لم تكن بغداد هي بغداد صاحبة البوابات الأربع والمخطوطات والتأليف وبلاد الرافدين. صورة مختلفة تماماً عما رسمناه في مخيلاتنا منذ نعومة أظافرنا بل هي الصورة الحية للخراب والدمار. كانت الأمور تبدو هادئة في حملة الاغاثة الإنسانية السعودية الأولى المتوجهة الى الشعب العراقي، على رغم تعرضها لبعض التأخير "غير المقصود" لأسباب منها كبر القافلة التي يربو عدد عرباتها على 130 شاحنة، وعدد جنودها وطاقمها الطبي على 500 شخص. إلا أن الهدوء الذي سارت فيه بدأ يتلاشى تدريجياً، ويشق القلق طريقه نحو قلوب بعض أفرادها، خصوصاً عندما علموا من الفريق العسكري الأميركي المرافق لها أن مكان النوم سيكون في منطقة خطر هي حقول ألغام بعدما قاموا بعمليات مسح للمنطقة وتمشيطها وحذروا من مغبة مغادرة حدود المكان الذي تقف على أرضه العربات العسكرية والإغاثية. وسارت الأمور مثلما خطط لها من دون أي اصابات أو حوادث بين اعضاء الحملة، لتفيق من نوم الليلة الأولى مبكراً، وتبدأ مهمات اليوم الثاني على أصوات الاحتفال بيوم الحسين. ويقول ل"الحياة"، علي نبيل: "صدام أزهقنا. حتى حريتنا الدينية حرمنا منها". وكانت الحملة في طريقها نحو بغداد توقفت لدقائق معدودة مقابل قرية "النخيب" التي تبعد عن كربلاء نحو 200 كيلومتر، وتحدثت "الحياة" الى بعض الصبية والنساء الذين لم يكونوا يعرفون إلا قليلاً عن ما حل بأهلهم وشعبهم في العراق، فمدينتهم شبه معتمة لا تعرف إلا الغبار والضجر، وتفتقد كل مقومات الحياة وضرورياتها، ويمكن القول انها تعيش في عصور الظلام والعصور الحجرية ولا يميز أهلها إلا أنهم يعيشون في عصر العولمة وهم يستغربون هذا المفهوم عندما يسألون عنه، حيث لا مدارس ولا مراكز صحية ولا كهرباء ولا هواتف ثابتة أو متحركة. سألت أحد الصبية، واسمه محمد غزالي 15 عاماً، هل يدرس؟ ليرد باللهجة العراقية المحكحكة: "عيني... ما عندنا مدارس". كان التعاطف الانساني المثقل بالحزن لغة واضحة ومقروءة في عيون أعضاء الحملة السعودية وألسنتهم تجاه الأطفال والنساء الكبار، وهم يشكون حالهم وعوزهم وقلة حيلتهم، ما حدا ببعض أفراد الحملة الى توزيع الحلوى والعصير والخبز والبسكويت. لكن ذلك لا يسد رمق المساء، ولا يملأ بطن الجائع منذ سنوات الحصار، إلا أنها عبارة عن رموز تعبيرية تدل الى المشاركة والتعاطف مع شعب عربي ليس قرار نفسه بيده منذ أكثر من ثلاثين عاماً كانت الطريق نحو كربلاء متعبة ولا توجد فيها إلا وجوه بائسة لبيوت مهجورة لا تقطنها إلا القطط والكلاب وعلى جدرانها بعض الكتابات الحديثة مثل صدام اب... وصدام الخائن العميل، وكتابات تمجيدية يبدو انها قديمة منذ حكم نظام صدام منها: عاش العراق حراً وصدام قائد العروبة. وبالفعل لم يكذب من قال: "ان الإنسان يظل أكثر الأوفياء لبيئته والمحبين لأرضه"، مثلما عبر عن ذلك محمد الشمري 27 عاماً، الذي أخذ يوقد النار في الحطب ويصنع على شعلتها لملتهبة من البن العربي قهوة للصباح، ولا يتكاسل عن الترحيب بالضيوف وكأن العالم الفضائي وما يدور فيه لا يعنيه بتاتاً بقدر ما يهمه الاحتفاظ بعادات آبائه وأجداده. ويصر الشمري على رفض المدنية ويتمسك بما وصفه ب"عز العرب"، وهو الاحتفاظ بالعادات العربية" ليذكر بحاتم طي. وفي كربلاء، عندما توغلت القافلة في وسطها ظهرت بوضوح آثار القصف والدمار والدبابات والعربات المدمرة على جنبات الطرقات، والروائح الكريهة تتزايد في ظل عدم وجود بلدية لتنظيف الشوارع، والارهاق لا غيره يعلو وجوه العراقيين. كانت طائرات "الأباتشي" الأميركية تحلق في سماء كربلاء وفوق الاحتفالية الشيعية بأربعين الحسين على ارتفاع مخفوض، ولكنها لم تعد تبعث القلق في نفوس السكان، أو ترعب أطفالهم الذين لا تحبذ غالبيتهم لبس الحذاء حتى في الرمضاء الحارة. ويبدو أنها "عادة كربلية" لتعليم الأبناء الخشونة والصبر. وكانت كربلاء في ذلك اليوم تنظم صفوفها وحركتها المرورية