ما زالت نفوسنا تتألم من هول فاجعة احتلال وتدمير العراق، وبالتالي قد نحتاج الى وقت أطول كي نتمكن من دراسة دقائق المسألة بما فيها من رفع الستار عن حقائق مؤلمة وما يستوجبه ذلك من برودة دم وجو هادئ رصين. لكن أصواتاً عدة بدأت ترتفع منادية بالبحث في اسباب هذه المأساة وبصفة أعم أسباب الحالة المزرية التي وصل اليها العجز العربي والبحث في طرق أنجع لرفع المظالم عن الشعوب العربية. ان الحرب التي شنتها الإدارة الاميركية بإعانة الحكومة البريطانية على العراق الشقيق كانت حرباً عدوانية تألمنا منها جميعاً كبشر وكعرب في الوقت نفسه. تألمنا كبشر لأنها كانت، موضوعياً، حرباً ظالمة، اذ كانت كل تعليلاتها واهية. ادعوا انهم جاؤوا لحجز وتدمير أسلحة الدمار الشامل على رغم انها لم تكن موجودة ولم يجدوا الى الآن أي أثر لها. أي أنهم خسروا الحرب معنوياً. اتهموا النظام العراقي بالتواطؤ مع "القاعدة" في حين ان الهوة عميقة بين الفلسفة البعثية شبه العلمانية من ناحية والأصولية الاسلامية من ناحية اخرى. وهو ما جعل الحيلة لا تنطلي على أحد. ادعوا أخيراً أنهم جاؤوا لتحرير الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام حسين وهو ادعاء باطل لأنهم لم يبرروا انتقاءهم لصدام من دون كل القادة الديكتاتوريين في العالم. وتألمت البشرية قاطبة من تهميش الأممالمتحدة، هذه المنظمة التي كانت محط آمال كل أحباء السلام في العالم. وتألمنا كعرب وكمسلمين لأن كل عربي وكل مسلم يهتم بما يجري لكل عربي وكل مسلم في العالم بحكم الأخوة في الدين أو في اللغة والحضارة. لقد كانت بغداد في وقت من الأوقات عاصمة العالم المتحضر ومحط أنظار كل العلماء من فلاسفة وأطباء ورياضيين وفلكيين وغيرهم. ولذا لا يمكن لأي عربي أو مسلم إلا ان تهتز نفسه لشدة الصدمة وهول الفاجعة حين يسمع بغزو بغداد وتهديم مبانيها ونهب متاحفها ومكتباتها. عند اندلاع الحرب كنت على يقين من غلبة الاميركان في آخر الأمر لأن ميزان القوى هو أبعد ما يكون عن التكافؤ. لكنني أملت في مقاومة طويلة. لقد تحدث البعض عن حرب فيتنام وعن معركة ستاليننغراد، ولم أذهب الى هذا الحد لوجود فوارق عدة. ففيتنام كانت متكئة على الصين الشعبية التي كانت تمدها بالسلاح والعتاد عملاً بسياساتها آنذاك، بينما كانت علاقات النظام العراقي متوترة مع كل الجيران. وكانت ستاليننغراد مؤطرة من طرف الحزب الشيوعي الذي، على رغم ديكتاتورية ستالين وطغيانه الشخصي، كان حزباً قد انجز بعض وعوده وبالتالي كانت له مصداقية نسبية لدى الجماهير الشعبية، بينما لم ينجز حزب البعث العراقي أي وعد من وعوده وتحول بعد اكثر من 40 سنة من الحكم المطلق الى حزب يسبح في فلك شخص هو صدام وأبناؤه وأصهاره وأبناء عمه وبقية أفراد عائلته ووجهاء تكريت مسقط رأسه، وقد ملئت حاشيته بالانتهازيين والمرتزقة، وهي ظاهرة نجدها في كل الديكتاتوريات مهما اختلف الزمان والمكان. لم أحلم حينئذ بأن يسقط الجنود الاميركان في المستنقع الفيتنامي ولا بأن يكون لهم مصير القوات النازية في ساليننغراد. ولكن كنت آمل في مقاومة بطولية حقيقية تدوم بضعة اشهر وان لا تكون الخسائر الهائلة من جانب واحد وان لا تنهار بغداد بهذه السهولة المزرية. والآن وقد وقع ما وقع، علينا ان نقف وقفة تأمل لمحاولة البحث في أسباب هذه الهزيمة النكراء، بل في اسباب كل هزائمنا التي قلما تجاسرنا على تعليلها وتفسيرها. هزيمة 1948: تغلبت عصابات صهيونية مسلحة على جيوش نظامية تابعة لدول عربية عدة مستقلة، فجاء عبدالناصر بعد أربع سنوات متهماً الأنظمة بأنها زودت جيوشها بالسلاح الفاسد ووعد بأخذ الثأر وتحرير فلسطين. هزيمة 1956: اخترق الجيش الاسرائيلي الحدود المصرية ووصل بعد اسبوع واحد الى قناة السويس مما