى في واقع من "الخيارات الصعبة". هيلاري كلينتون، أو ابنة ديان رودام، المنحدرة من أسرة محافظة، تنتسب إلى الطبقة الوسطى، المولودة في أكتوبر/تشرين أول 1947، ب "شيكاغو"، المدينة الأكثر احتضاناً لجميع جنسيات العالم، وكما هي شهيرة بتنوعها وإسهاماتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي ذائعة الصيت ب"الشغب". لتسمية مسقط رأس هيلاري حكاية، فكلمة "شيكاغو" تنتمى إلى "لغة الالنجوكى"، وهي إحدى لغات عديدة كان "الهنود الحمر" يتحدثون بها، وتعني "الرائحة القوية"، ويعود سبب تسميتها إلى طبيعة المكان الذي تشغله المدينة اليوم، الذي كان في الأصل حقولاً شاسعة، خصصها "الهنود الحمر" ل "زراعة البصل"، لتصير رائحته النفّاذة سبباً في التسمية. هيلاري بدأت حياتها السياسية محافظة، شأنها شأن أسرتها، التي انتسبت للحزب الجمهوري، لكن محافظة الأسرة لم تقيّد تلك الطفلة، وسمحت لها في سن مبكر (13 عاما) في المساعدة بالحملة الانتخابية للحزب الجمهوري، ما أتاح لها آفاقاً سرعان ما قادتها إلى منحى ليبرالي، وتحديداً عام 1962 حين التقت "الفتاة الجمهورية" ب"الزعيم الأسود"، صاحب حركة الحقوق المدنية، مارتن لوثر كينج، وهو اللقاء الذي ترك أثراً عميقاً في نهجها السياسي، لتبدأ اهتماماتها بالحقوق المدنية عموماً، ولأصحاب البشرة السمراء على وجه الخصوص، وهو ما كان مُحرّماً آنذاك في عُرف "البيض". لم تغادر هيلاري، طوال سنوات دراستها المتوسطة والثانوية والجامعية الأولى، الانتماء الجمهوري للأسرة، لكنها ظلت "جمهورية بعقل ليبرالي" حتى التحقت عام 1969 ب "جامعة ييل"، التي أثرت حياتها، سواء لجهة حصولها على درجة الدكتوراة في القانون (1973)، أو لجهة اكتمال هويتها السياسية وتأطيرها على يمين مضامين الحزب الديمقراطي، وتعرفها إلى بيل كلينتون، وزواجها منه عام 1975. الثنائي بيل وهيلاري اشتبكا مبكراً، وقبل أن يتعارفا، في الاعجاب ب "الزعيم الأسود"، وهو ما يرويه الأول في كتابه "حياتي"، ويقول: في صيف 1963، ويوم 28 آب/أغسطس بالتحديد، كنت مستلقياً أمام التلفاز، عندها رأيت "القس الأسود" وهو يلقي خطاباً، لقد حضرت أكبر خطاب في حياتي، كان مارتن لوثر كينج واقفاً أمام تمثال لنكولن، ويحكي عن أمريكا التي حَلُم بها. لا يعرف أحد على وجه الدقة من قاد الآخر إلى مواقع النخبة الأمريكية، لكن الثابت أن الزوج اشتغل على حُلمه بأن يكون "رجلاً"، وفق ما يسرده في كتابه، لينتخب عام 1979 حاكماً لولاية أركنساس، وتصبح هي سيدة الولاية الأولى، دون أن يعني هذا كسلها، فهي انخرطت في الحياة المهنية عام 1971 كمحامية متدربة في مكتب المحاميين "والكر تروهافت وبورنشتاين" المشهورين بالدفاع على النشطاء الشيوعيين، وناشطي جماعة النمور السود، والحركة الحقوقية، وكانت عضواً في الفريق القانوني الذي شكلته اللجنة القضائية بمجلس النواب أثناء إجراءات إقالة الرئيس ريتشارد نيكسون على خلفية فضيحة "ووترغيت"، وغيرها من الأنشطة التي رافقت صعودها إلى واجهة الحضور السياسي. حافظت هيلاري على استقلاليتها، ولعل هذا كان جلياً بتمسكها باسم عائلتها "رودام" لسنوات بعد زواجها من بيل كلينتون، وحتى بعد انجابها ابنتها الوحيدة تشلسي (عام1981)، على