هل نلوم الغرب على عدم احترام من لا يحترم هويته؟ هل وقفنا قط امام مرآة الممر الذي يؤدي بنا الى القاعة العالمية الكبرى، قبل دخول هذه القاعة، لنصلح من زينتنا ونجري التعديلات اللازمة على مظهرنا قبل ان نقف على خشبة المسرح العالمي؟ الناس كلهم يمثلون. ما ان نقف امام المرآة في الصباح حتى نكون قد بدأنا بتمثيل الجزء المختص بذلك اليوم من صفحات عمرنا، وكل منا له في هذه الحياة دوره الذي اسند اليه، والذي يجب ان يلعبه باتقان اذا اراد ان يظل على خشبة المسرح، وان يحافظ على دوره فيها، وان يكون جزءاً من تمثيلية الحياة التي تختلف عن كل التمثيليات الاخرى بانها حقيقية وواقعية وحية وعلى الهواء مباشرة، وان الخطأ فيها يمكن ان يكلف الممثل حياته وحياة من ورائه ممن يمثلهم على خشبة هذا المسرح العجيب. وأخطر ما يصيب مثل هذا النوع من المسرحيات هو اخفاق الممثل في تمثيله، وعزل المخرج له من عمله واسناد الدور الى غيره، ومع ذلك يأبي الممثل الفاشل الا ان يبقى على خشبة المسرح، وان يستمر في علب دور اسند للتو الى غيره، وعلى المضي في ابداء الحركات الخائبة، المضحكة المبكية معاً، امام الجمهور الذي لن يزداد الا سخرية وغضبا وسخطا، ربما مع شيء من التألم والاشفاق للمصير الذي آل اليه هذا الممثل المتهالك العجوز، الذي سبق ان ملأ تمثيله الدنيا وشظت مهازله الناس حين كان يهيمن على المسرح وعلى جمهور المسرح وهو في عنفوان شبابه وأوج مهارته. فماذا بقي لشخصية العربي من دور على مسرح العالم؟ وما الذي يستطيع ان يفعله على خشبة مسرحة المتآكلة، والممثلون من حوله قد سدوا عليه كل منفذ، والحركة المسرحية تجري من حوله من دون ان تأبه له او تترك له اي فرصة للتحرك او المشاركة، وكل ما لديه من دور لا يتعدى لخبطة ادوار الآخرين، ابقاع الاضطراب على المسرح، والهاء بقية الممثلين عن مهامهم وادوارهم المرسومة؟ هل انتهى بنا الأمر نحن العرب الى هذا المصير المفجع؟ هل اصبحنا عبئاً على حركة الحياة من حولنا، وقد كنا، والعالم يكبو في غفوته وجهالته، المولد السحري لتلك الحركة؟ هل غدونا السيارة المشاغبة في شارع كنا نحن الذين ننظم حركة مروره، ونحدد قواعد السير فيه؟ ماذا جرى؟ هل تغلب المصنع والصاروخ والقنبلة على شبكة الاخلاقيات والقيم العربية والاسلامية التي احطنا بها العالم لحقب طويلة، وهل كان لهذه القنابل والصواريخ ان تخترق تلك الشبكة لو ان العالم ظل يرى هذه الشبكة مرفوعة فوق رؤوسنا، وظل يرانا ونحن نحاول ان نظلله بها ونحميه من دخان مصانعه ولهيب قنابله وازيز صواريخه؟ أولم يكن العالم، لو رأى فينا تلك الممرضة التي تحدب على جرحاه، في حربه الصناعية المريرة وآلته العسكرية التي لا ترحم، قد سلم لنا قياده، واغفى على احضاننا الدافئة ونحن نمنحه العناية والعلاج اللذين لم يعد لهما مكان في صيدليته الغاصة بانواع الادوية، ومستشفاه الفائق التطور، وقد وجد العلاج فيهما تقريباً لكل شيء، ولكن ليس لأمراض الروح وتهافت القيم وانهيار المثل الاخلاقية وتآكلها؟ اننا ندعو الى الحوار مع الغرب، ولكن من يتحاور مع من؟ هل هو "مونولوج" فيكون الحوار مع انفسنا، او "ديالوج" فيكون مع الآخر؟ انظر في ملامح كثير من افلامنا واغانينا وموسيقانا وملابسنا وقصص اطفالنا ومجلات شبابنا ومظاهر احتفالاتنا واعراسنا، بل لغة حديثنا اليومي، فلا تكاد تجد اثراً للشرق، انه الغرب قد لبسنا، لا اقول بالجوانب الايجابية من حضارته، وليت الامر كان كذلك، بل بالجوانب السلبية، فكل ما يرميه الغرب في تلال نفاياته، كل ما يضج منه عقلاء الغرب، ويتذمر منه مصلحوه، نسرع نحن لالتقاط اعقاب سكائره ووضعها في افواهنا لنتنشق ما تراكم فيها من نفايا دخانه وسمومه، ولتتحول هذه النفايات بعد ذلك في اجسامنا الى انحرافات وضياع وانقطاع عن الجذور وفقد للهوية والشخصية، ثم نقف منادين: تعالوا نتحاور!! وهل بقيت لنا أرض نقف عليها للتحاور؟ أو ما زلنا نملك مقومات ان نكون "طرفا" حتى يحق لنا الوقوف امام الطرف الآخر للتحاور معه؟ وأنى لذلك الطرف لغة يتحاور بها اذا كان فقد لسانه فأصبح هذا اللسان لا يكاد يتحرك الا مثقلا بلكنة الطرف الآخر، ومثخنا بجراح كلماته الفرنجية ونحن نراها تعيش على دماء كلماتنا وتستهلك شخصيتنا وتذيب هويتنا؟ أين اللغة العربية؟ واين اهل هذه اللغة؟ أما اللغة فما زالت تتراجع وتنحدر تحت وطأة الجهل بها وبقواعدها، وتحت سنابك خيول الضعف والتراجع العربي المذهل. فبعد ان بدأت بعض الدول العربية حركة مبشرة بانبعاثة جديدة للغة العربية، فاستصدرت القوانين الصارمة بعدم كتابة عناوين المحلات التجارية الا بها، وبعدم تسمية المنتجات الصناعية إلا باسمائها، بعيدا عن أية تسميات اجنبية، تراجعت هذه الحملة سريعاً وبشكل مفاجئ الى الوراء، لتعود الحروف اللاتينية والاسماء الاجنبية فتسيطر على الاسواق العربية ومنتجاتها، وبعد ان ازدادت المحطات الفضائية العربية فبلغت العشرات، وتوقع الجميع نهضة حقيقية في اللغة العربية ولغة المذيعين والمذيعات والبرامج واللقاءات، إذا بالتكسير والتخريب والاعوجاج واللحن يسود معظم الناطقين في هذه المحطات، واذا بالعاميات المختلفة تقفز على السطح لتملأ شاشاتنا وتميّع برامجنا وتثير فزعنا ونحن نراقب الأمل الجديد في نهضة لغتنا العربية يتراجع ويضمحل، وألسنة مذيعينا ومذيعاتنا تحوله الى عصف مأكول. أما الصحافة فكثير منها فقد صوته، فلا تكاد تميز واحدة عن الاخرى، وقلما تجد الصحيفة التي لها شخصيتها وخطها المستقل عن الصحف الاخرى، واقل من ذلك ان تجد الصحيفة التي تعي شخصيتها العربية فتنطق منها، وتتحدث بلسانها، وتحس بهمومها الحقيقية، وتضع يدها على اوجاعها غير المرئية، والتي ينتظر من الصحافة ان تكون اول من يكشف عنها ويسلط الاضواء عليها. حتى في المغترب، حيث تشتد الحاجة لوجود صحيفة عربية ناطقة بالانكليزية، وحيث يحسن العرب المقيمون في بلاد الغرب مخاطبة القوم الذين عاشوا معهم عقوداً من السنين، فلا نجد للأسف الا الصحف الناطقة بالعربية، وفيها يتحدث العربي الى العربي، وللاسف، من غير المرور بالطرف الآخر الذي يعيشون في ظل بلاده وحضارته. ثم لا تجد محطة فضائية عربية واحدة ناطقة بالانكليزية، لتكون جسراً بين العرب والطرف الآخر، الاقوى في العالم، على كثرة المحطات الفضائية، كثرة لا ادري كيف يوزع المشاهد العربي المسكين وقته بين برامجها، وهي تتنافس، في اكثرها، على تحقيق اكبر قدر من عنصر الامتاع، اكثر بكثير من حرصها على تقديم عنصر الثقافة والفائدة للارتقاء بمشاهديها الى مستويات علمية لائقة. ومما يثلج الصدر ازدياد عدد "المليونيرية" في العالم العربي يوما بعد يوم، فهل نتوقع من هؤلاء تمويل محطة كهذه، او صحيفة كتلك، لسد الفراغ الكبير في خطابنا مع العالم وإسماعه صوتنا الحقيقي؟ اما مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا فيجب ان نعترف بانها اضحت كثيرا ما تخرج نصف اميين، ان لم يكونوا أميين بشكل كامل، واللغة العربية هي آخر ما يتعلمه الفتى او الفناة في هذه المعاهد، فنظام "الكتاب" او "الخوجة" التعليمي القديم لا يزال هو النظام المسيطر على وسائل التعليم عندنا، لا اقول في الشرق العربي فحسب، بل في المغترب ايضاً، وقد منحتنى تجربتي الطويلة خلال العقدين الأخيرين وعملي مع المؤسسات التربوية العربية في الغرب الخبرة بأنظمة التعليم في هذه المؤسسات، وهي، على محاولاتها المخلصة للتمرد على قيود انظمة التعليم العربية التقليدية، ما تزال ترسف في هذه القيود، ولا يزال المعلم والمعلمة بعيدين كل البعد، غالباً، عن اية اساليب تربوية حديثة تحبب هذه اللغة الى أهلها وابنائها الصغار، اذ لا تزال جامعاتنا ومعاهدنا عاجزة عن تخريج الاكفاء، وفي مستوى العصر، من هؤلاء المدرسين، فضلا عن ان رفوف المكتبة التعليمية لهذه اللغة لا تزال فقيرة بالكتاب التعليمي وبالوسائل التعليمية السمعية والبصرية التي تستفيد من التكنولوجيا الحديثة وتستطيع ان تقف على صعيد واحد مع اللغات الأوروبية. وهكذا يجد التلميذ نفسه أمام تلك الفجوة المخيفة بين غرفة دراسة اللغة العربية وغرف دارسة المواد الاخرى، والنتيجة ان مؤسساتنا التعليمية لا تزال تمارس التعذيب اليومي لتلامذة اللغة العربية في صفوفها ومن ثم تنفير هؤلاء التلامذة من اللغة العربية ودروسها وربما من أهلها وبلدانها وما تمثله هذه اللغة من قيم اسلامية كريمة. فما بال أهل هذه اللغة؟ ان العالم يعرفنا من خلال اعلامه لا من خلال اعلامنا، ويرانا من خلال ابنائنا في الغرب وتصرفاتهم وتعاملهم اليومي مع الغربيين، ونحن لم نحسن، للأسف أيضاً توجيه كثيرين منهم ليكونوا ممثلين حقيقيين لأمتهم ودينهم، فكان هؤلاء صورتنا امام الغرب ولن يقبل يغيرها بديلاً عنها. نعم: الاعلام الحقيقي هو الانسان، وانساننا العربي في الغرب، مقيماً كان او زائرا، لم يُعد في كثير من الاحيان لتمثيل أمته بشكل صحيح او لتقديم صورة عن الاسلام تطابق ما في نصوصه الرفيعة المقدسة. وبصورة غير معهودة عند الأمم ترتبط اللغة العربية عند اهلها بدينهم، فيقدر افتقارهم الى فهمها واتقانها بقدر ما يفتقرون الى فهم دينهم وتمثله والعمل بقيمه، ومن ثم تقديم امتهم واخلاقياتها وتاريخها وحضارتها من خلال هذه القيم وممارساتهم اليومية لها. وهكذا فهمنا الدين مظهرا اكثر منه جوهرا، تماماً كما فهمنا الحضارة الغربية، ورحنا نصرخ ملء اصواتنا مدافعين عن الاسلام، ونحن والاسلام في حياتنا العملية على طرفي نقيض، بل ان من حق الاسلام الآن، وقد فقدنا مقومات الدفاع عنه، ان يدافع هو عنا، فمقوماته الدفاعية الانسانية المتفوقة لا تزال حية فيه لمن أراد ان يقطف ثمارها ويستمتع بتذوقها ويمنح الآخرين من عطائها وتسامحها ورحمتها ومحبتها، وقد انقلبت على ايدينا الى قسوة وتطرف وتعصب اعمى وحروب ضد انفسنا وحروب ضد الآخرين، ولا نزال نصر على اننا مسلمون حقيقيون!! "انكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم"، هكذا