اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    موقف توني من مواجهة الأهلي والعين    باص الحِرفي" في جازان: احتفالية فنية تعزز التراث وتلهم الأجيال    أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة في الرياض    «هيئة الإحصاء»: ارتفاع الصادرات غير النفطية 22.8 % في سبتمبر 2024    "يلو 11".. ديربي حائل وقمم منتظرة    في أقوى صراع الحريق يشعل منافسات براعم التايكوندو    المعرض المروري يستعرض أبرز مسببات الحوادث بالمدينة    تحت رعاية ولي العهد.. السعودية تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي في الرياض    بوريل: الاتحاد الأوروبي ملزم باعتقال نتنياهو وغالانت    "تعليم الرياض" يحتفي باليوم العالمي للطفل    "السجل العقاري" يبدأ تسجيل 90,804 قطع عقارية بمدينة الرياض والمدينة المنورة    التدريب التقني والمهني بجازان يفتح باب القبول الإلكتروني للفصل الثاني    "الصندوق العقاري": إيداع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر نوفمبر    «التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    توقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج ..وزير الصناعة: المحتوى المحلي أولوية وطنية لتعزيز المنتجات والخدمات    القِبلة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    المدى السعودي بلا مدى    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة البعث في العراق . الحرب على إيران : بين صدام حسين وآية الله الخميني 11
نشر في الحياة يوم 13 - 05 - 2003

لم يكن تولي صدام حسين رئاسة الجمهورية، يوم 16 تموز يوليو 1979، متعة صافية من كل ما يعكّر. ففي العام المذكور سبق الحدثَ الرئاسي حدثٌ آخر ربما ذكّره بما لا يحب ان يتذكر. فالشاب الذي انتسب الى البعث إبان شعور البعث بالقزمية حيال الشيوعيين العراقيين، و"السيد النائب" الذي لم يُقنع أحداً بأنه وريث جمال عبد الناصر في الزعامة العربية وجد نفسه، هذه المرة، أمام تحدٍ أكبر وأخطر. ففي 16 كانون الثاني يناير حزم شاه إيران حقائبه وغادر طهران، مريضاً بالسرطان ويائساً من "رخاوة" الرئيس الأميركي جيمي كارتر المتشدد في "حقوق الانسان". لكن أكثر ما دفع الشاه الى المغادرة أن الحشود التي نزلت الى الشوارع لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
صحيح أن المستبد الشرقي الذي كانه البهلوي آثر أن يقي شعبه مستنقعاً دموياً لاح في الأفق. لكن الصحيح أيضاً أن آية الله الخميني، ابن السادسة والسبعين، كان مشدوداً الى النصر انشداد سهم الى هدفه. فقد بدا نصره أشبه بالحتم أو القدر، لا يحول دونه أي "سيف" قد يتصدى ل"الدم"، بحسب معادلة أقامتها الأدبيات الشيعية وجددتها الخمينية.
وبالفعل وصل الشيخ الجليل والمتجهّم الى طهران في 1 شباط فبراير فكانت مهابته وتقطيب وجهه وسواد ملبسه كافيةً لأن تُشعر حكام بغداد بعاديّة لا يُحسدون عليها. فالجالسون في أقبية الأمن يتوهّمون صناعة التاريخ، شاهدوا التاريخ يُصنع، على مقربة منهم، في الهواء الطلق.
ولا شك ان الجماهير التي مهّدت للخميني ثم استقبلته أصابت صدام بغمّ لا علاج له. فهو سليل حزب لا ينافس تشدّقَه بالجماهير الا نقصُ جماهيريته. أما الذين انضووا فيه، وكانت ست سنوات قد انقضت على الطفرة النفطية، فليسوا من طينة أولئك الذين جانبتهم الطفرة النفطية في إيران. ذاك أن الأخيرين، على عكس المستفيدين والمنتفعين، عُجنوا بالجدية في ما يعتقدونه وبالاستعداد للموت في سبيله.
لكن الحدث الإيراني الكبير لا بد عجّل، من جهة أخرى، في انتقال "السيد النائب" الى الرئاسة. فصدام، لا أحمد حسن البكر، الرجل الملائم لمجابهة تحدٍ كهذا، إذ هو الأشد عناداً وتصميماً على وضع الأهواء المستحيلة موضع التنفيذ.
