لم يخطر ببال الأم ان طفلها المولود حديثاً سيعاني اضطرابات مرض التوحد. وقد تطلّب الأمر اربعة اشهر، حتى بدأت تلاحظ عليه بعض السلوكيات الغريبة. فلم يكن "فريجي" يركز النظر في عينيها، ولم تكن تظهر عليه اي ردة فعل تعبيراً عن عواطفه وحاله المزاجية. بل كان دائم البكاء والصراخ. وجاء تشخيص طبيب الأطفال جائراً، اذ اعتبر ان حال الطفل لا تعدو كونها مجرد "دلع وغنج". غير ان الأم بقيت على قلقها، وإن لم تتصرف بوحي من ذلك. فاستسلمت الى فكرة ان الوقت كفيل بأن يصلح الأحوال. واقتضى الأمر سنتين حتى تتأكد من ان الولد مختلف عن اخوته، لجهة افتعاله حركات مكررة بيديه، وعجزه عن النطق إلا بكلمات معدودة "لم نكن نعلم بطبيعة هذا المرض. غير ان كشفاً طبياً ثانياً، رفع النقاب عن احتمال اصابته بالتوحد"، تقول والدة "فريجي". وتضيف: "ان اكثر ما أثقل كاهلنا وضاعف عذابنا النفسي، تعدى طبيعة المرض بحد ذاته وصعوبة معالجته، ليتجلى بشكل مركز، في غياب المراكز والجمعيات المتخصصة والقادرة على استيعاب كل طفل يعاني التوحد، فبعدما تكبدنا مشقة كبيرة لتقبل وضع الولد، وقعنا مجدداً في الشك، وذلك عندما قررت مديرة احد مراكز العناية، انه ليس متوحداً، بل متخلف عقلياً. ولم تكن هناك اقسام متخصصة بمرض التوحد... شعرنا بأننا متروكين لضياعنا، وأننا عاجزون عن مساعدة فريجي"... ما هو مرض التوحد؟ يكثر عدد الأولاد المصابين بمرض التوحد. و"التوحد" هو التعريب لكلمة "autism" بالإنكليزية، غير انه لا يستوفي المعنى الدقيق للمرض. وقد يوحي للعامة بأفكار مغلوطة عن طبيعته. فهذا المرض عبارة عن ضعف في التواصل الاجتماعي الناجم عن اعاقة مرتبطة بنمو الدماغ. وعادة ما تظهر عوارضه خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل. إذ لا تمكن ملاحظتها بشكل واضح قبل سن 24 الى 30 شهراً. ولم تتوصل الأبحاث العلمية حتى اليوم، الى نتيجة قاطعة عن الأسباب المباشرة للتوحد. فبعضها ينسبه الى خلل بيولوجي في الدماغ، وتعيده اخرى الى خلل وراثي او الى رد فعل اجتماعي تربوي سلبي. وبحسب د. جان فياض وهو اختصاصي في الطب النفسي - العقلي للأطفال ثمة ثلاثة انواع من العوارض الأساسية التي يجب توافرها، حتى يتم البتّ بالإصابة بالتوحد: 1- عوارض ذات علاقة بمقدرة الولد على التواصل اللغوي وغير اللغوي. ويكون تطور اللغة والتعبير لدى المتوحد بطيئاً، وقد لا يحدث ابداً. 2- عوارض تعكس صعوبة في التواصل الاجتماعي، وهو ما يوحي بصفة "التوحد"، اذ يظهر وكأن الطفل يعيش في عالمه الخاص، ويمتنع عن التجاوب مع المحيط. 