ممثلون؟ نعم ممثلون منذ البداية. وقد يكونون في الأصل ممثلَين يعرفان ويكملان بعضهما بعضاً... ويتفقان في أداء اللعبة المسرحية بإخراج براعته إخفاء أي أثر للنفاق والغش بخلق سياق يمحو أي أثر نافر فيه... والمسرحية طويلة متعبة، ولكن ممتعة ومورِّطة، كثيرة الفصول في فصل واحد يبدأ من إيهام لينتهي في إبهام، يتمشهد بتناوب "الياء" و"الباء" طائرات ودبابات وجنوداً مُتَكْنَجين بأكسسوارات بشرية يتم اشهارها وإخفاؤها على الروافع الخلفية للديكورات المتحركة حيث يتحوّل الركح الى مسرح دمى بالكامل. والمسرح، بديكوراته وأدواته الإشهارية العسكرية وحتى الفولكلورية، يُديره ويوجهه الى هدفه، معه أو ضده، محرك أوحد. وأخطر ما في اللعبة وأمتع أنه محرّك "ظاهر" يجهله ضده. والمسرح كنصّه طويل - عريض قد يمتدّ من أميركا الى العراق وجواراته لواحق وسوابق... ممثلون؟ نعم - هكذا على الأقل نشعر ونُحس ونصرخ مُيَأسين بالمعرفة الجارحة لأدوات بثّنا وبثّهم بتلقين أحادي النتيجة، حتى ولو ظهر في قناعات بعضه متعدداً، لأن كل منسوب أعلى للمعرفة يعني تعذيباً أكثر وعذاباً أشدّ لصاحبه قد يبلغ به تدمير الجسد والحركة والإيماءة في كل حيّز من المساحة - المسرحية المتاحة، مفرقاً أو جسراً أو مجالاً في النخيل والصحراء، وأعني اختصاراً تدمير الطاقة المعرفية للاستخلاصات المؤكدة في خلاصات الأحداث وعيناتها الكارثية، أو الملحقة بها في خلاصات الجدال الحاد الجَلْد الحاد بين الذات وذاتها إذا صح التعبير الفلسفي هنا في حال ذاتية - جماعية، لا سوسيولوجية ولا نفسية ولا أخلاقية، ندّعي فيها عربياً وعي السوسيولوجي والنفسي والأخلاقي. نعم ممثلون أمامنا قد يخدعوننا قصفاً بلغة الحوار السجالي المتبادل، المتعادل؟ بل غالباً اللامتكافئ إلا في التصريخ والتغضيب. اللغة التي كُتبت لكي تُمثّل من جانب أشخاص يحاولون، بل دورهم، أن ينجحوا تماماً في جعلها أكثر من لغتهم ولهجتهم بارعين في إلغاء مسافة الشك بين "أم قصر" و"أبو سنبل" مثلاً بين ممثل النص والنص الذي هو كاتبه. والمدهش في نهاية مبهمة انك تكتشف في اللحظات الكارثية الأخيرة، واضعاً يدك وعينيك على حقيقة تعيسة، ان الممثلين غالباً في هذه الصالة الكونية الوسيعة، الكارثية بالذات هم أصحاب النص الذي يحاول وينجح في اقناعنا بأن الأحداث ذات منبعين واتجاهين متصارعين أو أكثر، بينما هي في الحقيقة ذات منبع واتجاه واحد: إقناعنا بالأحداث الواضحة للسيناريو المعقد قصداً ان هذا السيناريو ليس أصحابه الممثلين في الصالة الكونية المتفرّجة معنا، أفكاراً وعواطف وثرثرات مطلوبة كأكسسوارات تبليغية نفسانية في خطابات البث والاستقبال. انها قاعة الأمم والشعوب المملوءة حتى التخمة ب"جماهير" بدأت منذ القرن 18 تحضر وتشاهد بأعدادها الرومانسية الهائلة ولا نقول قطعانها ورعاتها، عيوناً صاغية وآذاناً رائية، النصوص العسكرية تلك الممسرحة خصيصاً لأحالمها المعاقة منذ السيد نابوليون الانكليزي الأميركي قبل الفرنسي والإسلامي الأعجمي قبل العربي، ومنذ السادة ممثليه وعملائه، إخراجاً وتمثيلاً وسينوغرافيا وديكورات لحم حيّ معروضة لا للدروس الأخلاقية الاجتماعية وحسب بل أيضاً للمتعة السمعية بداية من أواخر القرن المذكور، وللمتعة البصرية - السمعية بدءاً