تذكرنا الحال التي يعيشها أركان المؤسسة الكمالية الحاكمة في تركيا - بوجهيها المدني والعسكري - هذه الأيام بالمثل الكردي القائل: "اذا قرب أجل النملة ظهرت لها الأجنحة". فمن الملاحظ ان هؤلاء يدركون بحكم تجربتهم ان العد التنازلي لأيام عزهم قد بدأ، خصوصاً بعد ان شاهدوا بأم أعينهم ما حدث لجارهم "الموثوق به"، وشريكهم في عملية قمع الشعب الكردي. وهم يعرفون ان الظروف الحالية تختلف كثيراً عن تلك التي سادت المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ففي ذلك الوقت تمكن مصطفى كمال بأسلوبه البراغماتي، غير الملتزم بعهود أو مواثيق، من استغلال الخلافات بين الحلفاء من جهة، وروسيا الاشتراكية من جهة ثانية. واستطاع ان ينجو بالدولة التركية من خطر كان يهددها بالتقزيم، إن لم نقل بالزوال. فقد نجح - اعتماداً على دهاء عصمت اينونو - في المصادرة على التوجهات الأرمنية المشروعة. كما بلغ مآربه في تضليل الزعماء الأكراد بقطع وعود خادعة على نفسه، وتوسله اليهم في رسائله واجتماعاته. فلما سنحت له الظروف انقض عليهم بشراسة نادرة، من دون اي وازع. فارتكب المذابح في حق رجال الدين والعلمانيين وعامة الناس. وكان يحلم دائماً باسترجاع ولاية الموصل، ليتمكن من الغاء الهوية الكردية الى الأبد. ان قراءة المواقف الكمالية، في ضوء مستجدات اليوم، مدى ذكاء وبعد نظر مصطفى كمال الذي كان يتحسب للمستقبل، ادراكاً منه لحتمية قدوم ذلك اليوم الذي يبلغ الأكراد فيه مستوى من الوعي والقوة يؤهلهم للمطالبة بحقهم السليب. لذلك كان يعمل من اجل تدارك الوضع قبل ان يستفحل. ولما تعذرت عليه استعادة الموصل، اعتمد استراتيجية الاندماج العضوي البنيوي مع خصومه الأقوياء. فتخلى عن الهوية والشخصية، وفرض التغيير الشكلي بالقوة بدءاً من الغاء الخلافة والتخلي عن الأبجدية العربية، وانتهاء باللباس. كل ذلك من اجل التزلف الى القوى الغربية التي كانت - وما زالت - مقاليد المصائر في يدها. ووضع اللبنات للإصرار على الانتماء الأوروبي لأن قسماً من أراضيها يقع في القارة الأوروبية. ويعلم القاصي والداني ان هذه الأراضي، ومدينة استانبول بالكامل، الى مناطق اخرى واسعة الى الشرق منها، كانت تاريخياً جزءاً من الأرض اليونانية، استولى عليها الأتراك. ويبدو ان العامل الذي ساعد تركيا، أكثر من غيره، هو الدور الذي أنيط بها في الحرب الباردة، اذ مثلت قاعدة عسكرية متقدمة "للناتو" الأطلسي قريبة من منابع النفط والمياه الدافئة، ومجاورة للاتحاد السوفياتي. في ظل أجواء كهذه اعتبر الاكراد أتراك الجبال. وفرضت بالقوة عملية تتريك مستمرة لألقابهم واسمائهم، وغيّرت اسماء مدنهم وقراهم، واعتمد أسلوب التوطين والتهجير بغية تحوير الواقع السكاني. وكان الهاجس الدائم للمؤسسة أكراد الجنوب. لذلك كان السعي التركي الحثيث في ميدان التنسيق مع الدول المعنية بالمسألة الكردية سورية، العراق، ايران بغية الاتفاق على التدابير التي من شأنها مواجهة الخطر الكردي قبل خروجه عن حد السيطرة. وفي يومنا يبدو ان المعطيات تبدلت. وتركيا لم تعد القاعدة العسكرية الوحيدة سواء للولايات المتحدة الأميركية أو "الناتو" في المنطقة. والنزوع الأميركي الى الوجود العسكري المباشر فرض على النظام التركي موقفاً لا يحسد عليه. وهو لا يزال يتحرق شوقاً الى المجد الامبراطوري الغابر، على رغم تهاوي الاحلام الوردية في آسيا الوسطى، بعد الحرب الأفغانية، واقدام الدول "الشقيقة" هناك على بناء علاقات مباشرة مع الولاياتالمتحدة الأميركية، بعيداً من وصاية وتوجيهات النظام التركي الذي كان عقد الآمال الكبار على الكيانات الوليدة هناك بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ان ادعاء حماية التركمان في كركوك، المدينة الكردية باعتراف الأتراك أنفسهم، يضر التركمان أنفسهم. لأن ادعاء كهذا يفقد التركمان فرصة الاندماج في المجتمع العراقي، بعربه وأكراده وسائر مكوناته القومية والدينية، من آشوريين وكلدان وشيعة وسنة وصابئة وغيرهم. لكن العقلاء في البيت التركماني - وهو الغالبية فيما يبدو - لا يريدون لأنفسهم ان يكونوا موضوعاً لتجربة قبرصية اخرى تسلبهم حقوقاً وإمكانات واقعية يتمتعون بها في مقابل وعود هلامية يطلقها أركان مؤسسة تتداخل في ردهاتها الشبكات الفاسدة والمشبوهة. لندن - د. عبدالباسط سيدا