إذا تعيّن علينا الاختيار بين التحضر والتخلف، فيجب الانحياز الى التحضر من دون تردد. ويمكن نعت الوجود الأميركي الحالي في العراق بمئات الصفات الذميمة استجابة للرطانة التي اعتاد عليها الإعلام العربي، لكن، من مصلحة العراقيين أن ينظروا إليه كواقع، ويفكروا في إمكان التعامل معه لبناء مستقبل وطنهم قبل أي شيء آخر. سادت الفوضى أفكار ورغبات الناس في العراق عندما تحررت نفوسهم من الخوف والضغوط، إلا أن الأسابيع المقبلة ستشهد الهدوء ليستطيع العراقي التفكير أولاً مع ذاته بتجربتها القاسية، وثانياً مع العراقي الآخر ليبحثا، بعيداً من الشعارات المضللة، عن الصورة الجديدة لبلدهما ضمن صيغة للتعايش لا تسمح بآلام إضافية. النقطة الأساسية، ان تحرر العراق جاء في لحظة بلغ فيها الخراب السياسي والاقتصادي والثقافي في الدول العربية درجة اليأس، الدرجة التي أصبحت فيها المجتمعات العربية والأنظمة تتبادل الكراهية، وكل يتخبط في بحثه عن الخلاص، فإذا إريد للعراق الجديد أن يكون نموذجاً متقدماً للتأثير الإيجابي في محيطه الخَرب، ستكون أمام شعبه فرصة ممتازة ليملك اليد الطولى في هذا المجال، بدل أن تتولى الأمر السياسة الأميركية وحدها. ان الحديث عن كثرة الطوائف والأعراق والأديان في العراق لا يعني شيئاً، إذا عرف كل طرف حدوده، أي قدراته على العطاء ضمن دور وطني عام، وقد أفرزت أحداث القرن المنصرم حقائق كثيرة، وثمينة، منها ان التعصب لفكرة واحدة، والتمسك بوجه واحد للحياة، لا ينتجان غير الفقر، وطغيان يؤدي الى الدمار. وفيما يخص الوجود الأميركي، يجوز النظر الى بعض النقاط المترتبة عليه من زوايا عدة، شرط ألا يكون بينها الزاوية التي تقف أمامها الأنظمة العربية وهي ترتعب لاقتراب عناصر التغيير من كياناتها المهزوزة. كذلك ألا تكون الزاوية التي تنظر إليها الأحزاب السلفية الدينية أو العلمانية وجميعها يكره فكرة الديموقراطية ويضيق بهوائها الرحب. ولا الزاوية الوحدوية للقوميين، الذين فشلوا، تاريخياً، في النظر أبعد من أنوفهم المخللة بنقيع جزمة صلاح الدين الأيوبي. الزاوية التي تعني العراقيين الآن أكثر من غيرها، إنهم إزاء معطى جديد، يشكل، مهما أحيط بالشبهات، فرصة نادرة لخلق شمسهم الخاصة في مجال الاستقرار، والتطور، والحرية. عندما يقف المرء ازاء مجموعة من المرايا المقعّرة، يبحث قبل كل شيء عن الصورة الأقرب الى حقيقته، ثم يعود الى انعكاسات الصور الأخرى، وكلها فكاهية، أو بشعة. وقد كان العراقيون دائماً قساة مع أنفسهم، ومع بعضهم، ودائماً بسبب الأفكار والمفاهيم الخاطئة التي تحملها الشعارات من الخارج، أي مرايا الأوهام المقعّرة التي لم تفعل إلا على تشويه ذاتهم. فالعراقيون شغوفون بالأفكار الجديدة، لكن، من سوء حظهم أن المخاضات التي حبلت بها المنطقة العربية، والمجاورة، خلال القرن الماضي كانت إما متخبطة، وإما قائمة على الطغيان وعبادة الزعيم القائد، وفي هذا المجال أصبح للعراقيين زعماء أصيلون في طغيانهم، وفي استعمال الرشوة أو العصي الغليظة لتحويل الأذهان عن بشاعة زعامتهم. إذاً ما هي المرايا التي مزقت شخصية العراقيين، وعملت على تشويه علاقتهم بوطنهم، وإفساد نظرتهم الى المواطن الآخر حين يختلف معهم؟ وما هي حقيقة الأفكار التي صنعت الوميض الخادع للنصف الثاني من القرن الماضي؟ ثقافياً، توجد ثلاث قضايا تربط أكثرية العراقيين بمحيطهم: 1 - أمجاد العرب. 2 - وحدتهم. 3 - مشكلة فلسطين. هذه القضايا نُفخ فيها الى أن أتخمت بالريح الفاسدة والكذب والتزوير، لتتخذ من ثمّ صلابة الاسمنت لدى ترسبها في الوجدان العربي. ففي حين تتكلم الشعوب عن حاضرها، تعلل الذات العربية وجودها بماضيها المندثر، ويستنجد خيالها الديني والقومي بذاك الماضي كلما شعرت بالعجز عن حل مشكلات العطالة والفقر والتدهور الاقتصادي المستمر، وإذا كان الفكر القومي ربط تقدم العرب الغامض بتوحيد الكيانات السياسية، فإن الفكر الديني الأصولي وجد أن مساواة المسلمين للشعوب المتقدمة لا تتم إلا بتدمير حضارة تلك الشعوب، وفي أضعف الإيمان الحطّ من قيمتها الإنسانية، سلاحها في ذلك استلهام ثقافة المحطة التعبدية الخاملة من تاريخ الإسلام، التي لا تنتمي الى فترة الرسالة المعروفة بحيويتها الذهنية في معالجة التخلف الاجتماعي، ولا الفترة العباسية التي سمح فيها تراخي قبضة الأصولية الدينية بظهور نهضة فكرية واقتصادية وعلمية وثقافية كانت الأبرز في تاريخ العرب. بالنسبة الى المشكلة الفلسطينية، وبعد اعتراف أبنائها من كبار السن الغير مسيَّسين، ومحاولات الأكاديميين الشبان لإعادة قراءة تاريخ النكبة، لا توجد قضية في العالم احيطت بالأكاذيب وتزوير الحقائق مثل القضية الفلسطينية! فمنذ تولتها الجامعة العربية 1948 الى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الشقيري، ثم استيلاء ياسر عرفات عليها، ظلت هذه المشكلة لا تلقى اهتمام العالم ولا اعترافه بسبب الدعاوى الزائفة والتهويل اللذين رافقا بداياتها، في مقابل دعاية اسرائيلية تختار ما يناسبها من وقائع تطرحها بصدق على شعوب العالم، بينما اتخمت أكاذيب الجامعة العربية وإعلامها في الخمسينات الوجدان العربي وحده بالعلل، حتى بروز أطفال الحجارة، عندما جذبوا انتباه الشعوب وتعاطفها مع عصيانهم المدني، لكن هذا العصيان الذي كاد يطهّر القضية الفلسطينية مما لحق بها، وجرد اسرائيل من فاعلية تفوقها العسكري، سرعان ما التفت عليه حركة "حماس"، وتبعها عرفات بانتهاج أسلوب استدراج العنف بالعنف، ثم إطلاق الصراخ بالشكوى على عادة الجامعة، لأن حجارة الأطفال سرقت منهما الأضواء، وقبل ذلك سرقت القوة البلاغية لبياناتهم الطنانة، التي تدرّ عليهم المساعدات النقدية من الحكومات العربية، ضمن مشروع ابتزاز طويل الأمد باسم معاناة الفلسطينيين، الذين لم يذوقوا يوماً طعم تلك الأموال وهي تذهب بانتظام الى القطط المسمنة في الأجهزة العسكرية والإعلامية ل"حماس" والسلطة الفلسطينية! من الجانب الشرقي، تتمثل عناصر