مع اندلاع "انتفاضة الأقصى" وتزايد حدة العنف الاسرائيلي ضد الفلسطينيين، ثم مع اندلاع الحرب ضد العراق "اندلعت" موجات من الأغاني السياسية بأصوات فناني موجة الشباب في الدول العربية من دون أن تترك أثراً كبيراً في المستمعين. "الحياة" تفتح ملف الأغنية السياسية أو بتعبير أصح الأغنية الملتزمة، وتحاور في بيروت روادها الذين التزموا القضايا السياسية العربية والإنسانية، والحلقة الأولى مع الفنان اللبناني مارسيل خليفة. منذ سنتين تتجول في أوروبا وأميركا وأفريقيا، لنشر تجربتك على رغم استحالة الأشياء في الزمن الصعب. - من خلال الموسيقى والأغنية، يطرح خليفة الاسئلة التي تؤرقه كإنسان عربي ينوء بالهمّ العام ويحاول ان يكون مشاركاً ومنفعلاً ومتفاعلاً على طريقته مع ما يجري على الساحة العربية، ومع كل ما ينال ابناءها من تمزق. من هذا المنطلق يؤلف خليفة الموسيقى، يعزفها ويغنيها لكي يرى، ويجعل غيره يشاركه الرؤية، وهكذا يتحقق الهدف. كيف تواصل العمل في ظل الهزائم المتلاحقة معنوياً وعسكرياً؟ - انتهيت من تسجيل عمل موسيقي جديد تحت عنوان "مداعبة"، يحاور فيه العود البيانو والكونترباص والايقاع. شعور حاد بواجب ثقافي أصيل تجاه تراثنا الموسيقي وحاجته الى التجرد الخلاق. استأنف في كل عمل جديد ذلك الرحيل الشاق نحو البحث عن ضفاف اخرى ومفردات للتعبير عن العالم، والذاكرة والأنا الفردية والجماعية، باحثاً عن نقطة ضوء لبداية تتجدد. والمداعبة الموسيقية هذه، ارتماء طفولي في حضن الذاكرة واحتجاج على فساد اشياء العالم، غضب عاصف على آثام الحرب، وتورط صاخب في الحب. المهمة صعبة، بعد "جدل" و"كونشيرتو الاندلس"، واليوم "مداعبة". أحاول الانفتاح من خلال الموسيقى والكلمات، على أرض غير مألوفة، انطلاقاً من المألوف، عبر البحث عن طريق للجمال المتجدد وليس الاكتفاء بجمال منجز. تحدثت منذ سنوات عن عمل موسيقي عنوانه "الجسد"، لكننا لم نستمع اليه بعد... - لا تقلقي، سأقدم على الاعتراف بالحب! لا بد من ان نقول شيئاً مغايراً لما سمعناه من الاغنية العاطفية العربية. حتى لو منعوه فسيصل الى الناس على رغم هذا التأخير الحاصل مهما وضعت في وجهه السدود. والجسد مؤجل منذ سنوات بسبب ضيق الرقابة العربية، سأدخل الجسد الطالع من لهفة الحب بحنان. لعبت دوراً مهماً في تأسيس الاغنية "الملتزمة أو السياسية". كيف تعرّف هذه الاغنية، أين هي اليوم، أين هو جمهورها؟ - منذ البداية، لم تكن الاغنية عندي الا محاولة تحررنا من العبارات التي تثقل كاهلنا يومياً، وبعبارة اخرى الاغنية هي جعل الكلمات ترقص من دون توقف، هي ان نتعلم من جديد التعامل مع الألفاظ، في حين ان الخطاب السياسي الذي نسمعه يستخدم الألفاظ كهراوات نضرب بها الاغنية. انها عمل سياسي بالمعنى النبيل للكلمة، اي فعل دفاعي لاستقلالية الفرد عن السلطة. وبالعودة الى منتصف السبعينات في بيروت، عندما فار المجتمع وشعر الناس برغبة شديدة في الحياة، واندلعت تساؤلات جديدة في المسائل الثقافية، وكان الزمن زمن التجارب والبحث عن صيغة جديدة تصلح بين الثقافة والحياة، بين الفنون ولغة الناس، انتشر الانفعال الى شتى المجالات: الموسيقى، الاغنية، المسرح، الشعر والرسم. تشكلت المجموعات واجتمع الافراد الذين دفعتهم الحاجة الى التعبير والرغبة المشتركة، مع التخلص من سلطان الاشكال السائدة. مجموعة هذه التجارب المتداخلة، ساهمت في خلق مناخ خصب للغاية، وكان الهدف تطوير الاغنية والموسيقى، باختراق الذوق السائد وهي بحدّ ذاتها مسألة كفاحية. ويتطلب العصر الراهن من الموسيقي ان يشترك مع الدوران المدهش الذي يحدث للعالم، لكي يتمكن من الاجابة عن الاسئلة المطروحة والتعبير عن قضايا العالم. ففي كل مرحلة تنحسر اشكال ومضامين وتولد اخرى. هناك اسئلة يطرحها الناس، وهذه الاسئلة موجودة في حركة المجتمع الضخمة وعلى الفنان ان يخلق عندها الحوافز، ان يمسك لغة جديدة توصله الى وعي هذه الحركة. الناس في حاجة اليوم الى الخبز والورد والحب، الى النموذج من مستنقعات التخلف والقهر والقمع والكبت والبؤس واليأس والنقص الكبير في الحرية. هذه معضلات وقضايا انسانية ليس مقبولاً لصانع الموسيقى او الاغنية التفرج عليها، وعليه ان يخلق الحوافز التي تؤدي الى تغيير الواقع، وهنا يكمن دور النص ان كان موسيقياً او غنائياً. فما قيمة النص اذا لم يكن مخلصاً لقضية تحرير الانسان؟ لماذا هذا الغياب لرواد هذه الاغنية اليوم؟ وهل هو الاعتماد على امجاد الاغاني السابقة. - تعبت من هذه التسميات ومللتها. حتى في سؤالك السابق عن اغنية ملتزمة او سياسية، نسيتِ تسميات اخرى مثل فنان الغزل او فنان الحماسة او الفخر او الجهاد او الى ما ذلك... ما قيمة المبدع عندما تريده الفضائيات ان يكون كما تريده هي، والى اي حد يستطيع ان يلبي رغباتها من دون ان ينتقص ذلك من تجرده الفكري وحريته. كتبت موسيقى ل"أحمد العربي" و"جَدَلّ" و"للعود" و"مداعبة" للرباعي والسماع للآلات الموسيقية العربية وأحضّر اليوم "تهاليل الشرق"وسمفونية "العائد" وغنائية للأطفال والجسد وغيرها الكثير من الاغاني. الارجح ان الفنان لا يعمل من اجل الجمهور ولكنه معروض للجمهور. كل تواطؤ يقوم به الفنان مع الجمهور توازن دقيق بين ذات الفنان وذات الجمهور لا بد من العثور عليه والاهتداء به. ان كسب الجمهور هو كسب الفن. هل تحولت الاغنية "الملتزمة" الى شعارات لم تعد مجدية فقدت تأثيرها؟ - ان الصراع اليوم يزداد حدة وإن اتخذ اشكالاً مباشرة وغير مباشرة. المعادلة الاصلية ما زالت هي ذاتها: فقراء وأغنياء، حرب ذل انكسار احتلال مقاومة حب حرية ديموقراطية خبز ورد الخ.. الفضائيات التي تدخل بيوتنا تدير حرباً اعلامية دقيقة احد مفاصلها تعسفية القضايا الجوهرية وإشباع وسائل الاعلام المختلفة بكل ما يدمر القيم النبيلة ويشوهها ويحط من اذواق الناس ويصرفهم عن الاهتمام بالجمال الحقيقي. الفن الشعبي على سبيل المثال لم يعد يصنعه الناس بأنفسهم بل تصنعه مؤسسات عندها امكانات مادية كبيرة. كليبات، مسلسلات، برامج مصنوعة طبقاً لمواصفات مخبرية. وكل ما نراه ونشاهده ونسمعه لا يمت بصلة الى حياة الناس اليومية. وتلك المصنفات "الفنية" تقدم صورة خادعة عن الحياة وتستبدل العمق والبساطة اللذين تغنّى بهما سيد درويش في الشكل المبهرج والمغريات المختلفة التي تثير غرائز الناس وليس عقولهم وقلوبهم. فلنفتح عيوننا ونرَ بوضوح من يملك الثقافة الشعبية في منطقتنا ويوجهها ويفصلها على مقاسه. فضائيات ومؤسسات اعلامية، تلفزيونات، صحف ومجلات. كلها تقف عائقاً أمام الموسيقى والاغنية التي نحلم بها. ما رأيك في تحميل هذا النوع من الغناء مسؤولية تحديد هويتنا الوطنية؟ - نرفض ثقافة اميركية تريد بدورها احتلال العالم من طريق عسكرها. ان الحرب على الشعب العراقي جائرة وغير مبررة. والحرب المستمرة، وعلى مدار الساعة، حرب اسرائيل المدعومة من أميركا على الفلسطينيين. كأننا نسينا. كأن احداً لم يعد يذكرها، أو يذكر كم من الفلسطينيين يسقطون كل يوم، وكذلك عشرات الجرحى والمعتقلين والمعوقين. من ناحية اخرى، لنتحاور بعمق وبصدق عن العجز العربي، والتسلط العربي والتكاذب العربي والهدر العربي لطاقات شعوب منومة، ومجهضة القدرات الذهنية والعلمية. وربما قد يقودنا هذا الحوار الصريح الى اكتشاف طرقنا السليمة الى الحرية والديموقراطية، فنصل اليها بمبادرة ذاتية ونقطع على الاميركيين سبل الادعاء بأنهم قادمون لهدايتنا وايصالنا الى الحرية والديموقراطية، ولو بواسطة الصواريخ والمدافع والتدمير المقصود لثقافتنا وتراثنا وذاكرتنا وأرضنا. ان منطقتنا في حاجة الى الديموقراطية والحداثة والحرية. ولكن لن يكون الاميركيون واسطة التغيير. الذي يقمع الحرية هو الذي يسعى لمجد على انقاض مدينة، هي حال تتكرر دائماً في صور مختلفة، ويبقى المعنى الوحيد هو القول المختلف والجريء في القصيدة وفي الاغنية وفي الموسيقى.