غير التقليد المتبع في أمريكا، لتضيف اسم عائلة زوجها إلى اسمها عام 1982، ولتبدأ سيرتها باسم هيلاري كلينتون. سطع نجم هيلاري كلينتون في عالم السياسة مع وصول زوجها إلى البيت الأبيض رئيساً عام 1993، لتصبح سيدة أمريكا الأولى، وتبدأ سيرتها في صنع السياسة الأمريكية والتأثير فيها، وهو ما تعكسه العديد من التقارير الإعلامية، التي تشي بدورها المؤثر في السياسة الأمريكية بوصفها "زوجة الرئيس" بين عامي 1993-2001، وتبرره باعتبارها أول زوجة رئيس تصل إلى البيت الأبيض وخلفها كل هذه الخبرة المهنية، وهو ما اعترف به الرئيس مادحاً: أمريكا عندما اختارتني رئيساً اختارت معي رئيسة ثانية هي هيلاري. مديح الزوج لم يكن دليلاً على الوفاء بينهما، فهو "زير النساء"، وفق العديد من الروايات عن علاقاته النسائية، أو علاقات "الخيانة الزوجية"، الممتدة من وقت مبكر، لكن عام 1998 شكّل صدمة كبرى للسيدة الأولى، إذ تكشفت خيوط علاقة جنسية بين الرئيس وموظفة متدربة في البيت الأبيض تدعى مونيكا لوينسكي، امتدت بين عامي 1995-1997. لوينسكي، أو صاحبة "الفستان الأزرق"، الذي شكل دليلاً مادياً على "الخيانة الزوجية"، التي صارت آنذاك "أزمة سياسية"، شكلت تهديداً كبيراً لطموحات "الثنائي كلينتون" السياسية، ما دفع هيلاري إلى الوقوف إلى جانب الرئيس، الأمر الذي قاد الرأي العام الأمريكي إلى مواقف متباينة، ففي الوقت الذي جوبه فيه الرئيس بانتقادات حادة، انتزعت هيلاري -بدهائها- تعاطفاً شعبياً واسعاً. دهاء السيدة الأولى، وطموحها أيضاً، دفعاها -قبيل مغادرة زوجها سدة الرئاسة- إلى البحث عما يبقيها في "نخبة السلطة"، وليس فقط في "النخبة السياسية"، وهو ما قادها عام 2000 للترشح لانتخابات مجلس الشيوخ والفوز بمقعد عن ولاية نيويورك، الذي احتفظت به لولايتن، مستفيدة من الماكينة السياسية التي دفعت بزوجها إلى الرئاسة سابقاً، وبمنظومة من العلاقات نسجتها على مدى سنوات، ومستفيدة من الصورة النمطية ل "المرأة القوية"، التي شكلتها لدى الناخب الأمريكي خلال ذروة فضيحة زوجها. السناتور هيلاري كلينتون، بين عامين 2000-2007، كانت أول زوجة رئيس تترشح لمنصب حكومي، وفي الوقت ذاته تحمل مخزوناً غنياً عن اللعبة السياسية في دولة تقود العالم، ما أتاح لها لعب أدواراً مهمة، تبنت فيها مواقف سياسية متشددة، تحديداً حيال الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ودعمت التدخل الأمريكي في أفغانستان، لكنها عادت عن مواقفها عام 2006، عند ترشحها الثاني لمجلس الشيوخ، ودعمت "حملة فاشلة" لإجبار خليفة زوجها، الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، على إعداد خطط للانسحاب من العراق. ورغم تباين مواقف هيلاري كلينتون في السياسة الخارجية الأمريكية، حافظت طوال هذه السنوات على ثبات موقفها الداعم، وبشكل مطلق لإسرائيل، ودون مواربة أو مواقف قابلة للتأويل، وهو ما ظهر جلياً عند ترشحها الأول للانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي عام 2007 لتكون مرشحته إلى الرئاسة، وهو ما أخفقت فيه. إخفاق كلينتون في نيل ثقة الديمقراطيين كمرشحة للرئاسة، أمام باراك أوباما، لم يضع حداً لطموحاتها السياسية، التي