بعدما تناولت حلقة الثلثاء الماضي "معانقة فلسطين"، هنا التتمة: في أواسط السبعينات، إذاً، قرر العراق، المدجج بعوائد النفط، أن لا يترك المنطقة لسورية. لكنه قرر أيضاً أن لا يترك سورية طليقة في استخدام مياه الفرات، النهر المشترك بينهما. وهذا لئن تكرّس موضوعَ نزاع مديد يضمر حيناً ليظهر حيناً، راحت بغداد تكيل الشتائم لدمشق واصفةً نظامها ب"الفاشية واليمينية والعمالة للامبريالية". وكلما قوي الخلاف على الفرات ضرت الحملة بينهما لتعود الى حيث ابتدأت أواخر الستينات. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحدّ. ففي شباط فبراير 1975 استدعت بغداد سفيرها من دمشق رداً على ما اعتبرته دعماً منها للأكراد، واستمرت العلاقات على مستوى القائمين بالأعمال حتى 1977. وفي آذار مارس "كشفت" سورية "مؤامرة" عسكرية مدعومة من العراق، ما تلاه اعتقالات واسعة لعسكريين وحزبيين كما حُشدت القوات العسكرية للبلدين على جانبي الحدود. وبعد شهرين وسّعا بيكار النزاع فتبادلا اغلاق شركات الطيران والمكاتب التجارية وغيرها، فيما اندفعت دمشق في دعمها فصائل من المعارضة العراقية، لا سيما "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي كان تأسس لتوّه في أوروبا. ففي دمشق أقام مؤسسه جلال الطالباني منذ 1972 كممثل لمصطفى البارزاني ثم كمنشق عنه، كما أقام مقر تنظيمه. وعلى العموم تبدى كأن اتفاقاً منهجياً عُقد بين بغدادودمشق على الخلاف، فأضحى السعي الى "ساحات" تشتبكان فوقها، وأطراف وسيطة تشتبكان بها، على أشدّه. ففي كانون الأول ديسمبر 1975، وفي ما بدا تجاوزاً لسورية وعليها، زار صدام حسين لبنان كي يسجل دعمه ل"الحركة الوطنية" اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. لكن سورية ما لبثت ان قضمت "الساحة" كلها، حتى طغى تدخلها عام 1976 في لبنان على العلاقة الثنائية بين الدولتين البعثيتين. فقد غدت بيروت أهم محاور المجابهة الاقليمية بسبب "الورقة الفلسطينية" فيها أساساً، ولكنْ أيضاً بسبب ما كانته العاصمة اللبنانية كمطبعة للعرب ومتنفّس لأصواتهم وساحة لمعارضيهم. وإذا تخوّفت بغداد من أن احتلال لبنان يضع الورقة الفلسطينية ومعها بيروت في الجيب السوري، قطع صدام حسين رحلة له في الخليج، في نيسان ابريل، لاكتشافه "مؤامرة سورية" لاغتياله. وبدأ العراق، في حزيران يونيو، يحرّك قطعاته العسكرية على حدوده الغربية، غير انه أخبر دمشق بأنه يأمل منها أن تفتح لتلك القوات طريق الوصول الى الجولان، ومن بعدها فلسطين. وما لبثت دمشق حين قدمت روايتها للموضوع أن نزعت قشرة الهزل "القومي" عن اللب الفعلي، متهمةً بغدادَ بالسعي الى غزوها، فضلاً عن وقوفها وراء أعمال شغب فيها. فعندما فشلت الاخيرة في الضغط على الأولى كي تسحب قواتها من لبنان، سحبت هي قواتها من الحدود المشتركة. ولخيبة العراق البعثي ولاحتقانه، لم ينفع الثراء النفطي كثيراً ولا نجح في التغلب على عوامل موضوعية أخرى وعديدة. هكذا جاءت هزيمة بغداد أشد تذكيراً بالعزلة من سابقاتها وأكثر تسبيباً للتوتر المحتقن. ذاك ان الجامعة العربية، ضداً على موقفها، ما لبثت أن أقرّت