اعطى التعلة للجيش الفرنسي والانكليزي لاحتلال القناة. فقيل هو عدوان ثلاثي، وهذا صحيح، لكن انهزام الجيش المصري أمام الجيش الاسرائيلي في الاسبوع الأول يبقى مفتقداً لتفسير مقنع. هزيمة 1967: فسرت بأن الدفاع المضاد للطائرات كان ينتظر الطيران الاسرائيلي من الشرق فجاء من الغرب. ثم جاءت هزائم 1973 و1982 و1991 و2003. وأكاد أسمع أصواتاً تريد الاحتجاج على الجلد الذاتي أو الخطاب الانهزامي، لكنني أفضل التحليل الواقعي الرصين وتغليب العقل على العاطفة. ان القاسم المشترك بين كل الجيوش التي أوقعت بنا كل هذه الهزائم انها نابعة من مجتمعات متقدمة متحضرة، بينما جيوشنا نابعة من مجتمعات تقليدية متخلفة. ولا يمكن لناطحات السحاب ان تشيد على الرمل. ان أردنا لأنفسنا أن نتقدم تقدماً حقيقياً لا نكسة بعده في الأمدين المتوسط والبعيد فإن علينا ان نبدأ من البداية. فلننطلق من نقطة البداية بكل صدق وشجاعة ودون مراوغة لنقر بالواقع المؤلم الموروث وهو ان مجتمعنا متخلف. والتخلف كل لا يتجزأ. يخطئ من يعتقد انه تقني فقط فيبدأ بتكديس الأسلحة، لأن العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية عوامل متشابكة متداخلة مرتبطة ببعضها بعضاً ولا يمكن فصل عامل عن البقية أو إبقاء عامل متخلفاً ومحاولة التقدم بالبقية. إن أكبر خطأ ارتكب منذ قرن ونصف لما بدأت نهضة العرب والمسلمين هو التفريق المفتعل الذي أراد بعضهم فرضه بين الجوانب المادية ومنها التقنيات، حيث لم يكن ممكناً انكار تأخرنا، فقُبل فيها مبدأ الاقتباس من ناحية، والجوانب المعنوية من ناحية أخرى، حيث يقع الإبقاء على تقديس التراث وتمجيد الماضي باعتبار نقده خيانة والتفريط في بعض جوانبه مساساً بالهوية. وهو ما جعلنا بعد اكثر من قرن من السؤال الجوهري الذي وضعه أجدادنا لماذا تقدموا وتأخرنا لا نتفق على جواب مقنع. ان اساس التنمية هو التنمية البشرية وقد أقر تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية في العالم العربي الذي صدر في العام الماضي، بأن العالم العربي يوجد في مؤخرة البشرية قاطبة في هذا الميدان، وان حجر الزاوية في التنمية البشرية هو تنمية الفرد وذلك أولاً بتحريره وثانياً بتربيته وتكوينه تكويناً عقلانياً. وتحرير الفرد يعني الاقلاع عن الفكرة التي غذت كل الحضارات القديمة فولدت الهياكل التقليدية من قبلية وعشائرية وما إليها. هذه الهياكل جعلت الانسان يخضع لاخلاقيات وأدبيات المجموعة، بينما لو وجد نفسه حراً طليقاً في معتقداته وفي تحديد سلوكه لتفتقت مواهبه بما يطلق العنان لاجتهاده وابتكاره. وهو أساس الفكر الخلاق المبدع الواعد بالاستنباط والاكتشاف العلمي والتقني والفني. وأول خطوة في هذا التوجه تحرير المرأة وهي نصف المجتمع، فلا مستقبل في عصرنا هذا لمجتمع يتنفس برئة واحدة أو يمشي على رجل واحدة. وهذا الواقع سيبقى قائماً ما دمنا نعتبر المرأة ربع الرجل اذا عملنا بقاعدة تعدد الزوجات، أو نصفه اذا عملنا بقواعد الإرث. ولا شك ان لهذه القواعد تأثيراً وجوبياً على العقليات العامة. أي اننا في حاجة الى ثورة ثقافية تمكننا من نبذ فكر جامد متحجر. أما التربية والتكوين فإنهما لا يستقيمان على مجرد رفع الأمية واجترار المسلمات القديمة، بل انهما يعنيان اعمال الرأي والتشبع بالفكر النقدي والاطلاع على كل ما انتجته البشرية في القرون الثلاثة الأخيرة بما فيه من علوم صلبة ونظريات علوم اجتماعية وانسانية وسياسية. وهذا التكوين يقتضي أولاً وبالذات الاهتمام بالنوعية أي بالكيف قبل الكم. والملاحظ في هذا المضمار ان التعليم في غالب البلاد الاسلامية بقي تقليدياً وان مستواه منحدر الى درجة مهولة في كل البلاد العربية، حيث ان ظاهرة التبجح بالكم وغض النظر عن الكيف اصبحت طاغية