ثم ان للخميني، وقد عُرف بالحقد بين صفات أخرى عديدة، ثأراً على السلطة البعثية في بغداد. فآية الله حين نفي من بلده انتقل الى النجف حيث أقام منذ 1965. بيد ان حملة البعث على الشيعة ومؤسساتهم الدينية دفعت الى إبعاده عن العراق في تشرين الأول أكتوبر 1978 ليستقر، بعد ذاك، في ضاحية نوفل لو-شاتو الفرنسية قريباً من باريس. وفي الأثناء هذه شرّد البعثيون من شرّدوا، وأعدموا من أعدموا من رجال دين شيعة هم أصدقاء للخميني وزملاء حوزة.
وعلى النحو هذا بدا "طبيعياً" في السلطة التي أقامها آية الله، عام 1979، أن تستفزّ الجيران على المقلب الآخر من شط العرب. هكذا حصلت مناوشات بدأها الايرانيون الذين قصفوا الحدود في 4 أيلول سبتمبر 1980، ما جرّ الطرفين الى اشتباكات موضعية بعد أسبوع واحد. وكان يمكن للتوتر ان يقف عند هذا الحد لو توافرت إرادة دولية في قمعه، أو لو لم تتوافر إرادة عراقية في إطلاقه. الا أن العالم كان ما بين ساهٍ عن المنطقة وراغب في حربها، فيما بدا صدام في أمسّ الحاجة الى الحرب.
ولف الخميني عنقه المكتنزة بحبل صدام الرفيع. ففي 17 أيلول ألغى العراق من طرف واحد اتفاقية الجزائر، فتسبب الغاؤها بكوارث تفوق تلك التي نجمت عن توقيعها قبل خمس سنوات. ذاك أنه لم تنقض غير خمسة أيام حتى غزت القوات العراقية إيران من أربع نقاط حدودية، على امتداد جبهة طولها 300 ميل، تقع ضمنها مدينتا وميناءا خورمشهر وعبدان النفطيان.
وقد ذُكر، آنذاك ولاحقاً، أن الاسرائيليين سرّبوا الى بغداد، عبر أطراف خفية وغير مباشرة، معلومات مبالغاً فيها عن الضعف الايراني. فطهران، بحسب هذه الصورة المضللة، جيشها مفكك لا يلزم لإخضاعها أكثر من أسبوع واحد. ويبدو ان صدام، متأثّراً بهذه المعلومات، ولكنْ أيضاً بتجربة الانتصار الاسرائيلي في 1967 على ثلاثة بلدان عربية في ستة أيام، قرر أن يحسم الأمر بضربة "بليتزكريغ" سريعة وخاطفة.
هذا ما قد يُشبع نهم الراوي البوليسي. غير أن أسباباً أبعد وأعمق كانت تعتمل في الخلفية. فالتحركات الشيعية في الجنوب العراقي، ومحاولة الاغتيال التي كادت تقضي على وزير الخارجية طارق عزيز في نيسان إبريل 1980، في بغداد نفسها، كانت كلها علامات ينبغي سحقها في المهد. ولئن دعت طهران الجمهورية الى "تصدير الثورة" الى الجوار، حاولت المخابرات العراقية تحريك تمرد في خوزستان أو عربستان، المتنازَع عليها وعلى اسمها تقليدياً. ولم ينته الشهر الذي تعرض فيه عزيز للاغتيال، وأقسم صدام على الرد عليه، حتى استولى ستة من شبان خوزستان العرب، سلّحتهم بغداد وموّلتهم، على السفارة الايرانية في لندن، قبل أن يُقتلوا جميعاً.
على أن العوامل الدافعة الى الكارثة أسبق من 1980. ففي تشرين الثاني نوفمبر 1979، افتتح الشبان الخمينيون نشاطهم الارهابي باحتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز العاملين فيها، موفّرين لإله الحرب العراقي فرصة أخرى نادرة. فقد آلت محاولة واشنطن إنقاذ "وكر الجواسيس"، بحسب التسمية الخمينية للسفارة، الى فشل مريع شهدت عليه رمال الصحراء الايرانية في نيسان من العام التالي.
