كانت الحرب لتغيير النظام العراقي عاصفة وسريعة، إلا أن آثارها على العراق ومحيطه ستكون كبيرة وبعيدة المدى. لقد أحدثت هذه الحرب زلزالاً كبيراً سيترك آثاره المتواصلة على كل مجتمع ونظام عربي. ان ما يأتي سلسلة من المشاهدات والملاحظات على الحدث ونتائجه: - أولاً، يشهد العالم العربي حدثاً تاريخياً، وهو حدث قد لا نعرف مغزاه أو نفهم معانيه قبل مرور فترة من الوقت. ففي الخمسين عاماً الماضية أمعن العرب في بناء أنظمة ديكتاتورية، وأمعنوا ايضاً في بناء أنظمة يسيطر عليها العسكريون وسط احتقار شديد للثقافة والحرية ووسط تدن في الخدمات وفي التنمية والحقوق والتعليم الحديث. كل وعود العرب لبعضهم البعض ووعود قادتهم لشعوبهم انتهت الى فشل معزز والى معارك في الخيال. جوهر الفشل ارتبط بحب غير محدود للسلطة وكراسي الحكم التي رفضنا تدويرها، اذ ظلت حياة العرب السياسية محكومة بصراع القوة بوسائل غير شرعية مما أدى الى تدمير الحياة السياسية والاقتصاد والى تراجع العلم والمصلحة العامة في معظم بلاد العرب. ففي كل بقاع العالم تتغير السلطة بفضل عوامل انتخاب، وتتصارع النخب على كراسي الحكم من خلال صناديق الاقتراع ودور الرأي العام لا من خلال القمع أو التصفية أو الاستئثار أو المتاريس. وما النظام العراقي كما خبرناه وعرفناه في العقود القليلة الماضية إلا نتاج لهذا الوضع السلبي الشديد التعقيد. فهو تعبير عن الجمود العربي الأوسع في أعمق أبعاده. - ثانياً، ان سقوط النظام العراقي هو سقوط لأحد أشد العقد صعوبة في العالم العربي، وهو سقوط لأحد أكثر الأنظمة تحجراً في واحدة من أكثر الدول والشعوب العربية اهمية وقيمة. فالعراق وثرواته والعراق وتنوعه والعراق وطبيعة سكانه يشكلون عناصر قوة اساسية من الصعب تناغمها في أي دولة عربية اخرى. كما ان جغرافية العراق فيها ذلك الأساس الذي يزيد من قيمة العراق. فالعراق يجاور كلاً من تركيا وايران وسورية والأردن والسعودية والكويت، وهو بالتالي جار لأهم الأقاليم غير العربية في منطقة الشرق الأوسط، وجار لمنطقة الخليج ولبلاد الشام في الوقت نفسه. ان العراق في قلب العالم العربي وعلى حدوده ووسط عواصفه وتنوعه وثرواته. وهذا في حد ذاته يجعل التغيير في العراق فرصة كبيرة للتغيير الأوسع في العالم العربي على المدى البعيد والمتوسط وليس بالضرورة على المدى القصير. - ثالثاً، في الوقت نفسه، يعكس سقوط النظام في العراق تحرر شعب من نظام أمعن في التصفيات الجماعية، ويعكس بداية استعادة العراقيين لأساسيات العمل السياسي والنقابي بعد طول غياب. العراق الذي كان في عهود قديمة مركزاً للحركات السياسية العربية أكانت قومية أم وطنية عراقية أم دينية عاش حال انفصال عن الشأن السياسي والعام دامت عشرات السنين. العراق القديم الذي كان مركز الحركات السياسية في الشارع وخارجه، وكان مركزاً لإنتاج النخب الشعرية والفكرية العربية هو العراق ذاته الذي يبحث اليوم عن وجوده. وفي هذا البحث الكثير من الاضطراب الممزوج بالألم والفوضى. - رابعاً، وفي سقوط النظام في العراق سقوط شامل لمنهج في التفكير وطريقة في الحكم منتشرة في العالم العربي. ففي هذه الأحداث كانت القيادة العراقية في الميزان، تقود العرب في خط مليء بالوعود التي لا تقدر على تلبيتها أو تجسيد الحد الأدنى منها. فمن ذا الذي يدافع عن نظام يقتل الحياة ولا يمتلك قضية سوى تلك المرتبطة بالدفاع عن أفراد وسيطرتهم على السلطة؟ ففي بيروت في العام 1982 قاتلت جماعات متفرقة من الميليشيا اللبنانية الشعبية والفلسطينية مع منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تكن تمتلك أياً من الامكانات التي يمتلكها الحرس الجمهوري أو "فدائيو صدام" لمدة ثلاثة شهور كاملة دفاعاً عن مدينة بيروت، وفي هذا شتان ما بين الاثنين. ومع سقوط بغداد سقط العرب ثانية في امتحان جديد حول علاقة الشعب والأفراد وحرياتهم الوطنية وقيمتها وتعبيراتها الجماعية. مع سقوط بغداد سقط نمط من القومية المعادية للذات والتي تقوم على الاستقواء والتعالي ومصادرة حقوق الناس والمجتمع. مع سقوط بغداد سقوط لمنهج شامل يعم دول العرب ويعم ثقافتهم. الحالة العراقية هي في جوهرها مرآة أمينة للحالة العربية وعدم فهمهما للغة الحسابات والتوازنات والعلم وارتباط ذلك بلغة الحريات وتنوع الآراء وحق التقدم والتطور. - خامساً، في هذه الهزة الكبيرة واجهنا اعلام عربي سيطر عليه شبح أحمد سعيد الذي عرفه العرب من خلال "صوت العرب" في القاهرة قبل حرب 1967، والذي أشاع بين العرب حالاً من الثقة الخيالية من خلال لغة المبالغة في هزم اسرائيل، بينما كانت ثلاث دول عربية تمنى بهزيمة عسكرية مدوية. في هذه الحرب الجديدة حول العراق قامت الكثير من الفضائيات العربية الشارع العربي نحو حلقة من التضليل تناغمت مع تلك التي قدمها الوزير الصحاف. برز الكثير من الفضائيات العربية من خلال رفضها لاستقالة الرئيس العراقي أو عدم تبنيها لخط يقود لخروجه المبكر وكأنها المدافع عن استمرار العقوبات على الشعب العراقي واستمرار حال العنف التي يمارسها النظام العراقي. كما ان الكثير منها حاول اعطاء المعركة صفة وطنية بينما حقيقة الأوضاع في العراق وحقيقة مواقف الشعب العراقي تختلف عن تلك التصورات. كما أنها في استبعاد الآراء الاخرى تجنت على الحقيقة وضللت الجمهور العربي الأوسع الذي كان يعقد آمالاً كبيرة على نتائج تلك الحرب. - سادساً، الحال في العراق تذكر اليوم بالتطورات بعد سقوط نظام الشاه بأيام وبعد سقوط جدار برلين وسقوط كل جدار قام على عنف التسلط. وعلى رغم ان فعل السقوط تم بأيد خارجية، إلا انه يبقى بنتائجه وتفاعلاته المقبلة متأثراً بحدة نضوج حال الرفض للنظام العراقي الذي لم يستند اساساً إلا على القوة والطائفية لترتيب شؤون بقائه. في هذا السقوط يرتبك الناس من جراء الفراغ الذي يتفتح امامهم، ففجأة يختفي الزعيم الذي ملأ حياتهم واغانيهم وثقافتهم ومنازلهم واعمالهم وسماءهم وأرضهم، ويختفي الزعيم الذي أخافهم من كل شيء حتى من انفسهم. فسقوط الديكتاتورية هو سقوط لكل ما أخذته الديكتاتورية منهم وهو عودة لكل أنواع الحياة التي غابت. وتبدأ الناس بعدما فجعت بالبحث عن الذي أعدم ابناءهم وخطف اسرهم وسجنهم. وتبدأ بعد ذلك رحلة بحث اعمق: عن كل ما حرمت منه الناس وعن كل ما سرق منها وأخذ منها بالقوة والتعالي. خلال ايام تنتشر عشرات الأحزاب وتؤسس صحف جديدة لا حد لها ولا حصر، وربما تبدأ بعض الاذاعات المحلية، وخلال أيام تنطلق الناس في خطب في كل مكان، ويستعيد الجامع