يحمل الإعلان الإيطالي موهبة تتحدر من اسرة غنية في تراثها الفني والثقافي، سواء من حيث الاستخدام اللوني ام الفكرة المعبرة. وأول خيط يميز الإعلان الإيطالي هو المزج بين الدراما والكوميديا اللذين يجمعهما مصمم الإعلان الورقي او التلفزيوني في عمله. ويمتلك المجتمع الإيطالي طبيعة تنافسية حادة، بخاصة على صعيد المستوى الاقتصادي، وهذا التنافس يظهر جلياً في كل الإعلانات سواء كانت عبر وسائل سمعية ام بصرية، فثمة إعلانات ذات طبيعة خاصة، تشعر المرء بالوحشة والعزلة والعجز إزاء قوى الاحتكار وواقع التكنولوجيا المتطورة والزاحفة على كل موجودات الحياة، وهذه الإعلانات تحمل انطباعات سحرية لعالم المنافسات التجارية للسلع والأفكار، كلها مشحون بلهجة عاطفية وكأنها تريد ان تحيي في الفرد اماني عليه متابعتها واقتنائها من خلال اغراءات العين وتخدير العقل. حالياً تستغل الإعلانات براءة الأطفال وجسد المرأة الذي يصبح اكثر حضوراً من السلعة المعلن عنها بشكل يتعارض في احيان كثيرة مع انسانيتها والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي لا يزال المجتمع الإيطالي متميزاً بها من خلال تمسكه الأخلاقي والعائلي. فتحت غطاء تطور الذهنيات ومسايرة طبيعة العصر، تجد المرأة الإيطالية نفسها وكأنها سلعة إعلانية، بعض الأحيان مهذبة، وأحياناً كثيرة غبية وسهلة، إلا انها في كل الأحوال يجب ان تكون جميلة ومغرية، تكشف عن مفاتنها بعري فاضح وبطرق غير لائقة، تخدش حياء الأسرة التي تصبح مستفزة من خلال تخصيص مساحات واسعة في برامج التلفزيون وصفحات المجلات والصحف حتى لو على حساب اعصاب المشاهد او القارئ. الإعلان هنا في كثير من الأحيان يحط من قدر المرأة ويزيف واقعها ويشوه طموحاتها ويتجنب إثارة مشكلاتها الحقيقية او حتى مقاربة همومها الفعلية، انه يستخدم جسدها ديكوراً لجذب المشاهد بعيداً عما تتعرض له من قسوة وظلم وبخاصة في المناطق الجنوبية الفقيرة التي تتسم صورة المرأة فيها بالمحنة والبؤس. هنالك ازدواجية في النظر الى المرأة الإيطالية وإبرازها على شاشات التلفزة التي يطلق عليها "ضيف المساء القسري" او الإعلانات الكبيرة التي تملأ جدران المدن اضافة الى الصحافة اليومية، فهي في هذه الوسائل كلها جميلة وخارجة للتو من صالات التجميل، تعرض جسدها بترف. الإعلان له سحره، حتى على السلعة، وعلى الناس ان ينجذبوا الى هذا الاستعراض في مناسبة او في غير مناسبة، إلا ان هذا السحر التجاري المحموم نحو تحقيق الأرباح، مما يغلب على نطاق كاسح اعتبارات الرواج كيفما اتفق، يلغي كل التوازنات من اجل احياء الرغبات الشعبية ذات المستوى الأدنى من اجل ان لا تنتهك مبدأ الربح، فالناس هنا واقعون تحت غطاء التسلية الكسولة المسترخية، وهم يحلمون بالثراء والغنى والترف، يحبون التخيل الذي لا تغني العقلانية المعاصرة عن الحاجة الماسة إليه. ومن المظاهر السيئة التي بدأت تستفحل في الواقع الاجتماعي الإيطالي، ظاهرة الابتزاز الجنسي ومعاكسة النساء وزيادة العنف والعدوانية التي اصبحت بمثابة ممارسات تتعرض لها الفتيات المراهقات والنساء بشكل عام بدرجة لم تكن معهودة من قبل في ميادين العمل والدراسة والشارع، اذ تبين آخر استطلاعات الرأي التي اجرتها احدى الجامعات الإيطالية في بداية العام الحالي عن تأثير الإعلان في ازدياد السلبية السلوكية للذكور، ان ايطالية من اصل خمسة تؤكد انها واجهت حالة معاكسة جنسية اما كضحية وإما كشاهد عليها، وأن 84 في المئة من النساء العاملات هن ضحية "الابتزاز الجنسي" وأن امرأة من اصل ثلاث نساء هي ضحية اعتداء او ابتزاز او معاكسة. الإعلان اصبح اذاً سيد الموقف وأصبحت القنوات التلفزيونية خاضعة له وتفرد له مساحات واسعة بغض النظر عما يتركه من تأثير استفزازي في كثير من الأحيان لأن التعري في الإعلان اصبح غاية المعلن، في واقع لا يوجد ما يطلق عليه كما هي الحال في الكثير من بلدان العالم تسمية الرقابة. يتعامل الإعلان مع الوجوه والأجساد النسائية بهدف الإبهار والتشويق والإثارة، فالمرأة هي المصدر الدائم للفتنة والجاذبية الجنسية، كما انها تبعث على البهجة والتشويق. ومن هذا المنطق، تعامل تجار الإعلان مع قضايا المجتمع، انهم يبيعون "هواء" كما يقول العامة هنا، بتغذية احلام الشهرة والجمال المتكامل