وما من شك في أن صدام عصفت به المهمة التي عجز عنها الأميركيون، فدغدغت عُظامه في الصميم. وهو، بعد كل حساب، يستطيع أن يقدّم هجومه على إيران هديةً لواشنطن، بالمعنى الذي كان يقدّم الهدايا العضلية، إبان شبابه الأول، لخاله خير الله.
ولما أعلن جيمي كارتر في كانون الثاني، وقبل أشهر على مغامرته الانقاذية الفاشلة، أن الخليج "منطقة حيوية" للولايات المتحدة، شعر الرئيس العراقي بأن المكافأة لا بد أن تكون مجزية.
على أن المرحلة نفسها كانت تتململ بتطور كبير آخر. ففي كانون الأول ديسمبر 1979 حصل الغزو السوفياتي لأفغانستان. وسريعاً ما ابتدأ التخطيط ل"جهاد" ضد الغزو يصيب طهران بنفس الحجارة التي تصاب بها موسكو. وفي السياق هذا ألحّت مهمة جديدة على الولايات المتحدة وبعض العرب: مصادرة الاسلام السياسي من اليد الايرانية الراديكالية وصبّه في قناة الأنظمة المحافظة والنفوذ الغربي. وصدام، مرة أخرى، يمكنه أن يكون "الشقاوة" الذي يضرب النظام الخميني بينما يتولى "المجاهدون" تصديع القوات الروسية في بلدهم.
وطلبٌ كهذا له، على أذن الرئيس العراقي، وقع الموسيقى. فهو العالق مع سورية في صراع صعب على النفوذ، يتخبّط فيه ويراوح ويُستنزَف، يسعه الآن أن يتحول زعيماً غير منازع لعالم الاسلام السني. ذاك ان مصر كانت اختارت، بكامب ديفيد، وجهةً أخرى، فيما استولى على تركيا انقلاب الجنرال كنعان أفرين وسربلها بأجندة أمنية.
وبدت الحرب، على النطاق الايديولوجي، مواجهة بين ميثولوجيا الوحدة الاسلامية ذات الروح الشيعية والعَصَب الايراني، وميثولوجيا الوحدة إياها بجرعة متخمة
عربياً وسنياً. لكنْ، ومع الفارق الكبير في تصديق الخرافة والاندفاع فيها، تراءى لصدام أن حرباً كهذه جسره المضمون الى مجد موطّد. فهي وحدها ما يتكفّل محو عبد الناصر من الذاكرات وإحلاله في مساحة لم يحلم بمثلها زعيم مصر الراحل.
وربما جاز التكهّن بأن تلك الخلفية المتعددة العوامل حوت أيضاً سبباً آخر، شخصياً. فربيب العوجا وتكريت نتاج فقدانين لم يبرأ منهما، تحكما بكثير من أفعاله: فقدان أبيه طفلاً، وانفصاله من ثم عن أمه، ثم فقدان سلطة الحزب إبان شبابه عام 1963. وكان فقدان شط العرب، بموجب اتفاقية الجزائر عام 1975، ليجعله نتاج فقدانات ثلاثة كبرى. والحق أن الأخير أثقل وطأةً على النفس لأن صانعه ليس إلا صدام المهجوس بأن يعيد ويستعيد ما تسبّب غيره بتبديده.
هكذا قدمت له ايران الضعيفة، والتي تتخاطفها المرحلة الانتقالية، ذريعةً يستوي فيها مع نفسه ويضفي المعنى على تاريخه الشخصي. ولم تكن الرواية الخمينية التي بُدىء بتطويرها مع ابتداء القتال، غير نكء لجراح صدام واستصغار له، هو الهارب من صَغاره. فحرب إيران، في تأويل آية الله الوفي لتقليد الثنائيات الفارسية، ترقى الى رسالة خلاصية وكونية تتوسّل تصدير الثورة. أما حرب صدام، في المقابل، فلا تعدو كونها مهمة وضيعة لخدمة أسياد مستكبرين. ولئن كان هدف الثوار الايرانيين موصولاً بالسماء، مثله مثل ولاية فقيههم، فهدف صدام ليس الا إنكاص الاسلام والمسلمين الى الجاهلية وتعدد الالهة. فهي إذاً، في القراءة الخمينية لها، معركة الكرامة ضد العمالة بقدر ما أنها مواجهة الاسلام والوثنية.
