ألقى السفير الأردني لدى فيينا محيي الدين توق بدعوة من جامعات أميركية أخيراً محاضرتين حول سبل اعادة بناء الجامعات العراقية وتطوير الحياة الأكاديمية في هذا البلد بعد عقد من الحصار وثلاث حروب مدمرة. دعيت أخيراً لإلقاء محاضرة في اثنتين من جامعات الغرب الأوسط الأميركي حول "الآثار المحتملة للحرب على العراق والدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعات الأميركية في مساعدة الجامعات العراقية". وشاركت على هامش المحاضرة في فطور عمل لبحث موضوع الشق الثاني من محاضرتي، وهو دور الجامعات الأميركية في مساعدة الجامعات العراقية، حضره نواب لرئيس الجامعة وعمداء كليات ومسؤولون عن تطوير البرامج الدولية يتقدمهم الدكتور عبدالفتاح نور السوداني الجنسية ورئيس البرامج الدولية في جامعة "بيردو" الأميركية. لفتني حين تلقيت الدعوة أثناء اندلاع المعارك في العراق أمران، أولهما لماذا تهتم جامعة من الغرب الأوسط الأميركي بالذات بموضوع الحرب على العراق وآثارها المحتملة، خصوصاً أن هذه المنطقة معروفة بأنها موئل "المحافظين الجدد" المؤيدين في شدة للرئيس جورج بوش، وثانيهما أن جامعات في الغرب الأميركي المحافظ تريد أخذ زمام المبادرة في مساعدة الجامعات العراقية بعدما رأى الناس حجم الدمار والسلب والنهب الذي لحق بالمؤسسات الثقافية والعلمية العراقية على شاشات التلفزيونات، في وقت لم تظهر أي بادرة من الجامعات العربية أو اتحاد الجامعات العربية أو المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للبحث في هذا الأمر. وجسّد لي هذا التقصير افتقادنا في الدول العربية الى أخذ المواقف الاستباقية والمبادرة والاكتفاء بالانتظار وردود الأفعال، ليس فقط في المجالات السياسية الكبرى، بل وحتى في مجالات ضيقة ومحددة كمساعدة الجامعات العراقية وإعادة إعمار المؤسسات الثقافية. دهشت بحجم الحضور الطلابي والأكاديمي للمحاضرة في الجامعتين، وما أدهشني أكثر الموقف المنتقد للإدارة الأميركية لمعظم المتدخلين، والتعاطف مع بعض الطروحات العربية، في وقت لا يعكس الاعلام الأميركي حقيقة هذه المواقف، وبالذات الاستياء الكبير من عدم القدرة على المحافظة على الموروث الثقافي والعلمي للمتاحف والجامعات العراقية. كما لمست قدراً كبيراً من الحذر، بل والخوف، لدى بعض المثقفين من خلال ما أبدوه لي من ملاحظات بعد المحاضرتين، وفي المناسبات الاجتماعية التي سبقتهما وتلتهما. منيت المؤسسات العلمية العراقية، وعلى رأسها الجامعات، بأضرار فادحة نتيجة عمليات السلب والنهب التي أعقبت دخول القوات الأميركية بغداد، فسرقت الكتب والمراجع والدوريات ونهبت أجهزة الكومبيوتر وأدوات البحث والمختبرات والأثاث، وأحرق الكثير من الوثائق والمستندات والسجلات، ودمر بعض المباني. كما أن التقهقر الذي أصاب الجامعات العراقية في العقد الأخير نتيجة الحصار لا يقل ضرراً عن أعمال السلب والنهب والتخريب الأخيرة. اذ أن غياب الأساتذة العراقيين عن المؤتمرات العلمية الدولية وعدم تجديد الأجهزة العلمية والحواسيب وتحديث المختبرات وعدم مجاراة التطورات العلمية على الصعيد العالمي والافتقار الى الحد الأدنى من الحرية الأكاديمية وتدهور الرواتب الذي صرف الأكاديميين الى أعمال جانبية كسباً للرزق وهجرة الأدمغة من الجامعات العراقية ومراكز البحث، كل هذه الأمور أدت إلى تراجع خطير في نوعية التدريس والبحث العلمي الجامعي. لذلك، فإن الجامعات العراقية اليوم في أمسّ الحاجة إلى كل مساعدة ممكنة، ليس فقط من الجامعات الأميركية التي سترسل فريقاً إلى العراق لدرس الحاجات الأساسية، بل أيضاً من كل جامعات العالم وفي مقدمها الجامعات العربية. وهناك الكثير من أشكال المساعدة التي يمكن تقديمها لإعادة تأهيل الجامعات العراقية، إلا أنني أود التركيز على ثلاثة مبادرات أساسية هي: أولاً: ان يتولى اتحاد الجامعات العربية والاتحاد الدولي للجامعات اطلاق مبادرة "كتاب واحد من كل أستاذ جامعي" One Professor-one booK وتتمثل في أن يتبرع كل أستاذ جامعي بكتاب حديث، كل في مجال تخصصه، لإعادة إعمار المكتبات الجامعية العراقية. ومع الأخذ في الاعتبار أن هناك عشرات الآلاف من الأساتذة الجامعيين العرب، ومئات الآلاف من الأساتذة الجامعيين على المستوى الدولي، فإن مبادرة بسيطة من هذا النوع يمكن أن يكون لها أثر تراكمي هائل. ثانياً: إنشاء مركز لإعادة تأهيل الأساتذة الجامعيين العراقيين وتدريبهم. وعلى "يونيسكو" أن تبادر سريعاً الى انشاء مركز متخصص لذلك، تكون له ثلاثة فروع في الوسط والجنوب والشمال، على أن تعقد هذه المراكز دورات سريعة ومكثفة لتحديث او صقل معارف الأساتذة العراقيين ومهاراتهم. ثالثاً: تأسيس صندوق مالي لدعم الجامعات العراقية. فالعراق ليس بلداً فقيراً، إلا أن جزءاً كبيراً من أمواله سينفق على إعادة الإعمار، وسيوجه الإنفاق نحو أولويات الغذاء والدواء والتعليم الأساس والإسكان. ولسوء الحظ، كثيراً ما ينظر إلى التعليم العالي كأولوية متأخرة، إلا أن القيمة المضافة للتعليم العالي عالية جداً، وتنعكس على كل القطاعات الأخرى للمجتمع، خصوصاً إذا ما وُجه البحث العلمي نحو حاجات التنمية الملحّة. ولذا، فإن تمويل هذا الصندوق يمكن أن يتم بطرق غير تقليدية، وفي هذا المجال يمكن اتخاذ ثلاثة إجراءات لتمويل هذا الصندوق، هي: "النفط من أجل الفكر" و"ومنحة العراق" و"ضريبة العلم". ففي مجال "النفط من أجل الفكر" Oil-for thought، يطلب من الأممالمتحدة تخصيص 100 مليون دولار لهذا الصندوق من أصل الأموال المتراكمة لديها من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، والبالغة نحو 13 بليون دولار. وفي مجال منحة العراق Iraqi Scholarship، يطلب من الكونغرس الأميركي تخصيص 100 مليون دولار أخرى لإيجاد منحة علمية لمصلحة جامعات العراق، كتعويض عن الأضرار التي لحقت بهذه الجامعات إبان العمليات الحربية وعدم حماية القوات الأميركية للمؤسسات العلمية والثقافية كما تنص الاتفاقات الدولية، وذلك على غرار منحة "فولبرايت - هايز" الشهيرة التي أقرها الكونغرس عام 1962 لمصلحة التبادل العلمي والثقافي للولايات المتحدة ودول العالم الأخرى، النامية منها بالذات، والتي استفاد منها الآلاف من الأكاديميين حول العالم. وأبدى الجامعيون الأميركيون حماسة لهذه الفكرة حين طرحتها ووعدوا بمتابعة الأمر. أما في مجال "ضريبة العلم على الأثرياء العراقيين" ~Science-Tax، فتقوم على ان يخصص أصحاب الملايين، وهم كثر، 100 مليون دولار أخرى لمصلحة هذا الصندوق. وبهذا يتجمع للصندوق 300 مليون دولار تخصص لانتشال الجامعات العراقية من محنتها، على أن يدار من هيئة عالمية عليا تعرف بصدقيتها والتزامها قضايا العلم والثقافة. ويمكن الصرف من هذا الصندوق على أمور عدة من بينها: 1- تزويد الجامعات العراقية الكتب والدوريات اللازمة لإعادة بناء المكتبات الجامعية. 2- تزويد المختبرات الجامعية الأجهزة والمواد والمعدات اللازمة لاستئناف بحوثها العلمية. 3- بناء قاعدة مناسبة للاتصالات الإلكترونية في الجامعات وتزويدها الحواسيب الحديثة لتحديث الإدارة والتدريس والبحث العلمي. 4- إنشاء شبكات للاتصال بين الجامعات العراقية وبينها وبين الجامعات العربية والدولية، وذلك لتسهيل لحاقها بالتطورات الحديثة في البحث والتدريس الجامعي. 5- الإسهام في إعادة تدريب وتأهيل أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العراقية للارتقاء بمعلوماتهم ومهاراتهم. 6- تسهيل عودة المدرّسين العراقيين العاملين في الخارج إما في شكل كلي أو جزئي. 7- تسهيل إعادة عدد من أعضاء هيئة التدريس العاملين في الجامعات العربية والدولية الأوروبية والأميركية من أصول عراقية وعربية الى الجامعات العراقية للعمل فيها موقتاً. 8- دعم توجيه البحوث العلمية في الجامعات العراقية للحاجات الملحّة للمجتمع العراقي وذات المردود النمائي المباشر على المواطنين، مثل بحوث الصحة والأمراض السارية والتعليم ورعاية الأطفال والبيئة والغذاء والزراعة. علماً أن العراق يعاني في شكل واضح بعض الأمراض، خصوصاً أمراض الطفولة، وأن زراعة النخيل أصابها الكثير من الأمراض نتيجة حرب الخليج الأولى والثانية ما يستدعي تركز البحوث حول هذه الأولويات. وفي الختام لا بد من القول ان للعراق تجربة تربوية وتعليمية غنية، ففي نهاية السبعينات حصل على أعلى جائزة عالمية من "يونيسكو" في محو الأمية، وكان على وشك أن يمحو الأمية نهائياً. كما خرّجت جامعات العراق الكثير من الأطباء والمحامين في بلاد الشام والجزيرة العربية احتلوا مواقع قيادية في بلادهم. وفي الثمانينات ارتفعت الإنتاجية العلمية للجامعات العراقية في شكل ملحوظ، إلا أن الحروب الطويلة التي خاضها العراق في الأعوام ال20 الأخيرة وسنوات الحصار الطويلة ألحقت ضرراً فادحاً بما كان يبدو وكأنه اختراق عربي تعليمي في نهاية السبعينات، في زمن عزت الاختراقات العربية. ويمكن الجهد الدولي لدعم الجامعات العراقية أن يعيد اليها ألقها في وقت قصير أخذاً في الاعتبار التجربة العراقية الغنية في مجال التعليم. لكن ذلك يستدعي اضافة إلى الدعم الدولي عودة الأساتذة الجامعيين العراقيين إلى وطنهم وتوفير جو الحرية الأكاديمية الحقيقية الذي يقود إلى الإنتاج والإبداع والتجديد.