التدخل السوري ووفرت له غطاء الشرعية العربية عبر قمتي الرياض والقاهرة في تشرين الأول أكتوبر. وطالب العراق بانسحاب سورية من لبنان، وهو ما كان مطلب الفلسطينيين و"الوطنيين" اللبنانيين يومها، فيما طبّق قراره وقف العمل بخط الانابيب السوري كلياً. ولئن اتهمته دمشق بحرمانها أحد مقوّمات صمودها في وجه اسرائيل، بررت بغداد إجراءها برفضها الاحتلال السوري للبنان. والراهن أن العام 1976 كان صعبا جداً على دمشق. فقد تكاثرت الأخبار عن محاولات انقلابية كما جرت محاولة لاغتيال الأسد نفسه في اللاذقية. وفي أواخر نيسان تجدد الخلاف حول خط الأنابيب: فآنذاك بدأت بغداد تحوّل 500 الف طن يومياً عبر الخط التركي، اي نصف اجمالي صادراتها من حقول النفط في شمال العراق. وبهذا خسرت سورية نصف ما تكسبه كرسوم مرور. هكذا تعرّى الصراع على النفوذ من كل مصلحة مشتركة، ليصير أقرب الى جوهر الأشياء وعاديّها. فما من شيء يؤثّر في شيء خلا العداوة التي تتغذّى على ذاتها. ذاك أن العراق استقل تماماً عن سورية في ما خص تسويق نفطه. ومع أن العائدات التي يجنيها من التصدير التركي بقيت أقل مما كان يحرزه عبر سورية قرر، في 9 تموز يوليو 1977 زيادة طاقة الخط التركي. وبدورها لم تبق دمشق مكتوفة الأيدي فأغلقت، في 2 كانون الأول، كل موانئها وحدودها أمام نقل البضائع والترانزيت من العراق وإليه. وبعد حوالى عام، أي في 10 تشرين الثاني نوفمبر 1977 استكملت اغلاق حدودها معه. وكان للإعلام المسموع دوره. ففي 26 تشرين الأول بدأ "صوت سورية العربية" بثّه من بغداد، وهو ما توافق مع إسباغ مؤتمر القاهرة شرعيته على "قوات الردع العربية"، وعملياً السورية، في لبنان. وبعد شهر واحد شرعت إذاعة دمشق تبث برنامجاً للمعارضة العراقية. لكن قبيل انعقاد قمة القاهرة، وتحديداً في 26 أيلول، جدّ طور جديد أعلى في العدوانية، فسُجّل أول عمل إرهابي مرعيّ عراقياً داخل سورية. فقد اختطف عناصر من "منظمة حزيران الأسود" أربعة أشخاص من فندق سميراميس في دمشق، مطالبين بإطلاق سراح مساجين سياسيين وتغيير السياسة السورية حيال لبنان. وتبيّن، في ما بعد، أن قائد هذه المنظمة المختَرعة إسماً ووظيفةً ليس سوى أبو نضال. وكان السلوك مرآة السلوك كما الإعلام مرآة الإعلام. فإلى مصرع البعثي العراقي المعارض أحمد العزاوي عامذاك، اختُتم العام على هجمات مسلحة تعرضت لها السفارتان السوريتان في روماوإسلام أباد، وفي 1 كانون الأول استهدفت محاولة اغتيال وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام، فلم ينقض عليها غير 13 يوماً حتى انفجرت عبوة في مطار بغداد قتلت ثلاثة وجرحت كثيرين. وفي بيروت بكّرت القوات السورية في الجهر بنواياها. فهي ما أن دخلت العاصمة اللبنانية في 15 تشرين الثاني نوفمبر حتى أطبقت على الأحزاب والمقار والصحف القريبة، في صورة أو أخرى، من العراق. ولم يكن العام التالي، 1977، غير تكرار لسيرة سابقه. فقد امتد العنف الى الفلسطينيين والى الشوارع، حيث اشتبكت "الصاعقة" التي أنشأتها دمشق و"جبهة التحرير العربية" التي أنشاتها بغداد. وفي كانون الثاني يناير حكمت محكمة أمن الدولة