وما لم تقله الخمينية من كلام مُهين قالته الوقائع. فحتى الذين لم يستلطفوا ثورة آية الله ونظامه، أقرّوا بأنها "ثورة"، وهو ما لا يصحّ في انقلاب تآمري أوصل البعثيين، ومُشابهيهم في العالم العربي، الى سلطانهم. وفيما كانت الأموال العراقية تنهمر على أوروبا، عبر قنوات عدة، اهتم كبار مثقفي الغرب بثورة الشيخ الإيراني فحاوروها أو ساجلوها أو استغربوا طابعها الإكزوتيكي أو حذّروا من خطرها العالمي. أما النظام المجاور فلم يمسسه أحد الا برأس أصابعه.
وأهم من ذلك أن صورة الثورة التي يتآمر عليها الداخل والخارج، والتي حاول البعث أن يزعمها لنفسه بإعداماته خلال 1968-1969، شرعت تُحرزها إيران التي لاح عراق صدام ثورةً مضادة لها. وفي استنطاق دارج للتواريخ الراديكالية بدا تشبيه الحدث الايراني بالثورتين الفرنسية والروسية، ولو من هذه الزاوية فحسب أقرب، بما لا يقاس، الى المعقول. ففي الحد الأدنى، نقل الولي الفقيه بلاده من عهدها الملكي الى الجمهورية، تيمناً بما فعله الفرنسيون والروس من قبل، فيما لم يؤد الانقلاب العراقي المتمادي الا الى كشف صعوبات البناء الجمهوري وتسخيفه.
وطوّر بعث العراق نظرية "البوابة الشرقية للوطن العربي"، مخاطباً العواطف القومية والمذهبية التي يُقلقها الانتصار الايراني، ومستجدياً معونات الدول العربية الغنية والمجاورة للعراق وإيران. لكن المدهش، في اية قراءة لظاهر الأمور، أن الخميني لم يفعل إلا ما يسرّ العرب المسكونين بالعداء لاسرائيل والولايات المتحدة. فهو سمّى أميركا "الشيطان الاكبر"، ومزق اتفاقات الشاه معها وبارك احتلال سفارتها، كما أوقف تدفق النفط الايراني عليها وانسحب من "منظمة المعاهدة المركزية" السنتو. وفي حركة رمزية بعيدة الدلالة، حوّل سفارة اسرائيل في طهران مقراً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي المقابل، ولما كانت الجبهة العربية المقاومة لاسرائيل قد فقدت مصر، لم تفعل حرب العراق على ايران غير تبديد ما تبقى من جهد عربي يستدعيه التصدي للدولة العبرية.
الا ان الأمور لا تقاس بظاهرها وحده. فمن الطرفين الايراني والعراقي، ومن حلفائهما العابرين، راحت التحالفات المشبوهة تُسقى بمياه خالطها وحل كثير. فالسوفيات، مثلاً، سارعوا الى إبداء خوفهم من الأصابع الاميركية وراء السلوك العراقي، هم الذين استشعروا أن آيات الله مُستَهدفون مثلهم. فحين زار الرئيس السوري حافظ الأسد موسكو، بُعيد انفجار حرب الخليج، أصدر بياناً مشتركاً مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف يدعم حق إيران في "تقرير مصيرها بشكل مستقل ومن دون أي تدخل أجنبي". كذلك أذنت موسكو لدمشق وطرابلس ببيع سلاح سوفياتي الى النظام الخميني، فيما مضت تبيع سلاحها للعراق. وفي 1980 استأنف رئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن بيع التجهيزات العسكرية الى طهران، بادئاً بقطع غيار لمقاتلات أف-4. ولم يحل غضب جيمي كارتر الذي أوقف هذه العلاقة المحرّمة لدى انكشافها، عن استعادتها إثر وصول رونالد ريغان الى البيت الأبيض. أما الذي تولى "إقناع" واشنطن فلم يكن الا الأمين العام لوزارة الخارجية الاسرائيلية، ديفيد كيمحي. وبالفعل آلت هذه الصلة التي لقيت كل الحماسة في وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هايغ، الى ما غدا بعد سنوات قليلة فضيحة "إيران غيت" الشهيرة.
