لا ريب في أن ما شهده العالم العربي خلال الشهر الفائت، كان زلزالاً حقيقياً. لكن الزلزال، في عرفنا، لم يكن في سقوط صدام حسين المدوي، ولا في الاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق، ولا حتى في الفوضى التي تلت سقوط العاصمة العراقية، ولا تزال مستشرية حتى اليوم. فهذا كله كان متوقعاً، منذ زمن، وتحقق في شكل ممنهج كما يمكن لأي برنامج عمل موضوع بدقة أن يتحقق. الزلزال الحقيقي كان في مكان آخر: هناك في الشارع العربي. في ردود فعل جماهير هذا الشارع، وفي أكثر الأحيان نخب العالم العربي. والحقيقة أنه لو لم يكن هناك زلزال كبير آخر سبقه بنحو ثلث قرن، لكان من غير الممكن الحديث عن هذا الزلزال الجديد، بالاستهجان والاستغراب نفسيهما اللذين يحق للمرء أن يتعامل مع ما يحدث الآن بهما. ففي العام 1967، حين وقعت كارثة حزيران يونيو "حرب الأيام الستة" في التعبير الغربي، و"النكسة" في التعبير العربي، كان يمكن للمرء أن يفهم ردود الفعل الشعبية، الغاضبة الى درجة جلد الذات، والشاعرة بالمرارة الى درجة تشبه الانتحار التاريخي. ذلك ان "الأمة" و"جماهيرها" في ذلك الحين كانت موعودة بالنصر، وكان يمكنها أن تصدق. الإعلام والخطاب السياسي وعداها بذلك... ولما كانت "الأمة" تعيش صعوداً قومياً وإيماناً عميقاً بقيادة كان شعارها "ارفع رأسك يا أخي"، لم يكن من الممكن لها أن تكذب إعلام "صوت العرب" حين كان يعدها بالوصول الى تل - أبيب، ويبشرها بسقوط طائرات العدو كما تسقط العصافير الضعيفة في رحلة صيد مسلية. و"الجماهير" حين اكتشفت الحقيقة، تساءلت في طريقها عما إذا لم يكن جزء كبير مما عاشته، حتى من قبل "النكسة" وهماً وكذباً صنعهما إعلام مدجَّن مدجِّن. وكان من الطبيعي ازاء الضياع العام الذي استشرى في ذلك الحين، ان تعمد النخب، وقطاعات كبيرة من الجمهور، الى سلوك دروب الوعي... وراحت الكتابات وضروب النقد الذاتي تهل واعدة بوعي مستقبلي مملوء بالنقد الذاتي بعد الهزيمة عبر "حفلات غضب صاخبة من أجل حزيران"، وتساءل الشعراء "عمّن يحمل الآن عبء الهزيمة فينا"... وجاء ذلك كله رداً على أقانيم مثل "خللي السلاح صاحي" و"اضرب يا أخي" وما الى ذلك. ويومها أدين العقل العربي في شكل عام، لا الإعلام وحده. وكان من المفروض ان جملة الكتب والأفلام والأحداث التي انتشرت خلال المرحلة التالية أيقظت العقل العربي الجماعي من سباته على وقع الكوابيس المستشرية... وكان من المفروض بالتالي أن ذلك الزلزال سيكون الأخير، وعلى الأقل بالنسبة الى تفاعل "الجماهير" العربية مع الأحداث المقبلة. وبين "النكسة" في العام 1967 و"سقوط بغداد" في العام 1993، وأكثر من ثلث قرن خيل للكثر خلالها أن ثمة وعياً جديداً - وإن كان كامناً - يمكنه أن ينتفض لدى أي مناسبة أخرى، ليؤكد أن "الجماهير" استوعبت دروس "النكسة" ولم يعد لها أن تنخدع. ولكن الذي حصل هو العكس تماماً. فهل علينا أن نقول ان "الإعلام" العربي في شكل عام، والفضائي في شكل خاص لعب الدور السلبي الأول والأخطر في هذا كله؟ يقيناً أن الإعلام بريء من احتلال العراق وسقوط بغداد وانهيار "القائد الملهم"، لكن الإعلام العربي الفضائي خصوصاً ليس بريئاً من ردود الفعل التي حلت بالشارع العربي ازاء ما حدث. فمن المذيعين المتحمسين، الى المراسلين المتهورين، الى "الخبراء الاستراتيجيين" المعينين أنفسهم هكذا من دون أن يسألهم أحد لماذا وكيف، جرى الحديث عن الصمود والانتصارات، وشجعت الصورة غلاة الغاضبين على رفع صور ذاك الذي قتل من العراقيين والإيرانيين والكويتيين، بل حتى من اللبنانيين الذين علينا ألا ننسى كيف أنه موّل حربهم الطاحنة، مرة يساعد هذا الطرف بالسلاح والمال، ومرة يساعد ذلك الطرف وصولاً الى المصريين الذين لم يمكّن أحد من إحصاء عمالهم القتلى في عراق صدام حسين... الإعلام هو الذي حول حرباً غايتها - مهما كانت النيات الخلفية غامضة - إسقاط نظام بات لا بد من اسقاطه ومحو ديكتاتور لم يسئ الى الأمة أحد بقدر ما أساء، ولم يفقر الشعب العراقي لص بقدر ما أفقره هو، الإعلام هو الذي حول هذه الحرب الى "حرب على العراق". والإعلام هو الذي ماهى بين الأمة وديكتاتورها. والإعلام هو الذي اخترع صموداً ليس له وجود. والإعلام هو الذي استضاف يتامى صدام والمستفيدين منه على حساب خيرات الشعب العراقي، ليحرضوا "جماهير الأمة" حتى ضد العراقيين الذين صار همهم الصارخ أن يستعيروا عبارة محمود درويش الشهيرة: "ارحمونا من هذا الحب القاسي". وتماماً كما فُعل بالفلسطينيين تدخلاً وتحريضاً حتى الذبح وفقدان كل ما كانوا كسبوه منذ "أوسلو"، فُعل بالشعب العراقي... في هذا كله كان الإعلام الفضائي العربي، عموماً، متميزاً، ذكر بأزهى لحظات صوت العرب ونجمه أحمد سعيد. و"جماهير الأمة" - أو من صوّر منها على الأقل - تبع ذلك كله. بل ان الفضائيات التي حاولت في البداية أن تسلك شيئاً من الموضوعية وتذكر بأن المطلوب رأس صدام لا رأس العراق، هي الفضائيات الأخرى - غير "الجزيرة" مثلاً، التي تبنت منطق النظام العراقي - هذه الفضائيات سرعان ما وجدت نفسها مرعوبة أمام صور بثت لأول التظاهرات العربية الحاشدة رافعة صور الديكتاتور، فانجرفت في اللعبة خوفاً من أن توصم ب"العمالة" ومناصرة الأميركيين... وراح المراسلون المتباكون على صدام أكثر من تباكيهم على العراق نفسه يصولون ويجولون، وراح الخبراء يبدعون في رسم الاستراتيجيات. ثم حين "سقط صدام" - وسيقال "سقطت بغداد" و"سقط العراق" للأسف! - ساد الوجوم والحزن، في وقت كان فيه العراقيون أنفسهم فرحين مستبشرين بمستقبل طيب، واعدين أنفسهم بالتخلص من الأميركيين وحلفائهم حين تستتب الأمور. "فوجئت" الأمة إذاً وفوجئت "جماهيرها"، لأن الإعلام كان وعدها بغير ذلك. الإعلام الذي ظل، وحتى كتابة هذه السطور يسمي صدام حسين ب"السيد الرئيس" تلفزيون "المستقبل" مثلاً، والإعلام الذي من على "الجزيرة" لم يخجل في أن يقول يوم صوّر سقوط صنم الديكتاتور العراقي، بالحرف الواحد: "حسناً... ها هو تمثال الرئيس صدام حسين صامد شامخ مطلقاً العنان حتى السماء"، وحين سقط وبقيت قدماه معلقتين بالقاعدة، أضاف: "سقط التمثال، لكن قدميه ظلتا راسختين في الأرض الصلبة... أرض العراق". فما الذي يجب الآن أن يتغير؟ في الإعلام على الأقل من المؤكد أن ما يجب أن يتغير هو هذا اللهاث وراء شارع نعرف أن من يحركه ليس بريئاً وليست له علاقة بعفوية الجماهير. يجب ألا يترك الإعلام في أيدي أيتام صدام حسين، وأحفاد أحمد سعيد. ولكن هذا لن يكون كافياً. ف"الزلزال" الجديد يحتاج الى وعي جديد. وعي تدرك فيه التلفزة والفضائية خصوصاً ان مثل هذه المسائل أكثر جدية من أن تترك في وهدة الخوف من الشارع أو محاولة مسايرته... وهذا لا يبنى إلا من خلال استراتيجية متكاملة تتنبه الى هذه الخطورة. وهي ستشكل بالنسبة إلينا محور حديث مقبل يواصل هذا الحديث.