السورية العليا بالموت على مجموعة من "المجرمين العراقيين" اتهموا بزرع متفجرات في أمكنة مأهولة من دمشق وحلب. كذلك اتُهمت بغداد بقتل محمد الفاضل، رئيس جامعة دمشق، في شباط 1977. لكن العراق اتهم سورية، في هذا الشهر نفسه، بالوقوف وراء أحداث النجف وكربلاء، وبأنه مصدر لتسلل عناصر من "الاتحاد الوطني الكردستاني" اليه. وبعد شهر واحد ذُكر أن صدام نفسه ترأّس فرعا خاصا مهمته الفعلية تنظيم الإرهاب العراقي في سورية. وفي أواخر العام، في 25 تشرين الأول تحديداً، تعرض خدام لمحاولة اغتيال ثانية وهو في زيارة الى أبو ظبي. حتى رحلة الرئيس المصري أنور السادات الى القدس، في تشرين الثاني 1977، لم تكفِ لتهدئة الحرب بين الطرفين "الوحدويين" والهائجين على سياسة مصر. على العكس تماماً قدمت الزيارة لبغداد حجة أخرى، فرأت أن دمشق تستخدم الرئيس المصري "كاسحة ألغام لها على طريق الخيانة". وإذ راحت العاصمة العراقية تغدق المعونات على خصوم سورية في لبنان، طمعت العاصمة السورية بشطب دور الاثنين، بغداد والمنظمة، معاً. وجاء العنف الأرعن للعام 1978 يتجاوز الشرق الأوسط ليسطع على مدى العالم. فأبو نضال اغتال ممثل المنظمة في لندن سعيد حمامي بدفع وتكليف عراقيين، كما قتل ممثل المنظمة في الكويت علي ياسين وممثلها في باريس عز الدين القلق. وفي نيقوسيا، وبما أدى الى مذبحة متعددة الجنسيات في مطارها، اغتال الأديب المصري يوسف السباعي الذي رافق الرئيس أنور السادات الى القدس. كذلك حاول ابو نضال اغتيال يوسف ابو حنتش ممثل المنظمة في إسلام أباد، فتسببت جرائمه في أحد أمرّ النزاعات بين "فتح" والبعث الحاكم في العراق. وقد خيض معظمها في بيروت تحت رقابة العين الساهرة للسوريين. وخلال ربيع 1978 وصيفه عصفت بسورية نشاطات ارهابية متتالية، فلم يشذّ عن قاعدة الصراع الا سماح دمشق لوحدة من المتطوعين العراقيين بالعبور الى الجنوباللبناني الذي تعرّض، عامذاك، لاجتياح اسرائيلي صغير. مع هذا أدت "المبادرة" المصرية، مسبوقةً بوصول "ليكود" الى الحكم في اسرائيل، إلى إشعار السوريين بالرهبة والجدّ. هكذا راسل الأسدُ البكرَ في 20 تشرين الثاني 1977، بعد يوم على انتهاء زيارة السادات، علماً بأن دمشق كانت، يوم انتهاء الزيارة، تفرض آخر إجراءاتها لمحاصرة العراق اقتصادياً، أو ما أملت أن يكون كذلك. وفي الرسالة التي حملها الى بغداد رئيس الحكومة الليبي عبد السلام جلود، طلب الرئيس السوري نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، فكان مؤتمر طرابلس ما بين 2 و5 كانون الأول. والحال أن سورية، وهي المعني الأول، بذلت كل ما يسعها لعقد مؤتمر طرابلس الذي انبثقت منه "جبهة الصمود والتصدي". لكنْ هناك أيضاً خالف العراق الآخرين جميعاً فوقفت ضده طرابلس والجزائر وعدن ومنظمة التحرير، فضلا عن دمشق. ذاك ان بغداد، الحريصة على انتزاع دور لها بأي ثمن كان، أرادت ان يُعقد المؤتمر فيها، كما طالبت بمقاطعة كاملة لمصر وبتحرير الاراضي العربية كافة لا الجولان فحسب. وهي لم تنس مطالبة سورية تحديداً بالتراجع عن موافقتها على قراري مجلس الأمن 242 و338 والانسحاب من