على ان هذه الغابة المتشابكة لا تحجب بعض ثوابت الحرب العراقية-الايرانية. ففي المنعطفات الأساسية كانت بغداد من يلعب لعبة واشنطن، فيما طغى على الأخيرة الارتياح الى التصدع الذي يضرب البلدين معاً. فكان عزيزاً على قلب ريغان ان تطيح إيران الخمينية والعراق البعثي والعسكري واحدهما الآخر ولو بقيت بغداد، لديه، أهون الشرّين. فهي مستعدة للتواطوء مع واشنطن، كما أنها لم تسطُ على سفارتها ولا أقامت نظاماً دينياً متزمتاً يرى في الولايات المتحدة فندقاً للشيطان الرجيم. وبهذا المعنى وحده جعل ريغان يهبّ لانجاد العراق كلما بدا تهاويه ممكناً على أيدي آيات الله. وبدورها عدّلت الاستراتيجية الاسرائيلية بعض توجهات زميلتها الاميركية الكبرى: فهي شاركتها الرغبة في تداعي الطرفين لكنها اعتبرت أن طهران، غير العربية، أهون الشرّين.
وكائناً ما كان الحال جسّد صدام، منذ أيلول 1980، المعتوه السعيد في هذه الفجيعة المتطاولة. أما العمليات العسكرية نفسها فامتلكت، في دلالاتها، فصاحةً لا تُجارى.
ففي البداية تقدم العراق في العمق الايراني في موازاة هجمات متبادلة على الموانىء النفطية للبلدين، كما راحت تشتد المقاومة في مواجهته. وسريعاً ما تبيّن أن وهم ال"بليتزكريغ" أخلى مكانه لاستنزاف مديد ومُكلف. ففي 1981 شرع الايرانيون يستوعبون الهجوم ليتمكنوا، بعد عام واحد، من إخراج الجيش العراقي من خورمشهر ويعبروا حدود العراق، حاملين بغداد المدهوشة والمشدوهة على المطالبة بمفاوضات سلام. أما طهران، وقد تصلّب عصبها وحقد مرشدها، فطالبت بإزاحة صدام ودفع تعويضات عما تكبّدته شرطاً للتفاوض. وبالطبع رفض الرئيس العراقي بعتوّه المعهود. وفي مسرحية دموية باتت شهيرة، قتل بيده وزير صحته رياض ابراهيم أحمد أو أجبره، بحسب رواية أخرى، على الانتحار، لأنه تجرأ على مطالبته بالتنحي ما دام تنحّيه يوقف الحرب. وبغض النظر عما اذا كان ابراهيم قد انتحر، أو قُتل بمسدس صدام، فالثابت أنه لفظ أنفاسه في اجتماع لمجلس الوزراء.
لكن الانتصار على وزير الصحة ليس كالانتصار على الايرانيين. وسريعاً ما راحت الأرقام تعكس المأساة التي زحفت من الاقتصاد كما زحفت من حياة البشر. فقد أظهر تراجع العائدات النفطية مصاعب العراق في سداد ديونه وتمويل الحرب. ذاك ان تسهيلاته على الخليج دُمرت مع بدايات النزاع المسلح، وفي نيسان 1982 أغلقت سورية خط أنابيب كركوك بانياس. واذا صح أن مشترياته العسكرية من الاتحاد السوفياتي وفرنسا أعانته على الصمود، مثلما فعلت المساعدات والقروض العربية، الا ان الاستدانة من الكويت وحدها بلغت، حتى ذاك الحين، سبعة بلايين دولار. وفوق هذا احتل الجيش الايراني، في تشرين الأول 1983، 270 ميلا مربعاً من الأرض العراقية، فردت بغداد بقصف المدن الايرانية والميناء النفطي في جزيرة خرج، أهم محطات التصدير النفطي الايراني، ما حمل طهران على التهديد بإغلاق مضيق هرمز. وتتويجاً لهذا الجنون المفتوح هاجمت ايران، في شباط 1984، الحقل النفطي في جزر مجنون وجوارها داخل العراق الجنوبي.
