العراق... من يستطيع أن يتحدث اليوم عن غير هذا الاسم الكبير؟ من يستطيع أن يشاهد أحداثاً غير التي تجرى فيه؟ حرب، غزو، عدوان... قتلى، أيتام، أرامل، نهب... دمار. كلمات تختلف في معانيها وفي قوة دلالتها، ويمكن استخدامها لوصف ما يتعرض له العراق وأبناؤه. لكن، هناك كلمة، تكررت قولاً وفعلاً، لا يمكن تجاهلها: الخطاب. كلمة بسيطة في لفظها لكنها ذات معنى تتساقط القواميس فشلاً أمامها. خطاب الرئيس العراقي "السابق". يمكن الحديث عن خطاب الرئيس العراقي بالمفرد مع معنى الجمع، الخطابات خطاب. لكن، ما سر تكرار الخطابات الرئاسية؟ هل هي الحرب؟ ربما ولكن هل لها دور أثناء الأزمة؟ لا. لم يكن هذا الخطاب أبداً هو الأداة التي يستخدمها الرئيس العراقي للحوار والإقناع. لم يكن يعرف غير البارود، شيء آخر مختلف عن الخطاب. لا يمكن أن تقنع بالخطاب من عايش عقوداً لغة القتل. لا يمكن الكلام أن يتغلب على التجربة، لا يمكن لصورة الزعيم الخطابية أن تتغلب على صورته التي عاشها الفرد خلال سنين. لا يمكن أن يتم تُقتل الأماكن الآمنة ثم يحاول أحدهم احياءها بكلمة. ما بين الرئيس العراقي والمواطن العراقي كان يمكن أن يكون مكاناً آمناً يلجأ اليه الطرفان عند الأزمات لو أن العلاقة بينهما كانت طبيعية. لو كانت العلاقة بينهما طبيعية لما رأينا ذلك الخبر الصغير الذي ظهر في شريط الأخبار لجميع القنوات العربية تقريباً ومفاده ان الرئيس صدام حسين يقرر دفع مكافأة قدرها... دينار لم يأسر عسكرياً أميركياً أو يوقع طائرة أو... أو... لماذا يقدم رئيس دولة مبلغاً من المال لمن يقوم بالدفاع عن أرضه وقتال من غزاه؟ لنلاحظ ان المكافأة هنا تذكر قبل الفعل وليست بعده. عندما تذكر مكافأة لشخص ما قبل الفعل يعني انه سيقوم بعمله من أجل المكافأة، أما بعد الفعل فيعني انه قام بعمله عن قناعة. ولا تستخدمون الآخرين كالولايات المتحدة مثالاً فهي عندما تذكر المكافأة فإنها تتوجه الى العالم وليس للأميركيين. إذاً لماذا اعتقد صدام بأن المكافأة يمكن أن تلعب دوراً؟ لمعرفة الإجابة دعونا نذهب الى الأيام الخوالي، الى الزمان الأول. سؤال: من هي الشخصية الأكثر أسطورية في تاريخنا العربي؟ حسناً، لأكون أكثر موضوعية. من هي الشخصية التي لا يمكن تجاهلها عندما نعدد الشخصيات الأسطورية في تاريخنا؟ عنترة، أليس كذلك؟ لا يمكن أن تذكر البطولات وصولات الحروب والعشق من دون ان يمر اسم عنترة. دعونا نقرأ خبراً قصيراً من سيرته. خبر لا يختلف في طوله عن ذلك الخبر الذي قرأناه عن مكافأة الرئيس صدام حسين. يقال، والعهده على الراوي، ان قبيلة عربية أغارت على قبيلة أخرى. وكما هو الحال عند غارات العرب على بعضهم البعض يصاحب ذلك القتل والسلب والنهب... يبحث القوم عن منقذهم من هذا المأزق وللصدفة العجيبة يكتشفون ان هناك مخلصاً للقبيلة وأهلها. لكن هذا الشخص موجود في المكان الخطأ! لم يكن موجوداً بين الفرسان المدافعين عن شرف القبيلة، كان هذا الشخص منهمكاً في عمل آخر. كان جالساً بين غنمه يحلبها، انه عنترة. الوقت وقت حرب ومن غير عنترة يستدعى وقت الشدائد؟ الى اليوم نستدعي عنترة، عند الخوف نفكر فيه وعند الجرأة نتخيله وعند الحب نهيم معه. ذلك ليس غريباً، فمن خلال ما قرأنا وسمعنا نحن أمام شخصية لا يمكن أن تتكرر. من منا لا يريد ان يكون عنترة؟ سؤال سخيف، فكلنا يريد ذلك، على الأقل حتى حين. لنعد الى القصة، في أثناء الغارة وأثناء ما كان بطلنا يحلب شياهه يأتي والده فيقول له: كر يا عنترة. ولكن عنترة يرد: العبد لا يحسن الكر والفر وانما الحلب والصر. يفهم الأب المغزى فيقول: كر يا عنترة وأنت حر. يكر عنترة فيصول ويجول وينقذ القبيلة من العار ويحمي أهلها ويخلص أسراها... هذه القصة نسمعها دائماً عند مدح عنترة وذم والده الذي لم يكن قد اعترف به كابن له. لنقرأ القصة مرة أخرى. القبيلة في أزمة، أبناؤها يقتلون ونساؤها يُسبين وأطفالها يشردون وأموالها تنهب. انها في أمسّ الحاجة لأبنائها، كل أبنائها. لكن عنترة كان لديه الوقت ليتحدث عن أهل الكر والفر وأهل الحلب والصر. هل تريدني أن أكر وأفر؟ هل تريدني أن أنقذ القبيلة؟ حسناً عليك ان تحررني، هكذا كان لسان وحال عنترة يقولان. يقول الكثيرون ان الأب حرب ابنه من العبودية، ويقصدون بالعبودية معناها المتداول والشائع، أي أن عنترة كان عبداً مملوكاً. الواقع ان سير القصة لا يخبرنا بأن عنترة كان مملوكاً لأحد، حتى وان كان تحت يد والده. هو يعلم انه ابن هذا الرجل الواقف أمامه ووالده يعلم أنه والد هذا الشاب الواقف أمامه. لماذا قال عنترة إذاً: العبد لا يعرف الكر والفر وانما الحلب والصر؟ عن أي عبد يتحدث يا ترى؟ لنعرف هذا العبد علينا أن نركز في هذا التقسيم الذي أقامه عنترة: الأعمال اما كر وفر أو حلب وصر. وليته اكتفى بذلك، بل انه حدد لكل عمل أهله. الحلب والصر عمل له أهله وهم العبيد. بمجرد ربطه بين هذا العمل وهذا الصنف من الناس، أي العبيد، يكون عنترة أقر ضمنياً بشيء آخر: الكر والفر عمل السادة. وهو... الى أي مجموعة ينتمي؟ من خلال كلامه نجده بين أهل الحلب والصر ولكنه لا يعتقد بانتمائه لهم. واضح ان مقولة: العبد لا يعرف الكر والفر وانما الحلب والصر أتت في مقام التهكم من الحال، ولا يخفى على أحد ذلك البعد التدليلي الذي يتجاوز حرفية العبارة. ان عنترة بكلامه يتصنع البراءة في حين أنه يعني شيئاً آخر: مكاني الصحيح بين السادة، بين أهل الكر والفر. وإذا أخذنا في الاعتبار التوقيت الذي قيلت فيه العبارة فسيكون من السهل ملاحظة المفاضلة. يفاضل عنترة بين أولئك الذين يحملون السيف وأولئك الذين يحملون الحليب، وبما ان الوقت وقت حرب فالكفة ستميل لأهل السيف. بمصطلحاتنا الحالية، بماذا يمكن أن نربط الكر والفر وبماذا يمكن أن نربط الحلب والصر؟ ألسنا أمام المجتمع العسكري والمجتمع المدني. كان عنترة يفاضل بين ما هو مدني وما هو عسكري. العمل المدني في اعتبار عنترة عمل حقير لا يمكن أن يقدم أو يؤخر لذلك لا يقوم به سوى العبيد. أما العمل العسكري فهو عمل شريف لا يقوم به سوى السادة. هذا الاحتقار للعمل المدني لم يكن يحتاجه عنترة ليكر ويفر، فالظرف أخطر من المقارنات والمفاضلات. ترى ماذا لو أن عنترة كر وفر وأنقذ القبيلة. أليس من المحتمل أن يعترف به والده بعد ذلك؟ ولماذا لا يكر ويفر ويحلب ويصر في الوقت نفسه؟ كان سيصبح قائداً ليس له نظير. لكنه كان يقرر ما يعتقده: للقبيلة سادة حاملون للسلاح يحكمون ويُنقذون وعبيدٌ حاملون للطعام يُحكمون ويخدمون. كان عنترة بارعاً في اقتناص الفرصة حين واتته. ولكن ما علاقة ذلك بالرئيس العراقي صدام حسين؟ هل نقارن بين صدام وعنترة؟ اعتقد ان المقارنات يجب أن تكون في الجزئيات حيث ان المقارنة الكلية ستقود الى الاعتقاد بتطابق الشخصيات وهو شيء مستحيل. قبل أن تابع لنسأل أنفسنا كيف وصل الرئيس صدام حسين الى السلطة؟ ألم يصل ثائراً حاملاً السلاح هو وأصدقاؤه من أهل الكر والفر؟ وهو ليس الوحيد الذي وصل على ظهر الدبابة. كما نعلم في الكثير من البلدان، إذا أرادت الشعوب ان تغير حكوماتها فإنها تتبع العمل المدني: تظاهرات، اعتصامات، إضرابات. لماذا لم يتم التغيير في الكثير من دول العالم العربي من خلال المجتمع المدني؟ لماذا قامت الثورات "الانقلابات" في بعض دول العالم العربي بأيد العسكر؟ من أجل المجتمع؟ قالوا انهم فعلوا ذلك من أجل الوطن والمواطن؟ صعب تصديق ذلك. فهذا الوطن والمواطن، أي ركيزة المجتمع المدني كان أول من اضطهد وعُذب وشُرّد. عندما وصل العسكر الى السلطة. وصولهم كان وصول الديكتاتوريات والاستبداد والتخلف، ويمكن بالتأكيد اعتبار الرئيس العراقي مثالاً حياً لكثير من تلك الثورات العسكرية العربية "التقدمية". أعتقد ان ثورات بعض العسكر واستلامهم للسلطة نابع من اعتقاد راسخ بأن المجتمع مجتمعات كما قسمه عنترة. مجتمع العبيد ومجتمع السادة. والى هذا النوع من العسكر ينتمي الرئيس صدام حسين. كان من الصعب على هذا النوع القبول بحكم المجتمع المدني، مجتمع العبيد. كان يجب تغيير الأماكن ولذلك ثاروا. يعتقدون بأنهم أحق بالسلطة وذلك كونهم حماة الوطن والذائدون عن الشرف حين الغارات. حتى ولو كانوا حماة لفظيين. سيستتبع ذلك بالضرورة قمع أي محاولة مدنية للوصول الى السلطة فهي بالنسبة اليهم عودة للعيش تحت حكومة العبيد. اعتقد ا القارئ وصل الى اجابة السؤال الذي طرحناه في البداية: لماذا يقدم الرئيس العراقي مكافأة للمواطن العراقي كي يدافع عن أرض العراق وعرضه؟ لم ينظر صدام حسين الى العراقيين على أنهم أحرار في بلدهم وانهم يمكن أن يضحوا بالنفس والمال والولد. نظر اليهم نظرة أخرى، استعار عيني عنترة. الرئيس الواصل الى السلطة بقوة السلاح يعتبر نفسه من أهل الكر والفر، من السادة، أما الشعب فمن أهل الحلب والصر، من العبيد. لذلك قتل منهم، سجن منهم، عذب واضطهد منهم، شرّد منهم. أعداد يصعب حصرها. كان عمل صدام: المعارك، سواء داخل العراق أو خارجه أما توفير الغذاء والكساء والدواء... فذاك عمل يتبرأ منه، هذا عمل العبيد والعهدة على عنترة والراوي. حقيقة عندما كنت أشاهد صدام وحول خصره مسدسه أو رافعاً بندقيته التي يفتخر بها أمام الشعب العبيد افكر في تقسيم عنترة وسيفه. نعم خاف الرئيس العراقي من الشعب العراقي ولكن خوفه نابع من طبعه هو وليس من كينونة المواطن العراقي. لأنهم بالنسبة إليه عبيد لا يملكون العراق، خاف أن يساوموا. وهذا افتراض ضمني من نوع العسكر الذي ينتمي إليهم صدام بأن المساومة ممكنة عند المصائب، فكل يرى الناس بعين طبعة. والعين هنا عين عنترة والخُطى خطاه؟ عنترة، ذلك الفارس العربي الذي وقف في أحلك اللحظات التي يمكن أن تمر بها القبيلة وأخذ يساوم: انقاذ القبيلة في مقابل انقاذه من المجتمع الذي يعيش فيه وبين أفراده. لنتخيل أن الأب لم يوافق على هذه المساومة، هل كنا سنسمع عن كر عنترة وفره؟ لا أعتقد. كان عنترة يبحث عن مجد شخصي قبل حماية القبيلة، كان يريد ان يكون سيداً على القبيلة وليس فرداً منها واختار وقت الأزمات ليساوم، وتحرر عنترة وأصبح سيداً وبطلاً تروى قصته. المفارقة ان من يروي حكايته اليوم هم أولئك الذين رفض الانتماء لهم، ان من يردد شعره هم أولئك الذين سماهم بأهل الحلب والصر. لهذا لا يجب أن نفاجأ ان وجدنا يوماً، بعد سنين من الآن، ضريحاً في احدى الدول العربية مكتوباً عليه: سيدي صدام، أو رأينا كتاباً يقرأه حكواتي في احدى المقاهي العربية يحمل اسم: سيرة بني تكريت. لا يجب أن تأخدنا الدهشة ان قال لنا الراوي ان صدام قال وقال... وانه كان مجاهداً بعثياً في سبيل الله. * أستاذ في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة.