إذا كان "معسكر السلام" في العالم استسلم لتشريع الاحتلال في العراق، ومن تحت قبّة مجلس الأمن وقبعته الاميركية، هل يقوى العراقيون على الذهاب في طريق معاكس؟ هل يمكنهم ادعاء ان في بلدهم الآن ما يمكّن من اقتسامه حصصاً، كما تخطط دول ذاك المعسكر لمرحلة إعادة الإعمار؟ أيمكن قادة المعارضة الذين عادوا من منافيهم ان يزعموا صمود تحالفهم مع واشنطن بعدما طعنت به بخنجر الحاكم بول بريمر... لتذكّرهم بطعنة ما بعد انتفاضة 1991؟ بين هؤلاء من كانوا مخلصين في علاقتهم مع "صقور" الادارة الاميركية، بل شجعوهم على الدفع بخطط الحرب، لحجز مقاعد في قصر صدام بعد إطاحته. حتى هؤلاء صدمتهم مشاريع المنتصر الذي ظنوا انه سيبادر "كرماً" الى اقتسام الانتصار معهم، بعدما أعطوه مزيداً من الذرائع للغزو، وتخلى سريعاً عن التحالف معهم... بل ان بريمر وجّه صفعة قوية الى كل رموز المعارضة العائدة من الخارج، وهو يشكّك علناً بشرعية تمثيلهم ولو لبعض العراقيين. وليس تأجيل "المؤتمر الوطني" الذي سيرعاه الحاكم ذاته، إلا لتحجيم العائدين، وتشجيع ظهور قيادات اخرى، او اختراعها. في المبدأ صحيح انهم لا يعبّرون عن كل الاصوات في عراق ما بعد الحرب، وان الانتخابات وحدها هي التي سترسم خريطة القوى السياسية في البلد، لكن الصحيح ايضاً ان استعجال الاحتلال وسلطته حرق قيادات انفقت واشنطن الكثير من الجهد والمال والوقت لجمعها تحت راية إطاحة نظام صدام، ليس من شأنه سوى تحويل التحالف معها الى عداوة، واقناعها بأنها كانت اداة من ادوات الحرب... وجاءت ساعة الحقائق الآن. من تلك الحقائق ايضاً، ان "معسكر السلام" الذي هُزِم امام الامر الواقع، فاعترف بشرعية للاحتلال الاميركي - البريطاني، من خلال قرار مجلس الامن الرقم 1483 لن يكون مستعداً لصدام آخر مع واشنطن، ولا لرفع الصوت ضد مشاريع بريمر الذي أنكر على جميع العراقيين حقاً وطنياً في بت مصير جيشهم، فاستعجل حلّه او نعيه، بعد تحلله وتشرذمه، وكأنه جيش الرئيس المخلوع. وبديهي انه لن يكون لهم ايضاً حق في اعادة بنائه، بل هو ابن الحاكم الاميركي بالتبني. حين هلّلت اوساط الكرملين لإنقاذ مجلس الامن وإحياء روح وحدته، بقرار يشرّع للمرة الاولى احتلال بلد، رفعت راية "انتصار الجميع في العراق" فأميركا وحليفتها بريطانيا انتصرتا بالقوة، لتشكّلا مستقبل البلد، وكأن ذلك حق مُكتسب، بصرف النظر عن ادعاء نيات سيئة، تفوح منها روائح النفط وعائداته ومشاريع تحديث منشآته. وروسيا ببليوني دولار انتصرت على خسارة الديون والعقود القديمة، على رغم كل "شغبها" في مجلس الامن قبل الحرب، وامتناعها عن التطوع لمنحها شرعية. ولكن، أي فوز للعراقي في بلد مدمر، لا يجد حوله سوى المقابر الجماعية، وتاريخ ثلاثة عقود من المآسي والخراب الوطني والاجتماعي... وليس فوقه سوى حاكم اجنبي؟ واذا كان الكونغرس يتململ من خطط الاخير ونفقاتها، ونيات البنتاغون، هل للعراقي ان يرشقه بالورود؟ قبل ان يجد رغيف الخبز، يبقى لواشنطن ان تراهن على اقامة علاقة مودة بين اهل البلد والاحتلال وسلطته، وهذه ايضاً من الظواهر الشاذة، اما بعد الرغيف فالجميع سيفكر في مصير الاجنبي وبقائه. سنة؟ سنتان... تلك الحلقة المغيّبة من قرار مجلس الامن لا تثير سوى الريبة في خطط بريمر الذي لن يستطيع في كل الاحوال ان يقدم "رشاوى" لملايين العراقيين من جيوبهم وثروات بلادهم، وحقوقهم في السيادة. ولأن تجارب التدخلات الاميركية لا تنتهي الا بهزائم للمنتصر والمهزوم، لا يمكن الحاكم الآتي من كوكب الولاياتالمتحدة ان يفصّل بلداً بالقوة، من البصرة الى بغداد وكركوك، بمواصفات كاليفورنيا ولوس انجيليس. أليست شعارات التنديد بالاميركي التي رُفعت في كابول امس، مجرد مثال على أحلامه؟ ومن أحلامه ألا يرى "دولة اصولية" في العراق، "صنواً" لايران، لكن تأجيل نقل السلطة الى العراقيين، والحرص على الامساك بالمستقبل السياسي للبلد، سيغذيان التشدد الاسلامي في الشارع، ويغريان المعارضة "السابقة" باستخدام هذا التشدد اداة في معركة انتزاع القرار. ولكن من يضمن عدم انفلاته؟