وفي حرب كلٍ منهما على اقتصاد الآخر، ازداد حقد الخميني تجذّراً في تواريخه الميتة والخرافية. فلما لم يُذعن صدام لطلب التنحي في 1982 أعلن آية الله، في تموز، "الجهاد" ضد "الشيطان"، بينما كان الهجوم الايراني يتركّز على البصرة. وإذ أبدت طهران، بعناد لم يبارحها، استعدادها للذهاب الى النهاية استخدمت، خلال 1984، تكتيك "الموجة الانسانية" في القتال. هكذا ألقت، من دون أن يرفّ جفن لآيات الله، بالشبان والأطفال في حقول من الألغام توصلهم الى الجنة. وفي نيسان، باشر الطيران العراقي هجماته على التصدير النفطي الايراني في الخليج بحقوله ومحطاته. لكن الأهم أن العلاقات الديبلوماسية بين بغداد وواشنطن استعيدت في تشرين الثاني فراحت، مذّاك، تتكاثر الاشارات إلى غزل يتجاوز عذريته المكتومة الى قدر من الاباحية الصريح.
وفعلاً تشجّع العراق فوسّع بيكار المجابهة، مهاجماً السفن الايرانية وناقلات النفط. أما في البر، فعبرت القوات الإيرانية، في آذار مارس 1985، نهر دجلة ب50 الف جندي لتغلق الطريق الأساسي الذي يربط بغداد بالبصرة، ما استدعى هجوماً عراقياً مضاداً وسقوط أعداد هائلة من القتلى في الجانبين. وفيما قصفت بغدادُ طهرانَ وأصفهان وشيراز ومدناً إيرانية أخرى، استقبلت الملك الأردني حسين والرئيس المصري حسني مبارك في ما فُسّر تضامناً عربياً مع العراق.
وبدورها لم تلن طهران التي ضاعف انزعاجَها هذا الاحتضانُ العربي والسني لغريمها. فعندما حاولت الأمم المتحدة، في نيسان 1985، التدخل لوقف اطلاق النار أبدت إيران عدم استجابة كما رفضت، في تموز، التفاوض مجددةً مطالبتها بإزاحة صدام. ولئن قُدّر عدد القتلى الايرانيين آنذاك بأكثر من نصف مليون، لم تفتر همة آيات الله فهاجمت قواتهم، صيف ذاك العام، في كردستان شمالاً وفي الأهوار جنوباً. وبادر العراقيون، من جهتهم، فشنوا هجمات جوية ناجحة على جزيرة خرج ليدمّروا، من ثم، مواقع أخرى استخدمتها طهران بديلاً منها.
وكان كل نصر بنصر وكل هزيمة بهزيمة في لعبة من التعادل الميت والمميت. فقد أعلنت بغداد في كانون الثاني 1986 أنها استعادت جزر مجنون. لكنْ في 9 شباط عبر 85 الف جندي ايراني شط العرب واحتلوا جزيرة الفاو مهددين اتصال العراق بالخليج، كما هوجمت القوات العراقية ما بين الفاو والبصرة. وأمام هذا التراجع النوعي قدمت واشنطن لبغداد صوراً ملتقطة بالساتلايت لتجمعات الجنود الايرانيين كان لها فائدة عسكرية قصوى.
والحال ان الولايات المتحدة لم تُرد انتصار صدام بقدر ما أرادت منعه من الهزيمة. بيد أنها، وعملاً بنظرتها هذه، لم تجد غضاضة في أن تطعن العراقيين كما ظهر لدى افتضاح "إيران غيت"، أو "علاقة إيران كونترا" أواخر 1986. فقد تبين ان رئيس المجلس الايراني، هاشمي رفسنجاني، ضالع في محاولة إدارة ريغان بيع اسلحة الى بلاده يُنفق بعض أثمانها على مقاتلي "الكونترا" النيكاراغويين كما تفضي الى إطلاق الرهائن الأميركان في بيروت.
