صار الجو حاراً جداً والملل وجد متنفساً له عند مقاهي الرصيف. مجتمع اقتصادي عالمي مصغّر في وسط بيروت التجاري. شارع الآثار والوزارات والمصارف والمقاهي والحانات المعتمة بمضيفاتها المصطفات ليل نهار عند الأبواب لاصطياد المارة. ابتسامات ناطقة ووجوه معبرة وأفكار مسلية، وجوه مضيئة أو شاحبة، سعيدة أو تعيسة، ضجرة أو مستمتعة، مهتمة أو لا مبالية... لشابات احتشدن بملابسهن الصيفية الصغيرة في هذا الشارع، مختصرات تمرد جيل بكامله وضجره وجرأته. يخبئن خلف لباسهن الفاضح والمثير ثورةً عارمة وحزناً غير مفهوم. جيوبهن فارغة... وملابسهن بمئات الدولارات. لا حاجة إلى تلفزيون أو مجلات لمتابعة الجديد، فالشابات يتولين المهمة تاركات الشباب يأخذون الخلاصة من الملابس الصيفية الشفافة والضيقة التي يكسين بها أجسادهن النحيلة الملونة بلون الشمس. بعض الشابات "الصيفيّات" يسرن عند طرف الطريق، لا يرين شيئا،ً ولا يبدين رغبة في التفاعل مع الجو العام لعدم اكتراثهن بكل ما يحيط بهن. البعض الآخر يسرن في وسط الطريق، لا يرين شيئاً أيضاً، لكنهن يرغبن في أن يراهن الآخرون... ويعبرن بلا مبالاة. أما تفاعل الشبان مع الوضع، فيحصل في شكل ميكانيكي يومي: يحتشدون في مقاهي الرصيف، يجلسون ويحصون عدد المارّات، يراقبون الموضة عبرهنّ، القصّات الجديدة والتسريحات والألوان والأحذية الدارجة... عبر وقع أقدامهن. وحدها الملابس الصيفية تجعلهن يشعرن بأنهن على قيد الحياة، حقيقيات. ينظرن إلى انعكاس ظلالهنّ عبر الواجهات أو حتى على الأرض، ليدركن أخيرا بأنهن في أجسادهن. عندها فقط يشعرن بالمكان وبمن حولهنّ. نساء يعبرن ويجري أمامهن أطفال أو كلاب أو حتى رجال. ورانيا واحدة من النماذج تلك. منذ ترجلت من التاكسي بتنورتها القصيرة، ووطأت قدماها وسط بيروت، سلبت أنظار من حولها. سارت قليلاً وشعرت بلهاث رجل يتبعها. لهاثه اخترق وقع قدميها. حاولت أن تخفف من سرعتها فإذا بلهاثه يخف ويزيد وفقاً لسرعتها، حتى دخلت في الزحام واختلط الحابل بالنابل. توقفت عند إحدى الواجهات، فإذا بوجوه المارة تنعكس عبر الزجاج وتختلط بقطع الملابس المعروضة وبرقاب الزبائن وأفواههم. أما سامر، فيقصد يومياً زاويته في مقهى الرصيف، وينضم إلى شلة من اللاهثين خلف الموضة والقدود الممشوقة. يطلب فنجان قهوة ويجلس... وينطلق العرض. تمر أول شابه فيرتشف فنجانه على عجل، فمه في الفنجان وعيناه في عالم آخر. وبين الفنجان والآخر أجساد كثيرة تعبر ونماذج متباينة. تعبر حسناء. يشعر بلسانه يتدلى، يسارع إلى إغلاق فمه. وعلى رغم إحساسه بأنفاسه تختنق، يستمر في حبسها حتى عبورها من أمامه. يراقبها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، ثم يشيح بنظره عنها تاركاً الجالس إلى جواره يتولى المهمة، وينتقل هو إلى عابرة سبيل أخرى. وهكذا دواليك. هذا حال الشباب في موسم القيظ. موسم لا تبدو الموضة فيه متعاونة إطلاقاً، بل على العكس، تكون عاملاً مساهماً في زيادة الحر.