تواصلت ضمن صفقة ضمنت لها إشغال منصب وزير الخارجية الأمريكية بين عامي 2009-2013، وهي الفترة التي خاضت فيها عملياً غمار السياسة الخارجية، بتفاصيلها الدقيقة، وبأحداثها المتعددة والمتشابكة. إبان توليها وزارة الخارجية، وقبيل اندلاع موجات "الربيع العربي" بيوم واحد، حذرت كلينتون، بمحاضرة لها في "منتدى المستقبل" بالدوحة، من خطب ما ستشهده المنطقة حال استمرت الأوضاع كما هي، ليفيق العالم العربي على "ثورة الياسمين" في تونس 2011، بيد أن الوزيرة أنكرت ضلوع بلادها في التداعيات، التي شهدتها المنطقة، عبر كتابها "خيارات صعبة"، الذي صدر عام 2014. تقول صاحبة "نبوءة الربيع" أن تحذيرها جاء متسقاً مع معطيات الواقع، ومستنداً إلى رؤيتها بضرورة "دمقرطة" المنطقة، والإفراج عن الحريات، وتقويض الفساد، وإيجاد فرص للشباب، وتُقدم نفسها - عبر الكتاب – كمحلل سياسي وليس صانع سياسة. كتاب كلينتون قدّم تصورات أكثر استقلالية عن كونها وزيرة وتُعبّر عن سياسة الإدارة الأمريكية والبيت الأبيض الديمقراطية، ما أظهرها أقرب سياسياً – على صعيد السياسة الخارجية - إلى مواقف الجمهوريين منها إلى الديمقراطيين، وهو ما يمكن رصده بوضوح، الأمر الذي يؤثث لطموحها بالرئاسة الأمريكية، التي أعلنت خوض غمار انتخاباتها التمهيدية في نيسان/ابريل 2015، فيما تُعد المرشح الأوفر حظاً، وفق استطلاعات الرأي، بين الديمقراطيين لمواجهة خصومهم، رغم أن الأمر لم يُحسم بعد، خاصة في ظل الهجمات المتتابعة للجمهوريين لإسقاط ترشيحها أو الحد من فرص فوزها في الانتخابات الرئاسية. "الإرث الطويل" لا يعني بالضرورة رافعة انتخابية، فقد يكون سبباً للخسارة، في التقاليد الانتخابية للأمريكيين، إذ يوفر حيزاً واسعاً للانكشاف أمام الخصوم، كما هو الحال الآن بالنسبة لهيلاري، التي يستند خصومها إلى ملفات خمسة، في محاولة لدفع الناخبين إلى الربط بين الفضائح لإثبات الإهمال والاستغلال للوصول إلى السلطة: أولاً: ملف الهِبات المالية الضخمة لمؤسسة بيل وهيلاري وتشيلسي كلينتون، التي تثير الشكوك حول مصادرها، ودورها في التأثير على المرشحة المفترضة للرئاسة، فضلاً عن اتهامات بالتهرب الضريبي، الذي يُعد جريمة لا تغتفر في الثقافة والقانون الأمريكي. ثانياً: ملف رسائل البريد الإلكتروني، التي استخدمت فيها هيلاري إيميلاً شخصياً، غير خاضع لخوادم وزارة الخارجية الأمريكية، وسعيها إلى إخفاء الأمر، ومن ثم اتلاف بعض محتوياته، المقدّر عددها بنحو 30 ألف رسالة. ثالثاً: ملفات تتعلق بأدائها كوزيرة للخارجية، خاصة في المواقف التي تبنتها الإدارة الديمقراطية حيال الثورة الليبية ضد معمر القذافي، وما إذا كانت القرارات تصب في صالح الأمن القومي الأمريكي أم لا؟، وكيفية تعامل الخارجية الأمريكية مع معلومات عن استهداف بعثتها الدبلوماسية هناك، التي تعرضت لهجوم مسلح. رابعاً: ملف العلاقات الجنسية للرئيس الأسبق، خاصة في فضيحة لوينسكي، وإعادة إثارته مجدداً، ووصفه بأنه "قد يكون أشهر كاذب في التاريخ"، في محاولة لتعطيل ماكينة آل كلينتون الانتخابية وعرقلة تقدمها. خامساً: التراكم المضطرد لثروة آل كلينتون، الذي يدفع بيل كلينتون إلى مصاف الرؤساء العشرة الأكثر ثروة في