وفي هذه الغضون كان الطرفان المتحاربان والمنهكان يلفظان بعض ما تبقى لهما من أنفاس. ففي شباط فتحت ايران جبهة جديدة في كردستان ما لبث ان تبين أنها عاجزة عن إدامتها، بينما كان مجلس الأمن يدعو الى وقف اطلاق النار. وفي أيار مايو غزا العراق مجدداً واحتل جزءاً من مهران التي استرجعتها إيران في تموز.
وكان لا بد، بتواطؤ واسع ضد إيران، من تدويلٍ ما للنزاع ينهي تعادل الكر والفر جاعلاً طهران الطرف الذي يصرخ أولاً. ففي اواخر ذاك العام طلبت الكويت الحماية لملاحتها من الهجمات الايرانية. وبالفعل عرضت موسكو تأجيرها اربع ناقلات، لكن الضربات الجوية العراقية المكثفة والتي أفضت الى خفض التصدير النفطي الايراني من 2،2 مليون برميل يوميا في اواسط 1986 الى اقل من 5،1 مليونا في 1988، كانت تدوّخ الاقتصاد الايراني وتضعه على شفا انهيار كامل. وفي آذار 1987 استجابت واشنطن لما بدأته موسكو متيحةً ل11 ناقلة كويتية أن ترفع علم الولايات المتحدة.
غير ان ما ظل مستوراً انكشف في أيار، فوصف الرئيس ريغان هجوماً غير مقصود من الطيران العراقي على سفينة "ستارك" الاميركية بأنه نتيجة "للعدوان الايراني الذي يتسبب بعدم الاستقرار في الخليج، مما أدى الى الخطأ العراقي". ومنذ تموز راحت السفن الاميركية ترافق الناقلات الكويتية في المياه التي لغمتها طهران، لكن الولايات المتحدة دعت كذلك الى مقاطعة إيران عسكرياً لأنها وحدها أصل الداء في تهديد الخليج أمناً وملاحةً. فلم ينقض غير شهر كانت خضعت خلاله بعض السفن الغربية للهجمات، حتى أيدت فرنسا وبريطانيا وبلدان أخرى في "حلف الأطلسي" الناتو الجهد الملاحي الأميركي في الخليج. وتشجع العراق ثانيةً في شباط 1988 فاستأنف "حرب المدن"، وما هي الا اسابيع حتى ضرب حلبجة بالسلاح الكيماوي.
ولم يردع الطرفين صدور تقرير للأمم المتحدة في نيسان يبرهن على سقوط ضحايا في الجانبين بنتيجة "استخدامٍ لسلاح نووي". فالمنطقة كانت تتبدى كلها على أتمّ الاستعداد للتوجه جماعياً الى الفناء الذاتي، لا يمنعها من ذلك الا الافتقار الى الهمّة المطلوبة لسلوك ذاك الطريق. وبمعزل عن استخدامهما الشمشوني ل"سلاح نووي" ما، بات واضحاً أن خطر أي منهما صار محصوراً بنفسه وبالبلد الآخر وحده.
إذّاك نضج توجيه الضربة القاضية الى إيران. ففي نيسان إياه انفجر لغم بسفينة ملاحية في الخليج، ما دعا الولايات المتحدة الى مهاجمة منشآت نفطية ايرانية على الساحل وإغراق ست سفن بحرية ايرانية. وبعدما عاود العراق استرجاع الفاو، سمّى الخميني، في حزيران، هاشمي رفسنجاني قائداً للقوات المسلحة التي كانت قد مُنيت بهزائم كبرى في شملشه قرب البصرة وفي مجنون ومهران وكردستان. ولم يعد لا في وسع رفسنجاني ولا في وسع غيره تعديل المسار البائس. فقد تأكد، نتيجةً للانحياز الأميركي الذي وازاه حضور ملحوظ في مياه الخليج، أن الايرانيين يناطحون الصخر. ولأن هذه الحقيقة تأكدت لهم أيضاً، أعلنوا في 18 تموز موافقتهم غير المشروطة على قرار مجلس الأمن 598 الذي كان صدر قبل عام ورفضته طهران.