بواسطة متطوعين من أهلها لهم خبرة سابقة في هذا المجال. ولحسن الحظ تأخرت السيارة التي تحملنا في ازدحام مروري في احدى الدوارات المرورية في وسط كربلاء ليصيح أحد المتطوعين في السائق قائلاً: "لك تحرك بسرعة... احنا بنحافظ على أرواحكم" وكأنه يعطي انطباعاً بأن الأمن لا يزال ضعيفاً. كانت المسيرات البشرية تسير في اتجاه مسجد الإمام الحسين الذي لا تبعد عنه كثيراً مبان أصابها أو دمرها القصف الأميركي وذهبت المجسمات واللوحات التي تحمل صور صدام حسين مع الريح وكشطت العبارات الصدامية من كل الساحات. لكن ذلك لم يمنع عدداً من الأهالي من شن حملة على العرب متهماً إياهم بالسكوت عن صدام ثلاثين عاماً. شطبت أسماء بعض المدارس في كربلاء وأخفيت أسماؤها وأغلقت بالطوب الاسمنتي بوابة أحدث فنادقها شكلاً ومعماراً "القريشي"، وللفضول ومعرفة الأسباب سألنا بعض الأهالي الذين أوضحوا ان ذلك يعود الى ان صاحب الفندق ربما يكون على علاقة بالنظام الصدام. وبدت واضحة في المدينة آثار القصف المدمر، وخصوصاً على مواقع "فدائيي صدام". وفي جنوببغداد مثلما في كل الاتجاهات الأخرى، تشاهد الدبابات والمدرعات العسكرية المدمرة والمحترقة على جانبي الطريق الرئيس، ولا تزال هناك بعض الحرائق التي تشتعل في بعض الأماكن ولكنها لا تشكل خطراً كبيراً على السكان. وفي وسط بغداد، مبانٍ ومساكن أجمل من غيرها وبنايات لوزارات أصبحت في خبر كان. ويبدو الخوف والقلق بوضوح على وجوه كل العراقيين الذين يتساءلون في ما بينهم عن مصيرهم ومصير بلادهم؟ وحينما تتحدث اليهم تكتشف تناقض التحليلات والتوقعات التي يحملونها عن مستقبل وطنهم وهمومه إلا انهم يحاولون أن يظهروا للآخرين مرونة لهجتهم وتوحدهم، وأن لا شيء يمكن ان يقسم بلادهم الى مدن سنية وأخرى شيعية أو مسيحية. لكنهم على قناعة تامة في داخلهم ان بينهم اختلافات مذهبية وفكرية وعقائدية، ويتفقون ظاهرياً على ضرورة أن يحكم العراق العراقيون. فهم الأقدر على ادارة ثروات بلادهم ونفطها، ويفضل بعضهم علناً أن تظل أميركا حاضرة بينهم حتى تعود الوزارات والمؤسسات المدنية الى أعمالها، وتبدأ الحكومة ادارة شؤونها وتفتح المدارس والجامعات أبوابها ومناهجها الجديدة البعيدة من شعارات صدام ومبادئ حزب البعث، وتصدر قرارات من الدولة تتفق عليها جميع الأطراف العراقية. وأبدى كثير من العراقيين الذين التقتهم "الحياة"، عدم اقتناعهم بما يردده بعض العرب "نار صدام ولا جنة أميركا" وردوا بأن على من يقول ذلك البحث عن صدام لتجربة ناره مشيرين الى انه قطع ألسن العراقيين وآذانهم وشوه وجوههم وأحرق أجسادهم بالنيران، وقالوا ان أميركا أبعدت عنهم طاغوتاً وطاغية وهم من سيتولون مهمة طرد الأميركيين. تفتقد بغداد الكهرباء والهاتف والماء العذب. وقال كثير من العراقيين أن أعداداً كبيرة من جثث الموتى رمي بها الى قاع مياه نهري دجلة والفرات ما جعل روائح الدم تؤثر في طعمه، وتزيد من تفشي الأمراض بين العراقيين. ولا يزال أهالي بغداد والمدن العراقية الأخرى يسهرون على ضوء القمر وخجل النجوم في ظل عدم وجود الكهرباء وانقطاعها عن معظم الأحياء، ويجلسون على "بسطات" متواضعة وحصر مهترئة أمام منازلهم ليتبادلوا الهموم ويشكوا مستقبلهم ومستقبل أبنائهم ويتذكروا كاظم، مظفر وسعيد الذين ذهبوا ضحايا الحروب والحصار، ويصبّروا بعضهم بعضاً في ظل انعدام كل الضروريات الحياتية والمعيشية. وتنتشر ظاهرة الإشاعات بين العراقيين، خصوصاً في أوساط النساء اللواتي يمتلكن كماً هائلاً من الأخبار لنشرها، ومنها ان صدام حسين في تكريت ويقاوم القوات الأميركية بقوة وسيعود ليحكم العراق ويحرق السكان. وتقول أم يعقوب 38 عاماً "أميركا وبريطانيا ستنقلان الى سجونهما كل من تجد انه يتجول بعد غروب الشمس وعلينا الاختفاء وعدم الظهور إلا في الصباح". وتتعدد الإشاعات بين المجتمع البغدادي وتتزايد في ظل غياب حكومة مركزية.