على السياسة التعليمية منذ سنين عدة وهو ما لا يبشر بأي خير. بدأت بوجوب تحرير الفرد نحو المجتمع، أي نحو عائلته وجيرانه وزملائه قبل التعرض للأوجه السياسية لأننا كثيراً ما نرفع شعارات حقوق الانسان قاصدين الديموقراطية السياسية ومتغافلين عن الأوجه الاجتماعية، وهي في مستوى الأهمية نفسه في نظري لذا جعلتها في الصدارة، ولا يعني هذا عدم الاهتمام بالجانب السياسي لمجرد اعتبار ان المناداة بالتحرر السياسي قاسم مشترك بين كل النخب في الوقت الحاضر. ولا يخفى على أحد ان لا وجود لنظام ديموقراطي في أي دولة من الدول العربية الاثنين والعشرين. هناك بعض التجارب الواعدة مثل ما يحصل في الجزائر والمغرب وغيرها وهي خطوات أولية متباطئة، أما الغالبية العريضة فهي نظم تعتمد على الحزب الواحد بنوعية النوع الصريح والنوع المنافق، وهو الحزب المهيمن الذي يحاصر كل معارضة حقيقية ويتستر تحت غطاء التعددية الكرتونية. ونظام الحزب الواحد بنوعيه يعني مجتمعاً مكبلاً يعيش تحت رقابة بوليس عيونه لا تنام يسيّره حكم فردي يصغي فيه القائد الى مصالحه الشخصية والعائلية بصفة أولية ويختار فيه حاشيته على اساس الولاء والانبطاح. فهم في غالب الأحيان وزراء النفاق والفساد وجنرالات الطاعة والارتزاق وجنود الخوف والتخويف. فلا عجب ان لا يصمد أحد من هؤلاء في بغداد مثلاً. قد يرد البعض على هذا التحليل بأن معركة العراق كانت خاسرة بغض النظر عن وجود ديموقراطية أو عدم وجودها لأن القوات الاميركية بما لديها من امكانات مادية وتقنية كانت قادرة على الغلبة، ولو ضد شعب حر ونظام يتمتع بمؤسسات ديموقراطية. وهو رد صحيح في حد ذاته، لكنه يتجاهل واجب النظر الى القضية من كامل جوانبها. فلقد كانت نقطة انطلاق الأزمة التي أدت الى عزلة العراق غزو الكويت في 1990 وهو قرار اتخذته القيادة العراقية بمعزل عن الشعب. وحتى على فرض ان الشعب العراقي كان في ما لو سئل عن رأيه قد يغتر ويوافق على هذا القرار، إلا انه ولا شك كان سيعاقب القائد الذي جر الغالبية الى هذه المغامرة وأدى قراره الى هزيمة 1991، وذلك بعدم تجديد الثقة فيه في الانتخابات التالية. والأبلغ من ذلك انه كان على صدام ان يتخلى عن الحكم من تلقاء نفسه اثر انتهاء الحرب. وهو ما فعل الضباط اليونانيون اثر عملية قبرص الفاشلة، مما سمح برجوع النظام الديموقراطي في هذا البلد من دون ثورة أو انقلاب. وكذلك الأمر في الارجنتين اثر فشل مبادرة الحرب في المالوين. عوضاً عن مثل هذا السلوك الذي يتسم بروح المسؤولية عمد صدام الى تشديد حدة ديكتاتوريته واعداد ابنيه قصي وعدي لخلافته. ما كان لكل هذا ان يحدث لو فتح نقاش شعبي حر اثر فشل مغامرة غزو الكويت. ان من خصائص الأنظمة العربية انها تمنع كل حوار حول اسباب أزمتنا وسبل الخروج منها. فخصم النظام يقتل لدى البعض ويسجن لدى البعض الآخر. والنتيجة واحدة، ولو اكتفى بعضهم بشراء الأقلام المرتزقة لتخويف أو تكفير أو سب وشتم كل معارض باستعمال العبارات البذيئة والتهم الرخيصة. وان كان ذلك لا يحبط العزائم الصادقة ولا يثني محبي وطنهم على مواصلة القيام بالواجب إلا انه ينشر الرعب والخوف لدى الكثير مما يؤدي الى تلويث الجو وجعل النقاش الهادئ البناء صعباً ان لم أقل مستحيلاً. ان التركيز على كل هذه الأولويات لا يعني تكتيف الأيدي ازاء الوضع الدولي الراهن. فاحتلال العراق يرمي الى سيطرة الولاياتالمتحدة على العالم العربي للتحكم في خيراته ولتصفية المقاومة الفلسطينية. وعلينا ان نتصدى لهذه السياسة الظالمة بعزم لا يفتر، لكن بتقييم صحيح لميزان القوى وباختيار الطريق المناسبة. والمهم قبل كل شيء ان يشرع المثقفون العرب في حوار هادئ وعميق لاتباع أحسن السبل وأقومها حتى نكون في مستوى مسؤوليتنا التاريخية.