وبانكسار غير معهود فيه ظهر الخميني نفسه على شاشة التلفزيون ليقول انه فعل ما هو أسوأ من تجرع كأس السم بتخلّيه عن تدمير صدام حسين. وفي الشهر نفسه كانت النيران الأميركية تُسقط بالخطأ طائرة ركاب ايرانية وتقتل 290 شخصاً، ولا يلبث خبراء في الامم المتحدة أن يصدروا تقريراً يتهم العراق باستخدام غاز الخردل في الهجمات التي شنها على المدنيين الايرانيين.
لقد قضى أكثر من مليون قتيل في الجانبين، وتم تدمير كلي او جزئي لأكثر من 50 مدينة وبلدة. وماذا كانت النتيجة؟ في أيلول سبتمبر 1990، وبعد شهر على غزو الكويت، اقترح العراق توقيع معاهدة عدم اعتداء مع ايران على ان توضع خطط لاستئناف العلاقات الديبلوماسية. والأهم هو ما حمله اعلان بغداد انها مستعدة ان تلتزم كل معاهداتها السابقة مع طهران بما فيها معاهدة 1975 التي أعلن صدام الحرب لإحباطها.
وبالفعل بدا الخميني في هزيمته أكبر من صدام في "انتصاره". فالأول لاح مأسوياً فيما لاح الثاني ملهاوياً سخيفاً أطلق الاعتداد بالنفس من كل عقال ليعود، على نيف ومليون جثة، الى النقطة التي انطلق منها. وفي هذه الغضون، سمّم البعث الأجواء العراقية، وجزئياً العربية، بعنصرية غير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، مصحوبة بعبادة لشخص صدام هي الأخرى غير مسبوقة. فالحرب انما هي "قادسية صدام" في إحالة الى معركة العام 637 م. التي حملت الاسلام الى فارس. وبهذا يكون المعنى الضمني أن العرب المسلمون الحقيقيون، فيما الفرس "المجوس" ممن سبق أن عُيّر بهم الزرادشتيون وباقي التابعين للأديان الفارسية القديمة. وتعاظمت، خلال الحرب، الجهود التي بُدئت مع وصول البعث الى الحكم لربط الشعوبية والبهائية، بوصفهما انحرافاً عن الإسلام، باليهودية.
ومنذ 1980، عام نشوب الحرب، بات "تحرير" القدس على يد نبوخذ نصّر يتلازم مع وقوف اليهود في جانب قورش، ملك الفرس الذي حاصر بابل، وفتحهم أبوابها له. وكان للضربة الاسرائيلية التي دمرت المحرّك النووي العراقي بعد عام أن عممت "نظرية" التعاون اليهودي الفارسي ثأراً من سبي نبوخذ نصّر.
ولم يبخل عراق صدام بالخرافات التي راحت تتباهى. فتولى منظّرون بعثيون أغلبهم غير عراقيين، كالسوري الياس فرح والفلسطيني ناصيف عواد، الترويج لفكرة "الانتصار النفسي" على إيران. ذاك أن الأخيرة جسد فيما العروبة، وباستعارة نيتشوية مبتذلة، نفس تضج بالأصالة وتملك "المعاناة" التي لا تعرفها الأجساد المحضة. كذلك شُرع بتأسيس "جماليات بعثية" رُذل، تبعاً لها، شاعر "فارسي" كأبي نواس، صاحب الشارع والتمثال الشهيرين في مدينته بغداد. وبموجب "الجماليات" هذه ظهر اتجاه نامٍ الى محاصرة الثقافة الشعبية كونها ما دون قومية، امتداداً لما كان حاوله قبل عقود ساطع الحصري الذي اصطدم بممانعة شيعية واسعة.
وخسر العراق، في الواقع لا في الخرافة، 450 بليون دولار في تلك الحرب، وقالت إيران أنها تكبّدت ألف بليون. وفضلاً عن مئات الآلاف ممن قضوا توسّعت الهوّة بين السنّة والشيعة العراقيين، وبين العرب والأكراد، فكسب صدام عبادة شخصيته على حساب الوطن بأسره. لكن درجة العبادة فيها ساوت، دائماً، درجة الفرض والقسر. فهو لم يصبح عبد الناصر ثانياً، بل واجه واقعاً جديداً وجد حله في حرب أخرى: إذاً الى الكويت هذه المرة.
* الحلقة الثانية عشرة الثلثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.