لبنان، فيما لم تسحب اتهامها لها بالمسؤولية في ما قام به السادات. وكان البكر قد اقترح في رسالة الى الدول التي شاركت، وفي عدادها سورية، إنشاء جبهة تضم العراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير من دون سورية نفسها، اللهم الا اذا انسحبت من لبنان وتخلّت عن موافقتها على قراري مجلس الأمن. فجاء المطلب العراقي يرقى الى انشاء جبهة لا حدود لها مع اسرائيل، تكون ل"الصمود والتحرير" بدل "الصمود والتصدي"، وهو ما بدا لاعقلانياً الى حدّ فاجأ العقيد الليبي معمّر القذافي. لكن الفيل الذي كان يخبط في دكّان خزف تحوّل، بلمح البصر، حمامةً وديعة. فقد نشأت الجبهة التي لم ينتسب العراق اليها، فحاول ان يلعب دور الوسيط بين الجبهة الوليدة ل"الصمود والتصدي" والمحافظين العرب. هكذا راهن على تضامن عربي يجافي راديكاليته الفائضة قبل أسابيع. وفي دوره الجديد هذا بات عليه التخلي عن مطالباته السابقة لدمشق بما فيها "تحرير كامل الأراضي العربية". ووفاءً بهذه الصورة الجديدة أبدى العراق استجابة لوساطات عربية وسوفياتية هدفها تثبيت الانفراج الأمني وتطوير التقارب مع سورية. وفي هذه الغضون جمّدت الأخيرة نشاط الطالباني، كما سمحت لصلاح الدين البيطار، شريك عفلق في تأسيس البعث، بزيارة مدينته دمشق. لكن المطلوب للتغلب على رداءة العلاقة وشكوكها لم يكن أقل من معاهدة كامب ديفيد المصرية-الاسرائيلية. إذّاك، ورداً عليها، وقّع الاسد والبكر وصدام "ميثاق العمل القومي المشترك" في 26 تشرين الأول 1978، كما تحدثت احدى الروايات عن "تفاهم" على ان يكون البكر رئيس دولة الوحدة والأسد نائبا له. وهذا، إذا صح، كافٍ لإشعار صدام بقدر من الاستبعاد والعزلة. لكن ضمانة صدام كانت معرفته، وهو في هذا شيخ العارفين، أن شفرة "الميثاق" مثلومة وسكينه لن يتسنى لها قصّ أطرى اللبن. ومنذ البداية، ومع عودة الكلام على "وحدة القطرين" الى الواجهة، بدا واضحاً أن على العراق، كيما يُقبل "عمقاً استراتيجياً" لسورية، أن يدفع. ولأنه دفع تحققت، بعد أيام على "الميثاق"، إنجازات متفاوتة. فبغداد شاهدت حلمها في احتضان مؤتمر قمة عربي يصير حقيقة. كذلك أعيد فتح الحدود الثنائية الا ان الشرطة في البلدين استنفرت كل طاقتها على الرقابة والحذر في متابعة العابرين من البلد الآخر واليه. لكن لئن أنشأ "الميثاق" عدداً من الأجهزة أهمها "الهيئة المشتركة السياسية العليا"، فإنها والهيئات الأدنى التابعة لها، لم تسفر عن شيء، وبالكاد التأم بعضها. صحيح انه لم ينقض غير يومين على ولادة "الميثاق" حتى وقّعت اتفاقية ضاعفت حجم تجارة البلدين، كما نصت على إقامة مراكز تجارية في العاصمتين، غير أن ما كمن وراء الأكمة كان أخطر. فخلال أشهر التقارب اشترت بغداد سلعاً بقيمة 17 مليون ليرة سورية من القطاع العام فيما اشترت ما قيمته 183 مليوناً من القطاع الخاص. وتبيّن، من ثم، ان الطرف العراقي الأقوى اقتصادياً استخدم الاتفاقية لتصديع الموقع الاقتصادي للسلطة السورية. والى هذا، لم يحصل تغيير في ما خص قسمة مياه الفرات ولا في مجال استئناف تصدير النفط عبر سورية، وهو ما تضاربت المعلومات