من اللحظة الأولى للألفية الجديدة: تلك "الطفلة" الصغيرة الرافعة اليدين ارتجافاً وركوعاً كجميع أفراد عائلتها أمام "المحررين أعداء الإرهاب"... حيث تندلع فجأة في المشهد الديموقراطي الممتد أشباح وأرواح أيقظت قوة السلب والنهب من أحداث تاريخ جاهلي تيمورلنكي مقبور في اللاوعي ومنهور في المزالق، مغتصَب بالفتح لأنه مغتصِب بالكسر... والفتح والكسر هما حركتا النص/ النصر الثاوي، اللتان ستتكرران في مسرحيات لاحقة بتقديم الواحد وتأخير الآخر في "حرب مجتمع المشهد" عبر البث الحي المباشر بالكاميرا وروبوتها الإنساني المحلوم بالعين المفتوحة. ممثلون؟ نعم، و"جماهير" مسرح وطني - قومي - إنساني؟ أية جماهير؟ بقايا كلمة عاطفية منسوخة بالشاي المخفف لا بالحبر المكثف، رومانسية متقاعدة دخلنا بها يأسنا ولم نخرج منه أمام قدر السلطان العثماني الفارسي العربي بامتياز الفاتح فينا حتى أسوار فيينا يا ويل لو اخترقها. نعم يأسنا وأيضاً بؤسنا أمام قدر المكتوب على الجبين اللازم ان تراه العين تلك الثرثارة هي أيضاً أمام مصارعة الأحناك بالأحناك والجلادين المتحاورين بالجلادين، منذ السيد معاوية وأصهرته وبطونه وأفخاذه وذويه من زياد الى الحجاج المتبارك من تلمُّسه وابن تاشفين لئلا ننسى أندلسنا الغالية مفتوحة - مكسورة...، الى أولاد أمجد وأحمد وفرقد وسواهم كثير كما يورد ابن خلدون نقلاً عن ابن هشام والطبري والمسعودي وابن عساكر وأزود من ثلاثة عشر "زرنيخاً" بارعاً من كُتّاب الأنساب وسير القرامطة والحشاشين والجزارين... الخ. نعم بؤسنا ويأسنا الرومانسيين أمام قدر نحن صنّعناه وسلّطناه وقدّرناه وسيّدناه علينا. قدر لا نعرف منه مهرباً إلا إليه واتكاء إلا عليه، سلطاناً نعمّره بتَمْرنا الحديث وتيننا المعاصر وعنبنا المُصبّر لا لنأكله وقت الحاجة كأسلافنا بل لنُؤسطره علناً ونُدستره انتخاباً وديموقراطية وحرية حاكماً وحكماً مؤبداً ونرفع اسمه في أعلى ناقة شجرة العائلة... نحن جماهير المعتصم بالله والمقتدر بالله والمعتضد والمعتمد والواثق إلخ بالله حتى الحاكم بأمر الله، متفاصحين على الشاشات متشدقين على الآخر بالتناطح والتماضع مفتخرين مدعين حتى بتفوّق تكنولوجيا السلف، متناسين أنه إذا كان أجدادنا "قبل ألف سنة" أفضل منا "بعد ألف سنة" فبئس الأحفاد و... بئس الأجداد: "شعبي هو المسؤول وليس سلاطينه" / عرّابي... ممثلون أخيراً: نعم... فاشلون في تمثيلنا؟ نعم إنه ال"هو" و"ظله". اثنان على المسرح: الخائن في السلطان والخائن في الإنسان. كيف؟ لا أعرف كيف، حيث أدّعي انني أحسست وشعرت ورأيت وسمعت ومتُّ... وعشتُ منذ أشباح تلك الأفعى الجاحظية، التي تنساب نحو جنوب هذا الجسد المتعكز على صحارى وحواضر برأس، وتشدّ بعكسها نحو مدن الأطراف برأس. وعيني عينان للدمعة ونقطة الحبر وأعني عيني ذات العينين اللتين تشاهدان وتشعران وتسمعان لا لشيء الا لتصمتا مثلي. نعم الصمت الوسيع. مسرحٌ للصمت. إبداعُهُ نصه المصمّت؟ بلى. فالصمت ما تلزمه هذه اللغة الغزيرة الحكي وهذا التاريخ الكثير الكلام والطعنات والإبادات غير الضرورية، وهل أقول هذه الأمة البارعة بثرثرة الأحياء - الأموات على هواها وهوى سواها. بل هذا المسرح الفارغ، منذ مئات المجازر والتصفيات، إلا من الممثلين الدائمين.