التأثير السيئ في الذهنية العراقية في الأصولية الدينية لشيعة إيران، وأبعد من ذلك قليلاً ايديولوجية دولة السوفيات القديمة. بالنسبة الى إيران، انشغلت الدولة في عهد الخميني بتصدير الثورة الإسلامية الى العالم، وفي العهد التالي ركزت طهران على الدول المجاورة من الغرب والمنطقة العربية لتوسيع نفوذها باستخدام المشكلات المحلية في بعض البلدان اقتصادية أو عرقية أو حريات لإيجاد ما يشبه البؤر الطائفية، تجذبها في البداية إعلامياً بالتحريض ثم تدعمها بالمال وتمدها أخيراً بالسلاح، لتصبح خلال عشر سنوات مرتهنة كلياً في تفكيرها وتحركها لتوجيه الملالي الإيرانيين، مثال ذلك أفغانستان - العراق - لبنان. وعندما يطوف شيعة العراق اليوم مطالبين بدولة إسلامية، فأنت تسمع لسان إيران الصريح وأحلام ملاليه الطائفية، لأن الشيعي العراقي، الوطني، لا يحلم بطغيان بديل حتى لو جاء لمصلحة طائفته، إلا إذا كان الخارج شوّه وطنيته ومسخ أحلامه. ولن ينكر اشيعة الذين لجأوا الى إيران بعد 1980 و1991 الإذلال الذي عوملوا به في معسكرات إيران إيران التي غطت نصف لبنان بالحجاب، وهو أكثر الدول العربية تحضراً، في مقابل دعمها للجنوبيين في مقاومتهم الوجود الإسرائيلي مثلما لن ينكر السنّة ما تعرضوا له على يد استخبارات الدول العربية أثناء بحثهم عن ملاذ، ومثلهم المسيحيون، والأكراد، مما يعني أن الطائفة أو القومية، سواء كانت أكثرية أو أقلية، لا تساوي حفنة من القش من دون الوطن الذي نشأت فيه، على أن يكون حراً من أي ارتهان للخارج. وفي ما يتعلق بتأثير موسكو القديم، لن نعيد الحديث عن دوافع تأسيس الحزب الشيوعي في العراق، ودور الاستخبارات السوفياتية في توجيه سياساته منذ البداية الى النهاية، لكن الجميع يعرف ان الحزب الشيوعي العراقي الذي وضع مصلحة سياسات الكرملين قبل مصلحة العراق، وسخّر إعلامه لدعم طغيان الأنظمة الشمولية في السابق، لم يتخلص حتى هذه اللحظة من شعاراته وتكتيكه القديمين، ولا عن تحالفاته مع الأنظمة التعسفية، على رغم أحاديثه الكاذبة عن الديموقراطية! وقبل إضافة ما يحمله القادمون الجدد من المنفى، فإن عناصر التأثير الخارجي تركت بصمات بشعة وثقيلة على عواطف وسلوك عدد كبير من العراقيين خلال نصف القرن الماضي، فأشاعت الفوضى السياسية، ونزعة التسلط، والانقلابات، والعنف بين الجماعية الحزبية، وإرهاب الرأي المخالف، وكل أنواع النعرات، وانتهت بسيطرة البعث الطويلة على الحكم، هذا الحزب الملعون الذي يشبه الطاعون في شهيته للقتل، ومثله يعتمد في البقاء على ازدهار المقابر الجماعية. لذلك، عندما تبدد الظلام الوحشي من سماء العراق، عبّر أكثرية الناس عن فرحتهم لأنهم أدركوا بعواطفهم البسيطة قيمة ما حدث، بينما أصيبت الجماعات المرتهنة الى المؤثرات الخارجية بالذهول والاضطراب على رغم فهمهم لأهمية الحادث، لأن سلطان ولائهم للخارج أقوى من التزامهم تجاه وطنهم! لذلك أيضاً، وبدلاً من الشعارات الخيالية لكن المشحونة بالديناميت، على