بشأنه. كذلك لم تسمح دمشق للعفلقيين السوريين المقيمين في بغداد بالعودة الى بلدهم، علماً بأنها أبعدت عن الواجهة معارضتها العراقية كما فعلت بغداد بحجبها معارضتها السورية. وأهم من كل ما عداه أن التعاون العسكري لم يحصل. وتبدى أن الحبكة أُتقن صنعها. فدمشق التي لوّحت بوحدة نضالية مع بغداد، معطوفةً على تحالفها مع موسكو، هدّدت المحافظين العرب بما لا يمكن الا ان يكون من صنف الكيمياء الراديكالية. وبهذا صارت سورية أقدر على استحلاب الدعم العربي المحافظ. وفي المقابل، قضت جلافة البعث العراقي بطرح الأمر على نحو مُقلق ومنفّر. فبغداد ما دامت ستدفع ثمن المشتريات السورية من الأسلحة، فإنها تريد لقواتها ان تعبر الى سورية فوراً، وأن تقوم وحدة الحزبين تمهيداً لوحدة الجيشين. وإذ طالب العراق بوحدة فورية، كاملة ومركزية القرار، سعت سورية الى الفيدرالية والتدرّج. فالأنف الدمشقي مدرّب منذ وحدة 1958 على هذه الروائح، خصوصا أن الحزب العراقي أكفأ بكثير من نظيره لأنه، بين وظائفه الأخرى، منظمة أمنية، فيما البعث السوري مستقل نسبياً عن الأجهزة الأمنية لبلده. كذلك دلت التجربة على أن صراع الاثنين للحلول محل مصر أقوى من رغبتهما في بناء محور سوري - عراقي يعرفان ان الفشل مكتوب عليه، كي لا نقول شيئاً عن الوحدة. ثم اذا عاند العراق الوقائع الموضوعية، فسورية غدت أكبر مما كانته في الخمسينات، حين اقتصرت على مجرد موضوع للصراع المصري - العراقي. وفي النهاية ظل ما يقع في نطاق علاقة البلدين موسوماً بالمؤقت والعابر. فالعراق بدا للسلطة السورية مشروع تهديد إن لم يكن مشروع توسع وابتلاع. أما سورية فأرادت، في نظر الحكم العراقي، أن تفيد من تقديمات بغداد المالية وما توفّره من "عمق استراتيجي" لسياستها من دون أن تشركها في القرار. وحين حل صدام في الرئاسة تضاعفت الريبة السورية. فقد عجّل الاندفاع في طلب الوحدة الفورية الكاملة، هو الذي طالما اعتُبر رمز "المشروع القطري" في العراق، قياساً بالبكر "القومي". فإما أنه يريد قتل "الميثاق" بتسريعه وإظهار السوريين "خونة" للوحدة، وإما أن عُظامه الذي تغذّى بحضوره مؤتمر هافانا لعدم الانحياز عامذاك، يدفعه الى توسّل الوحدة جسراً الى الهيمنة الاقليمية. وكانت الكراهية الصافية تتحكم بالعلاقة بين الأسد وصدام، فيما ساد شيء من الودّ علاقة الأول بالبكر الذي يقال انه حذّر السوريين من نائبه الصاعد. وعلى أية حال فحين توجه عبد الحليم خدّام لتهنئته بالرئاسة واجهه صدام، بحسب رواية شائعة، بعلاقة تربط سورية ب"مؤامرة" 1979 الحزبية والتي كان يُفترض بها ان تعلن الوحدة الفورية برئاسة الأسد، فيما يكون عبد الخالق السامرائي نائباً له. وبالطبع نفى خدام، لكن النفي لم يغير شيئاً. فالعراق كان في وارد آخر. وبغض النظر عن الادانات اللفظية لمصر، كان "السيد النائب" قد قطع، منذ اتفاقية الجزائر، شوطاً بعيداً في التقارب مع السادات. وإذا صح أن الأخير بذهابه بعيداً أحرج اللفظية العراقية بقدر ما استنفرها، الا أن بغداد كانت، منذ 2 شباط 1978، استأنفت علاقاتها القنصلية والثقافية والتجارية مع القاهرة، وفي آذار استأنفت