أوصانا نبي الاسلام صاحب الخلق العظيم، وكأنه رأى بعيني نبوته كيف يحاول بعض العرب اليوم ان يستغنوا بأموالهم عن أخلاقهم، وكأن المال هو الطريق الى تلميع صورتنا امام الآخرين، واذا بالمال بين أيدينا يصبح وسيلة اكثر منه غاية، بل يصبح اداة للتدمير بدلاً من ان يكون اداة للبناء، وهكذا اتاحت بعض القوانين العربية الفرصة لكثير من أبنائها ان يضعوا كرسياً على ابواب عماراتهم الشاهقة يسبحون الله، ان سبحوه، ثم لا شيء اكثر من ذلك، فلم العمل والكدح والجهاد من اجل العيش واعالة الأسرة ما دام القانون يتيح لي ان اتقاضى "مكوساً" على أي عمل يمارسه باسمي ذلك الغريب او الضيف في بلدي، فليعمل الآخرون لأقبض انا!! وهكذا فرغنا الدين من محتواه العملي لنوجد طبقة خطيرة من العاطلين الكسالى الذين يعيشون عالة على الآخرين، فيكونوا خلية سرطان قاتل في مجتمعهم بدلاً من ان يكونوا خلية نحل تغلي بالعمل والنشاط والانتاج والبناء. وبعد كل ذلك نقول: إننا مسلمون حقيقيون!! الرحمة للإسلام مما الصقنا به من تهم. من يصدق اننا بتنا نستعين بالغرب حتى ننظف شوارعنا؟! نعم، كلنا يعرف ان بعض اقطارنا العربية اسندت مهمة تنظيف شوارعها الى شركات اجنبية، فالمواطن العربي اصبح عاجزاً حتى عن تنظيف نفسه، انه لا يزال دون السن التي تسمح له بالعناية بنفسه، وكيف يتعلم ذلك وهو منذ ولد لا يزال مسمراً على ذلك الكرسي على باب احدى عماراته الشاهقة يسبح الله، ان كان يسبحه… ثم بعد ذلك نصر ونقول: اننا مسلمون حقيقيون!! انظر الى الحجاب الاسلامي وقد غزا بيوتنا والحمد لله، فارتفعت نسبة الحجاب في بعض الاقطار العربية خلال العقود الثلاثة الاخيرة من 5 في المئة، وربما من لا شيء تقريباً، الى 95 في المئة بين فتياتنا ونسائنا، ولكن كم من هؤلاء التزمن حقاً بشروط الحجاب الاسلامي، فلم يخرجن باللباس الضيق الذي يتفوق في ضيقه احياناً حتى على لباس غير المحجبات، ولم يظهرن بالزينة العجيبة و"الماكياجات" التي ينافسن بها اشهر الممثلات، والتزمن في الطريق بالسلوك اللائق الذي ينسجم مع قداسة الحجاب وطهارته؟ اين العربية من كل ذلك، وأين كتاب العربية الأول: القرآن الكريم، من كل هذا الجهل، بما تضمنه من حكمة وعقلانية وواقعية ومنطق؟ واين الحكمة النبوية الرائعة كما تتمثل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي نصوص احاديثه الشريفة، وقد نبذناها وراءنا، أو قرأناها فلم نفهمها ولم نتمثلها فظلت معلبة في الكتب ومجموعات الحديث الشريف بعيداً عن عقولنا وممارساتنا اليومية، وحجبناها عن أعين العالم بتصرفاتنا المخالفة لروحها، حتى باتوا هناك يظنون ان ما نقوم به هو الاسلام، والاسلام ورسوله منا براء، ثم ما نزال نصر ونقول: اننا مسلمون!! انه نداء اوجهه لكل مخلص مؤمن من ابناء امتنا، وهم كثيرون والحمد لله، ولا سيما اولئك الذين منحهم الله من المال او المنصب او القوة ما يستطيعون به ان يفعلوا شيئاً، من اصدار صحيفة، او افتتاح قناة فضائية، أو تأسيس معهد تربوي، او انشاء دار لاصدار الكتب التعليمية ومجلات الشباب وانتاج الوسائل التعليمية السمعية والبصرية، اناشدهم ان يتحركوا الآن، فهذا وقت التحرك لمن شاء ان يقدم لأمته شيئاً، ولنفسه، ولله، وللانسانية. * كاتبة سعودية.