كان عادل وحيداً في حجرته، يعدُّ سريره للنوم بعد عناء يوم عمل شاق. وضع شريطاً للموسيقى في آلة التسجيل، استلقى على السرير، ليمنح نفسه بعض الراحة. طرق الباب احدهم، كان خاله سالم برفقة ساعي البريد. سلمه ساعي البريد رسالة ومضى، وبقي برفقة خاله سالم. جلسا قرب المدفأة، فضّ عادل الرسالة. قرأ فيها: "العشق في الوطن حياة، وللوطن في العشق خلود". كانت الكلمات تصنع في نفسه صناعة الغيث في الأرض الطيبة. وخاله سالم يراقب تقاسيم وجهه وهي ترسم في كل لحظة خريطة مغايرة عن التي قبلها. قال له: ما بك يا عادل؟ ملامحك تتغير بين اللحظة والاخرى، ماذا قرأت في الرسالة؟ قال: الغربة يا خال لا تزيدنا الا تشرداً وتقزماً. أطرق سالم رأسه في الأرض، كانت الكلمات لها وقع الصاعقة في نفسه. قال: صدقت يا بن اختي، الانسان الذي ليس لديه صدر حنون يتكئ عليه في اوقات الجفاف على الأرض، يعتبر ميتاً. هذا يعني اننا أموات. فعندما تنهار اثقال الهموم وتسقط في وادٍ سحيق تحت وطأة اقدامك، وتبقى شامخاً امام كل الاحتمالات والافتراضات، تقهر الموت بالحياة. أفهم من كلامك يا خال ان نكون داخل الوطن. ليس مهماً أين انت الآن، المهم الا يخمد ما بداخلك. وتنسج من ألم الماضي حاضراً يأتلق سحراً نحو غد مشرق، يتفتح جلناراً على صفحة حياتك. وتكون ربان السفينة التي تمخر عباب بحر الايام نحو هذا الغد المشرق. لقد تأخرت وعليَّ المغادرة هناك عمل ينتظرني، الى اللقاء، أراك غداً! يا خال قبل ان تغادر أود ان أقول لك: لقد وجهت دفة السفينة في الاتجاه الصحيح والسليم. ابتسم له سالم، وربت على كتفه وقال له: أعلم ان تربتك طيبة الى اللقاء. ودع عادل خاله سالم وعيناه ممتلئتان حزناً حدّ البكاء! شعر بالبرد يتسلل الى داخله. اقترب من مدفأته، انطوى على نفسه قليلاً، وأخذ يراقب حبات المطر وهي تضرب زجاج النافذة، ثم تسيل لتستقر في رحم الأرض معلنة ولادة ربيع مقبل. تأمل الايام الخالية من الفرح والحب. فكّر بما قاله خاله سالم، راح رأسه في ما يشبه الدوار. يقترب من نافذته التي تتقاطع فيها قضبان حديد، تحجز في ما بينها مساحات مستطيلة من الفراغ. يرفع بصره، يحلق بالأفق، يتراءى له على مستوى الأرض عدد من الأضرحة البائدة. تمتد بين حجارتها شقوق معتمة، تبدو كما لو انها تقول شيئاً ما، كلاماً ما، يمكن لمن يريد ان يستبين معناه من دون الحاجة الى ان يسمع منها شيئاً. وتلك الحجارة التي بنيت منها تبدو كما لو انها تبدل من مواضعها، كما لو ان الحركة تأتي من داخلها، من أعماق الأرض. حماه - علي محمود خضور