العلاقات الديبلوماسية من دون سفراء. كذلك تقاطعت في الأساسيات مع السياسة الغربية كما جاء الدليل الساطع في حرب 1980 ضد إيران الخمينية. وفي النهاية كان العراق، من خلال حربه على إيران، من أعاد مصر الى الحظيرة العربية. وكان مما أحبط "الميثاق"، وهو لا يستدعي الكثير لاحباطه، أن سورية شهدت في 1979 مسلسلاً من الأعمال الارهابية والتخريبية ليس العراق معنياً بها بالضرورة، انما استدعى التصدي لها مطلق الحرية في القرار والتصرف. أما العراق، بدوره، فبدا مشغولاً بالثورة الايرانية وتداعياتها ميّالا الى التركيز، عوداً على بدء، على جبهة الشرق. وبانهيار "الميثاق" عاد الارهاب يتعاظم في سورية، ما بين حزيران وأيلول 1979، فاغتيل حوالى 70 شخصا معظمهم من الكوادر العليا في الدولة والحزب ثم جرت، في 26 حزيران 1980، محاولة على حياة الأسد نفسه. وفي الطرف الآخر انعقد في بغداد، في آذار من ذاك العام، "المؤتمر العربي الشعبي القومي" حيث ظهرت رموز المعارضة السورية ممن هاجموا دمشق بضراوة. وكان من المشاركين البيطار الذي ما لبث ان اغتيل في باريس، في تموز، لتنقل جثته الى العاصمة العراقية ويُدفن فيها. كذلك أعلنت قوات الأمن العراقية عن اكتشافها كميةً من السلاح في السفارة السورية ببغداد التي اقتحمتها في 18 آب. وبعد شهرين قطع العراق علاقاته بسورية بذريعة مدّها إيران بالأسلحة، فيما تواصل الهجوم العراقي عليها وعلى ليبيا المتهمتين بالتواطؤ مع طهران "ضد العرب". وكانت حجة سورية التي كررتها مراراً في ما بعد، أن إيران معادية للامبريالية فيما العراق لم يغزُها الا ليمنعها من ضم جهدها الى الجهد العربي ضد اسرائيل. والحق أن دمشق أوجعت بغداد التي كادت تعرّب حربها على إيران لولا الموقف السوري النافر. ففضلاً عن الحصول على تمويل خليجي نجح العراق في جميع القمم العربية، من عمان في 1980 وفاس في 1982 ثم عمان مجدداً في 1987، في تأمين الدعم العربي انطلاقاً من موقفه "القومي" المحافظ. وكان الظن ان سورية تؤثّر غرباً فإذا بها، مع حرب ايران، تؤثّر شرقاً أيضاً. ولم تتكاسل بغداد في الرد. فالعام 1980 شهد تأسيس "الجبهة الاسلامية" السرية في مدينة آخن بألمانيا الغربية، وربما في دمشق نفسها، ضامّةً بعض أطراف المعارضة الراديكالية ممن بثّ الإعلام العراقي نشاطاتهم وروّجها. لكن لئن فاقت دمشقُبغداد حذراً فان الأخيرة ساوتها مع الغطس في حرب إيران وظهور فقرها، بينما كانت المعارضة تُسمع صوتها والأكراد يعودون الى بنادقهم المخبّأة. ومنذ 1979 دعمت سورية الحزب الشيوعي العراقي، كما زار دمشق عامذاك إدريس البرزاني، نجل الملا مصطفى، واستقبله الأسد من دون ان تتردى العلاقة السورية بالطالباني. وفي هذه المعمعة ضرب أبو نضال في تموز، فاغتال أمين عام منظمة "الصاعقة" زهير محسن حيث لم يتوقع أحد: في أحد كازينوات مدينة كان الفرنسية. وفي 12 تشرين الثاني 1980 تأسست في دمشق "الجبهة الوطنية القومية والديموقراطية في العراق"، ثم أقام "حزب الدعوة" وجوداً له في سورية، وكذلك فعل الضابط المنشق حسن النقيب الذي سمّى نفسه "قائد الثورة العراقية"، كما نشأت هناك "جبهة القوى الثورية والاسلامية والقومية" ونُشرت في دمشق مطبوعات للمعارضة العراقية. وربما تورّطت بغداد في "مؤامرة" كُشفت في كانون الثاني 1982، وتناولها لاحقاً الإعلام العراقي تناولاً مسهباً. إذ يبدو ان ضباطاً خططوا، بتنسيق مع الاسلاميين السوريين، لانقلاب تستهلّه ضربات جوية لمقري قيادة البعث والرئيس الأسد. وقد اعتُقل يومها عدد من العسكريين، لا سيما الضباط في سلاح الجو وأُعدموا. واتهمت بغداد، بدورها، "عملاء سوريين" بزرع عبوة لم تنفجر لمجلة "الوطن العربي" المؤيدة للعراق في باريس في 19 كانون الاول 1981، كما اتهمت "عملاء" آخرين بتفجير سفارتها في بيروت، في الشهر نفسه، بالتعاون مع ايرانيين. وما هي الا ثلاثة أشهر حتى اندلع القتال في طرابلس بشمال لبنان بين القوات السورية من جهة وميليشيات "التوحيد" الاسلامية والبعث العراقي وحركة "فتح" من جهة أخرى، فيما كانت بغداد على غزل مفضوح مع القوى المسيحية اللبنانية المناوئة لسورية. ولم يتردد الأسد في خطابه يوم 7 آذار 1982 في تحميل العراق مسؤولية أحداث حماة، لكن بعد أربعة ايام فقط أُسس في باريس، وربما في دمشق، "التحالف الوطني لتحرير سورية" ومقر سكريتريته الدائمة بغداد، وهو ما سمّي في 1990 "الجبهة الوطنية لانقاذ سورية". أما دمشق فأقدمت، بحسب اتهام بغداد، على زرع قنبلة أخرى انفجرت هذه المرة بمكاتب "الوطن العربي" في 22 نيسان 1982، وهو الشهر الذي أعيد خلاله إغلاق خط أنابيب النفط. وأسوأ مما عداه أن تلك المرحلة سجلت حدثين من طبيعة نوعية. ففي 7 حزيران 1981 دمّر الاسرائيليون مفاعل "تموز" النووي في العراق، لكن الاستياء العربي الواسع لم يتبلور تضامناً مع بغداد فاعلاً ومؤسسياً. وبعد عام حصل الاجتياح الاسرائيلي للبنان فكان العراق مستغرقاً في حربه مع ايران. بيد أن أحداً لا يستطيع استبعاد شبهة الخبث والشر: ذاك أن محاولة أبو نضال، بمساعدة أمنية عراقية، اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن، شلومو أرغوف، هي التي استخدمتها الدولة العبرية ذريعةً لها للانقضاض على لبنان وفلسطينييه. وشهدت الفترة التي بدأت بأيار 1983 إحدى أعنف معارك "الرفاق والأخوة" وأهل "المتراس الواحد". فالحرب، في لبنان، نشبت ضروساً ومفتوحة بين دمشق وياسر عرفات مدعوماً من بغداد، وتسعّرت مع "حرب المخيمات" البادئة في أيار 1985، حيث لعبت "حركة أمل" اللبنانية الشيعية دور الذراع السورية الضاربة. فلم يبدُ مرةً ان فلسطين ولبنان امتداد لمشروع سوري امبراطوري كما بدا إذّاك، ولم يبدُ مرةً أن الشمشونية تتحكم بنظرة أحد هذه الأطراف الى الآخر كما بدا آنذاك. ورغم هذا عرف عام 1985 اختراقاً على إيقاع منطق التلاعب البعثي بالوحدة ولغتها. ففيما خضع العراق لضغط إيران العسكري الكثيف وللضغوط السياسية العربية والسوفياتية كي يتقارب مع دمشق، رفعت الأخيرة عقيرتها بأن الوحدة هي ما يوقف الحرب المدمّرة مع إيران. وبدا لوهلة، في 1986، ان الأمور قد تتحسن. لكن أحداثاً أخرى كانت تنضاف الى السوابق في تعزيز الشكوك. فقد انفجرت عبوة في مكتب الجمعية الالمانية-العربية المؤيدة للعراق في برلين