والثروة والتسلق الاجتماعي والنجومية الجنسية والابتذال. وهذا ما جعل المواطن يقع تحت النهب النفسي والعقلي والجسدي، من خلال عملية الغزو المنظم لبث قيم وعادات لا يمكن الإفلات منها في كثير من الأحيان، تبثها علبة الانعكاسات الساحرة لتخلق الإدمان والعادة، والسعي بكل الوسائل لتحقيق الهدف. الإعلان الإيطالي يكرس تبعية المرأة للرجل، ومع انها بطلة جميلة ودائماً ظل للرجل ومربية للأطفال وسجينة المطبخ وغارقة في الجو الهوليوودي، إلا انها ايضاً كما يبرزها الإعلان ساذجة، وتصلح لأن تكون سلعة للتسلية، مقطوعة من الواقع، او قطعة من الديكور المنزلي الذي يجذب المشاهد. ومجلات اليوم النسائية على العموم تحمل راية الجمال وتقديسه وتبرير رهبته. صحيح ان المجتمع الإيطالي بشكل خاص والأوروبي بشكل عام كان وما زال بحاجة الى الاحتفاء بصورة الأنثى، والحال ان صورة المرأة نصف العارية المغرية، والخاضعة كانت رمز الأنثى في الستينات ومطلع السبعينات، من القرن الماضي، إلا ان صورة المرأة، كما تمررها في الوقت الحاضر شاشات التلفزة والسينما والفيديو والصحافة بأعلى درجات الأناقة هي مزيج من العنف والمازوشية ان لم يكن الجنون، وما هو اخطر من ذلك ان وسائل الإعلام تستخدم لغة لا يفهمها الناس تمارس ضغطاً ساحراً على الجميع، وهم بكل هذا وبخاصة العديد من الشرائح النسائية الفقيرة يتحولن الى متلقيات سلبيات، اكثر استجابة لإغراءات الدعاية، لا سيما بالمستحضرات التجميلية. ويؤكد خبراء الإعلان الإيطالي ان وسائل الإعلام، ولا سيما المجلات النسائية والتلفزيون، قادرة على صنع القيم الجمالية بشكل يومي، حينما يتم وعي اسرار الجسم البشري، حركته الداخلية، انفعالاته، ونظام التغذية، والأنزيمات الفاعلة لاستمرار توازنه وتألقه، لتأتي في ما بعد الوصفات الجاهزة والإرشادات ونوادي الرشاقة ومراكز العلاج الطبيعي والمستحضرات والعمليات الجراحية التجميلية. ان الحل السحري كما يقول البيرتو سافوني مسؤول شركة إعلانات ايطالية في روما: "موجود وتفيض به الإعلانات التي يشاهدها ويطلع عليها يومياً الألوف بل الملايين، فهي تزرع الأمل حتى لدى اللواتي يعانين ضيق العيش". ويضيف سافوني الذي تعمل معه اكثر من ثلاثين عارضة "يمكن تصنيف الإعلان الإيطالي وموقفه من المرأة على النحو التالي: 1- المرأة كمحرضة. 2- المرأة كعدو للرجل تخسر على الدوام معاركها. 3- المرأة طفلة ساذجة تتسم بالبدائية إلا انها مثيرة". "ان الجاذبية التي يبنى عليها الإعلان تعتمد على الجاذبية الجنسية بكل وضوح، ولا ضير في استخدام تلك الجاذبية وأن تنتهك بين الحين و الآخر كل قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي المهذب الذي اعتدنا عليه في حياتنا اليومية وتكون اداة لمداعبة الغرائز ودغدغة الأحاسيس، وتسطيح القضايا وحتى تزييف صرامة الواقع، كي نصل في النهاية الى إشباع رغبات الجمهور المشاهد". فاتورة السلوك الحضاري الذي تريده الموضة التي يظهرها الإعلان المتفنن في استخدام آليات عرض الجسد وجعله بمثابة الميدان المفضل لدى مبدعيه في مختلف ميادين الدعايات، هي تيار جارف يعتمد على تقنيات متقدمة تضع الإيطاليين في مقدمة دول الاتحاد الأوروبي من حيث المهارة، فهو اصبح قادراً على دخول البيوت المغلقة وغرف الدراسة والكتب المدرسية ومن الصعوبة الوقوف امامه. فالقوى التي تقف وراء الإعلان مؤثرة وقوية مالياً وتقنياً ولها اهداف وغايات معينة ويديرها جيش من العاملين وتؤثر في الفرد فيصبح لا حول له ولا قوة امام إغراءاتها. الشركات الإعلانية ومن اجل مواصلة جني الأرباح الفاحشة التي تقدر موازناتها السنوية بموازنة احدى دول الشمال الافريقي، زادت في السنوات الأخيرة وبشكل كبير من حجم دور الدعاية واتساع طيفها الذي اغرق الأسواق وأمطر البيوت والمحلات بالكتيبات والصحف والرسائل والنماذج المجانية المتخصصة بالدعايات من كل صنف ولون، فالعالم يتسع ويتغير يوماً بعد آخر ولا بد للوكالات الإعلانية من ان تأخذ عملية التغير الحاصل في اعتبارها عندما تقوم برسم سياستها التجارية، وذلك بتجديد دعاياتها كي تتماشى وروح العصر، وهذا يتطلب عملية استشراف مستمرة للمستقبل القريب اي بمعنى اصح يوم غد للمساهمة في صنع ملامح هذا الغد، وهذا يتطلب ايجاد لغة اكثر ليونة وإغراء.