تاريخ البلاد، وهو ما ترد عليه العائلة بالحديث عن عوائد الخطابات، التي يلقيها الثنائي حول العالم، وكذلك إصدارات الكتب، التي عادت على العائلة بمبالغ مالية طائلة، وهو ما ظهر في الاقرارات المالية المقدمة إلى الحكومة، التي يشكك خصومهم في دقتها. في طور الترشح، يتبنى المرشحون للرئاسة في الولاياتالمتحدة، مواقف لا تعبر بالضرورة عن "جوهر" مواقفهم السياسية، إذ يكون هامش المناورة واسع نسبياً، ولكن ضمن خط عام ثابت، يمكن تلمس معالمه بشكل واضح، خاصة في دولة يخضع صنّاع القرار فيها إلى منظومة معقدة من التفاعلات الداخلية. ورغم ذلك، تبدو الخطوط العامة لنهج المرشحة المفترضة للرئاسة أكثر وضوحاً من منافسيها، فهي على الصعيد الداخلي تحمل وعوداً للشعب الأمريكي، وتخاطبه بالقول: كل يوم يحتاج الأمريكيون إلى بطل، وأرغب في أن أكون ذلك البطل؛ وبنبض ديمقراطي ليبرالي تقول: حين تنظرون إلى سجلي في الوقوف والقتال من أجل القيم التقدمية، لا أكون جالسة في المقعد الخلفي لأي شخص، سأحارب بشدة الظلم والإجحاف في مجتمعنا، معززة للاعتقاد باهتمامها بقضايا البيئة، والاتحادات العمالية، وحقوق المرأة، و"المثليين". ويسند هذا النبض الليبرالي تحولات مهمه في تركيبة ممولي الحزب الديمقراطي، وخروج الأمر على شركات "وول ستريت"، و"الرعاية الصحية"، و"شركات التعاقد العسكرية"، وكبريات المصانع، ولكن هذا النبض لا يستمر طويلاً حين الحديث بشأن السياسة الخارجية. في السياسة الخارجية، يتوقف المراقبون عن استفهام أساسي: هل تكون رئاسة كلينتون امتداداً لسياسة باراك اوباما؟، في الحقيقة قدمت "المرشحة المفترضة" مقاربة فضفاضة من محاور عديدة، هي: أولاً: تعزيز مكانة الولاياتالمتحدة الدفاعية، ضد التحديات الداخلية والخارجية، دون إسقاط خيار الهجوم الوقائي، أو الانسحاب من مناطق النفوذ، فاستبعاد استخدام القوة أمر غير مسؤول، لكن يجب أن تكون القوة الملاذ الأخير، وليس الخيار الأول. ثانياً: تبني إستراتيجية واضحة وفاعلة لهزيمة الإرهاب، المتمثل في "تنظيم داعش" في سورية والعراق والشرق الأوسط، تعطيل وتفكيك بناه التحتية، عبر الانغماس أكثر في مناطق نفوذه، وتشكيل محور سني في العراق قادر على استعادة المناطق، على نفس منوال "الصحوات". ثالثاً: تماهت كلينتون مع نهج أوباما حيال الملف السوري، والنظر إليه عبر البوابة السياسية، لكن مع تمسكها بفرض منطقة حظر جوي لحماية المدنيين، تسمح للسوريين بالبقاء في بلدهم، مستندة إلى تجربة الحظر الجوي في شمال العراق لحماية الاكراد، وكذلك تجديد التعامل مع المعارضة السورية المعتدلة وتدريبها ومدّها بالسلاح لتدافع عن نفسها في مواجهة نظام بشار الأسد. رابعاً: الحد من توسعة أو تسريح رقعة الحوار مع إيران حول قضايا الإقليم، وتشريع معادلة جديدة، قوامها رفع ثقة الشركاء العرب بأمريكا، ورفع تكاليف سلوك إيران السيئ. عبر مسيرتها السياسية، أيدت كلينتون كل الحروب الأمريكية، لكنها عادت عن تلك المواقف في مراحل أخرى، وببراغماتية جلية، ما يجعلها كلاعبة في مهرجانات السيرك الصيفية، تجيد اللعب على الحبال، لكنها لا تمتع الناظرين، فقد باتت في خريف العمر، وتحلم بشتاء سعيد لكل هذا، تكون فيه سيدة أولى متوّجة.