رجال الدين الشيعة أن يقدموا أبناءهم المتعلمين ليساهموا في بناء العراق الجديد، ويعودوا هم الى جوامعهم وأضرحتهم للاهتمام في شؤونها. وسيكون من العدل ألا ينسى الشيعة، المتدينين والعلمانيين، عندما يتكلمون عن الحصص، أن السنّة أرادوا الحكم في العراق طوال القرنين الماضيين بسبب تحريم الفكر الشيعي أبناء الطائفة من الخدمة في مؤسسات الدولة، بناء على هذا، ولمصلحة الجميع أن يحظى السنّة بدور أكبر الى أن تستقر الأمور ويعمّ مبدأ المساواة على أساس الكفاية والنزاهة والوطنية. نعود قليلاً الى مسألة التحضّر: إن العراق الآن محتل من القوات الأميركية والبريطانية لأسباب كثيرة، لكنه تخلّص أيضاً من نظام ديكتاتوري عقيم، لم يستطع العراقيون إزاحته على رغم كل المحاولات، ولن يستطعيوا ذلك بعد ثلاثين سنة أخرى، لأن صدام كان يهيئ جراءه لتولي السلطة بعده، على غرار أنظمة أخرى عادت بمفهوم الجمهورية الى عهد الأمويين، وما دمنا نتمنى الخير والتقدم لكل الشعوب يمكن وصف الحال الجديدة في العراق ب"الورطة المفيدة"، كون الاحتلال يقم للعراقيين فرصة ممتازة لتأسيس نظام ديموقراطي، بالتحرر أولاً من ترسبات التأثير الخارجي، السياسية والعاطفية، التي ظلت تبيعهم الأوهام والخداع بدل أن ترسل جيوشها، ولا تعاويذها السحرية القومية والدينية واليسارية لإنقاذهم من البطش. وبعيداً من طنين الإعلام العربي وكتَّابه ومفكريه ممن أصبحوا يستعيرون شعارات الأصولية في تفسيرهم لما يجري، لو قارنا حتى بين السياسي الأميركي اليميني وبين صدام حسين في مجال التفاهم، لوجدنا يمين أميركا أكثر استعداداً للحوار ومناقشة وجهة نظر الآخر، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين التخلف والتحضر، حيث يمكنك مجادلة المتنفذ من دون خوف من هاجس المشنقة أو السجن مدى الحياة بلا محكمة علنية. بذلك، يستطيع العراقيون إعادة بناء بلدهم وترسيخ نظام ديموقراطي عصري، ثم التفكير، عبر دولة متماسكة الكيان، بأمر الوجود الأميركي والعلاقة التي تريدها واشنطن مع بغداد، شرط ألا يبتعدوا أثناء ذلك عن محيطهم العربي، على رغم أن العرب أداروا ظهورهم لمحنة العراق وسخروا من آلام شعبه، باعتبار هذا المحيط لن يبقى الى الأبد في تخلفه وحزازاته. وبظهور حكومات ومجتمعات عربية عصرية، يمكن حتى للأكراد ضمان حقوقهم القومية الكاملة، إذ باستثناء العرب لا توجد جهة أخرى مستعدة لإسناد العراق من دون أطماع توسعية، وهذه حقيقة يجب أخذها بالحسبان في مواقف أي نظام عراقي جديد، خصوصاً موقفه من المشكلة الفلسطينية، لأن عرفات وقادة "حماس" الذين سيروا في أكثر من مناسبة التظاهرات لدعم طغيان صدام ليسوا كل فلسطين، وموقف العراق من المشكلة يمكن أن يدخل ضمن الموقف العربي العام لكي لا يضعف موقف رئيس أول حكومة فلسطينية وهو في طريقه للتفاوض حول: كيان فلسطيني في مقابل أمن إسرائيل وكلاهما مشروعان لإنهاء الصراع. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.