كما تستعيد الحسينية دورها كما يستعيد العلماء أكانوا علماء علم أم علماء دين موقعهم الاجتماعي، ويستعيد المفكر وصاحب القدرة التجارية مكانته. الحال في العراق هي تلك الاستعادة للماضي وتلك العودة الى الحياة والمجتمع، وذلك البحث عن المفقود وعن تلك الحياة التي اختزلتها الديكتاتورية وهمشتها. - سابعاً، بطبيعة الحال يسود بحث العراقيين عن المستقبل وسط الركام الكثير من الفوضى والشك، وستحاول في الوقت نفسه كل القوى القديمة والجديدة ان تتصارع على ملء الفراغ. انه الفراغ ذاته الذي ملأته القوى المحافظة بعد الثورة الايرانية والذي أدى الى خروج مدرسة بني صدر الاسلامية من الحكم. وهو الفراغ ذاته الذي ملأته القوى الليبرالية أو القوى القومية في أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية، وهو فراغ يجب ان تملأه في العراق الديموقراطية كوسيلة وذلك خوفاً من ان تملأه القوى ذاتها التي أدت بالعراق في السابق الى التهلكة والدمار. إنه صراع لا حدود له سوى الحدود التي ترسمها القوى السياسية والاجتماعية والدينية المتصارعة، وهو صراع لا تضبطه التحليلات السياسية كما وتتحكم في ابعاده العاطفة الجياشة. العراقيون سيمرون بهذه المرحلة التي يجب ان تساعدهم على فرز اوضاعهم وضبط تطورهم السياسي وارساء نظامهم الجديد. ومهما بلغت حدة الاختلاف العراقي - العراقي، من الضروري مساعدة العراقيين على ان يبقى العراق موحداً، وان يحتكم الى صيغ سلمية في الصراع بين الفئات والجماعات السياسية الجديد منها والقديم. - ثامناً، ان الدرس الذي تعلمته اليابان من صراعها وعسكريتها التي سادت النصف الأول من القرن العشرين كان في غاية الأهمية، فاليابان هي الاخرى قبل الحرب العالمية الثانية اعتنقت عقيدة قتالية واخرى استشهادية وثالثة تسليحية. ولكنها دفعت ثمناً كبيراً من جراء سوء قراءتها للتاريخ والواقع وموازين القوى، فقد ابيد معظم المدن اليابانية، وقتل ملايين اليابانيين قبل ان تقع في صفوفهم صحوة مضادة. فقد انطلقت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية باتجاه هدم الروح العسكرية وذلك لمصلحة الروح التنافسية ومهارة الانتاج وحب العمل والعلم. لقد انطلقت اليابان من سياسة شن الحروب واعتبار "السلاح زينة الرجال" الى الابتعاد عن الحروب واعتبار العلم "زينة الازدهار". - تاسعاً، اسئلة كثيرة تأتي مع هذه الحرب، فهل تتعلم بقية الدول العربية التي تقدس السلام وتمارس الكثير من القمع بحق مجتمعاتها وشعوبها من هذه التجربة؟ وهل تستطيع الدول التي لا تمارس الاصلاح والديموقراطية والتي تلغي الثقافة ونواميس الاقتصاد بأن تبقى على حالها من دون اصلاحات وتغيرات وتجديد؟ وهل تقبل المجتمعات العربية بأن تحكم بشعارات بينما تحرم من الخبز والحقوق وأسس الحرية والاحترام؟ بمعنى آخر، ان ما وقع في العراق سيغير العراق، ولكن ما وقع في العراق سيترك آثاره على الحرس القديم في كل بقاع العرب. ان المهمة اليوم هي في استعادة العراقيين للعراق، وفي عودة العراق الى نفسه. ان هذه العودة يجب ان تكون المدخل لعودة العرب الى ذاتهم واستعادتهم روح الاصلاح والنقد التي فقدوها منذ زمن بعيد. * استاذ قسم العلوم السياسية، رئيس الجامعة الاميركية في الكويت تحت الانشاء.