الغربية في 30 آذار، واتُهم الاسلامي السوري عدنان سعد الدين والأمن العراقي بتفجير باصّات مزدحمة بالركّاب في سورية. وما لبث ان تبينّ ان ذاك التقارب مدروس جداً لخدمة اغراض لا صلة لها بالوحدة. فإيران كانت، في شباط، قد احتلت الفاو فيما علاقاتها بسورية تتردى بسبب ازدواج نفوذهما في لبنان وفي "حزب الله"، كما بسبب شحنات النفط المهددة بالتوقف. لكن يبدو أن دمشق طبقت، مرةً أخرى، نظريتها القائلة إن السياسة امتداد للتجارة بوسائل أخرى. فبتظاهُرها بالايجابية حيال بغداد، حصلت على ما تريده من طهران وأقنعت الدول العربية بنواياها الايجابية. ولم تتوقف جهود الملك الاردني حسين ولا جهود موسكو، فنجحا أخيراً في جمع الأسد وصدام أواخر نيسان 1987 في الصحراء الاردنية. وفي هذه الصحراء لم يكن الحظ أعلى مما كان في الصحراء العراقية-السورية عام 1974. ويبدو، على أية حال، أن القصة المضجرة تكررت فطرح الأسد الوحدة الفورية مقدّماً الرئاسة للثاني الذي دعا، بدوره، الى اتباع الخطوة خطوة. وهذا لم يكن جدياً ولا ذاك. ما كان جدياً أن الاتفاقية النفطية الايرانية السورية كانت قد انتهت مدّتها في آذار، فحين تم لقاء نيسان قلقت طهران فجددتها. وبتوقيع العراق على وقف النار مع إيران في آب 1988، تغيرت المعطيات. فبغداد صار في وسها الآن أن تتفرّغ للغرب فتثأر من سورية وتسعّر معها الحرب بالواسطة. وبالفعل لم يحلّ شهر حتى تسعّرت بشغور منصب الرئاسة اللبنانية وظهور حكومتين، واحدة مدعومة من دمشق على رأسها رئيس الحكومة السابق سليم الحص، والأخرى عسكرية مدعومة من بغداد على رأسها قائد الجيش ميشال عون. وفي آب 1989 أفضى النزاع الى قتال وأرقام قتلى غير مسبوقة حتى بمعايير الحرب الاهلية-الاقليمية في لبنان. لكن النزاع انتهى باتفاق الطائف الذي عُدّ نصراً لدمشق وهزيمة لبغداد، تماماً كما كانت الحال مع قمتي القاهرة والرياض في 1976. واستمرت بغداد تخوض حرباً محبَطة أخرى من خلال القيادة المحلية المحبَطة لعون. وفيما شاغب العراق بعون على سورية، شاغبت سورية على نطاق أكبر بكثير على العراق، فانضمت الى "التحالف الدولي" بقيادة أميركية لتخليص الكويت من الغزو والاحتلال العراقيين. وفي خلال غزو الكويت، ربط صدام حسين بين التفاوض للانسحاب منها والتفاوض مع اسرائيل حول فلسطين، فكانت جنايته على الفلسطينيين الذين ساعدوه بأن بالغوا في التهليل لغزوه. وكانت المأساة طردهم من بلدان الخليج في صورة من صور العقاب الجماعي والعنصري، فيما راحت خزائن منظمة التحرير تنضب من أموال كانت البلدان الخليجية مصدر معظمها. وقبل ذلك وبعده، اكتشفت بغداد أن طريقها مسدودة الى أهم أسواق المشاريع النضالية في المنطقة خلال التسعينات. ذاك أن مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في جنوبلبنان أقفلتها دمشقوطهران على غيرهما، قوىً محلية ودولاً، بحزام عفّة مشدود. وبغض النظر عن مدى رغبة بغداد في تقديم الدعم، وهي مسألة فيها نظر كثير، نجح خصماها الاقليميان في تهميشها تماماً وفي إظهارها نمراً مقيّداً بالسلاسل يسكن رأسه عقل دجاجة. * الحلقة الحادية عشرة الثلثاء المقبل.