3- عوارض تعكس اختلاف طبيعة اهتمامات الطفل المتوحد مقارنة بغيره من اقرانه. ففي طريقة اللعب مثلاً، يتصرف باللعبة بغير وجه الاستعمال الأمثل. وبحسب فياض، ثمة عدد كبير من الأطفال المتوحدين يملكون قدرة على التواصل مع محيطهم، وإن كانت قدرة جزئية. ومن هنا يظهر امكان تحسين هذه القدرات من خلال العلاج. وتشير الدراسات العلمية الى ان بين 1 و5،1 في المئة من الأطفال مصابون بأحد اشكال هذا المرض. ويمكن للعوامل الوراثية في بعض الحالات، ان تشكل عاملاً للإصابة به. علاجات التوحد ربما لا يسهل على الأهل تقبل فكرة ان ابنهم متوحد، لا بد للطبيب النفساني المعالج من ان يعتمد الدقة في التشخيص وجلاء عوارض المرض قبل الجزم بالإصابة به. وتعتبر د. كارولين قرداحي المُعالِجة النفسانية المتخصصة بالأولاد ان العمل مع الأهل مهم ويشتمل على الحوار التشخيصي العيادي ويهدف الى جلاء عوارض التوحد خلال مرحلة النمو الأولى للولد. وعلى مستوى آخر، من البديهي ان يستند التشخيص كذلك الى العمل المباشر مع الولد، ومراقبة ردود فعله وسلوكه اثناء اللعب معه. فضلاً عن اخضاعه لاختبار معدل الذكاء لمعرفة عمره الذهني، ونقاط القوة والضعف في قدراته على الاستيعاب. والهدف من ذلك مساعدته على تطوير مهاراته وقدرته على التعبير عن العواطف، وخلق خطة تدريب لنقاط الضعف... وتفضّل د. قرداحي وجود الطفل في اطار مركز متخصص، ذلك ان العلاج يتطلب توافر كادر طبي متخصص. وعادة ما يتكون هذا الفريق من اختصاصي في تقويم النطق ومعالج نفساني واختصاصي في علم الأعصاب. وإذا كان هناك نقص كبير في عدد التربويين المتخصصين وكذلك في عدد مراكز العلاج لاستقبال الحالات الحادة من التوحد، إلا ان في الحالات المتوسطة، يمكن ان يكون الولد في مدرسة عادية، وضمن صفوف خاصة بالمتوحدين، شرط ان تكون مدعمة بفريق عمل متكامل. اسس التواصل ومن اهم اهداف العلاج، مساعدة المصاب على التواصل الاجتماعي. ولذلك يتعدى دور اختصاصية تقويم النطق تحسين نوعية ما ينطق به، الى جعله يتفاعل اجتماعياً مع الآخرين. وتشمل أسس التواصل بحسب الاختصاصية اوديت اوبا، تدعيم النظر والسمع والانتباه والتركيز، وكذلك استعمال الحركات والإشارات. ويُصار الى توجيه اهتمامات الطفل الى نوع من التسلسل الفكري والتنظيم المنطقي، ليتمكن من استعمال الرموز وفهمها وكذلك استعمال مهارات الذاكرة الزمنية والمكانية بطريقة سليمة. وإذا لم يتوصل الى التواصل الشفوي، عندها يجب البحث عن طريقة اخرى للتعبير، ولو كانت "ابتكار" لغة خاصة من الرموز الشفوية، تهدف الى تركيب جملة، او اللجوء الى رموز مرسومة تدل الى فكرة معينة. ويتم كل ذلك من خلال اللعب معه. وتلفت اوبا الى ان المتوحد عادة ما تكون لديه قدرة على فهم حرف او اثنين من الكلام. ولا يستوعب الجملة كاملة. من هنا ضرورة تدريبه على الفهم والاستيعاب. وكذلك الأمر بالنسبة الى ادراكه السمعي والبصري. إذ من المهم ان يلتفت الولد الى مصدر الأصوات وأن يميز بينها. ويتم اعتماد ماهيات برنامج العمل الأنسب، بالاستناد الى مستوى الولد من ناحية التعبير الشفوي او غير الشفوي، الفهم والمنطق. وقد تطول مدة العلاج، بحسب حدة كل حالة. وتنتهي مع بلوغ الولد مستوى معيناً من التواصل الاجتماعي يساعده على الاعتماد على نفسه. وعندها يستطيع ان ينضم الى احد مراكز العمل والمحترفات المختصة لتدريبه على القيام بمهنة معينة.