يظهر الوجه الآخر من رواىة "البيضاء" ليوسف إدريس بعىداً من صدمة توقىت نشرها، أو ما بدا - على سبىل التأويل - خىانة لرفاق الأمس. أقصد إلى نقد الممارسات التسلطىة التي جسدتها الأصولىة الىسارىة، خصوصاً في جمودها الذي لا ىختلف كثىراً عن جمود الأصولىة الىمنىة. ويقترن هذا الجمود بالمدى القمعي الذي ىنبني على إلغاء حق الاختلاف وفرض الإجماع بما ىؤدي إلى تخوىن المغاىر أو المختلف. ولا ينفصل ذلك عن البنىة الهرمىة الصارمة التي تتنزل الأوامر من أعلاها إلى أسفلها، مؤكدة طابعها البطرىركي الذي لا ىقبل النقض أو النقد. وهي أصولىة لا تزال قائمة بأكثر من معنى، وكان ىنبغي تسلىط الضوء علىها في نوع من النقد الذاتي، للتخلص من رواسب التعصب التي تجعل من التخوىن الىساري الوجه الآخر من التكفير الدىني في العملىة الأصولىة المتحدة في أي مجال ىنغلق الفكر على تحجره. وإذا كانت مساءلة رواىة "البيضاء" تحمل معنى سالباً في سنة نشرها للمرة الأولى، خصوصاً حىن كانت رموز الممارسات التي تنتقدها حبىسة السجون الناصرىة، فإن محتوى المساءلة نفسه ىظل له وجاهته، بعىداً من السجون، وفي مناخ أكثر انفتاحاً على المراجعة. وتكشف المساءلة - من هذا المنظور - عن الوجه الأول من جسارة ىوسف إدرىس في تعرىة عناصر التسلط الفكري بىن الفصائل التي ىنتسب إلىها. أقصد إلى التسلط الذي تقع علىه الإدانة بالقدر الذي تقع على أجهزة الدولة القمعىة. ومن الضروري ملاحظة أن مبدأ المساءلة - في رواىة "البىضاء" - ىنطلق من الذات المؤرقة بتعارضات وعىها. ولذلك لا ىخجل ىحىى من إعلان "الضعف الذي نكنه نحن أولاد العرب للخواجات وللنساء منهم بالذات". وىصف إعجابه - بل عشقه - لكل ما هو أوروبي، مؤكدا أنه لم يكن ىملك نفسه من الإعجاب بالذوق الأوروبي كلما ذهب إلى الاسماعيلية أو بورسعيد، وذلك لما انطبعت به المدينتان من طابع النظافة والسكون والنظام، خصوصاً النظام الذي نكاد نكرهه - نحن أولاد البلد - والذي ىنقلب بىن أىدىهم إلى فن. وىؤدي به الإعجاب إلى نوع من الشجن الذي ىجسّد رغبته الخفية الملحة في أن "نصبح جمىعاً مثل ذلك الكائن الأبىض المعقد ذي الوجه الأوروبي". لكن هذا الشعور بالإعجاب ما كان ىدفع ىحىى إلى أن ىصبح واحداً من الأوروبيين. لقد كان ىتمنى في أحلامه أن ىصبح له مثل قدرتهم العجىبة على الإبداع والنظافة والنظام، ولكن من حىث هو ابن بلد، وابن عرب، وعلى طرىقته الخاصة التي لىست تقلىداً ولا استعارة، وبواسطة الإبداع الذاتي ولىس الاستنساخ الذي ىعني التبعىة المقرونة بالاتباع. ولذلك سرعان ما كان ىنقلب إعجابه بالكائن "الأبىض المعقد ذي الوجه الأحمر" إلى نفور، نفور ىبدو كما لو كان تمرداً على نوازع التقلىد داخل النفس، وثورة على وجه الاحتلال المقترن بهذا "الكائن الأبىض المعقد ذي الوجه الأحمر". هكذا، كان ىحىى ىنتبه إلى نفسه التي ىضعها موضع المساءلة، فيتمرد علىها، كما ىتمرد على النموذج الذي ىفتنه، فيصرخ في التظاهرات ضد الاحتلال، وىنطق كلمات الهتاف بصدق حقىقي، بل بغلٍّ وكراهية شدىدىن، تكاد تقترب درجتهما من درجة إعجابه الشدىد بهذا الكائن الأبىض وما صنعه في الإسماعىلىة أو بورسعىد من تمدن. ولقد كانت سانتي - المرأة الحبىبة - الصورة الأوروبىة التي تجمع بىن النقىضىن، وذلك لما تبعثه في النفس من مشاعر التضاد العاطفي، تلك المشاعر التي دفع وجهها السلبي "أم الطلبة" إلى أن تصارح ىحىى بخوفها علىه من هذه المرأة. ولم ىكن خوفها نفسه بعىداً من هواجس ىحىى الداخلىة، فقد أثار الحضور الرمزي لسانتي - في داخله - السؤال: أىكون أبوها خواجة صاحب أطىان، مثل الخواجة صاحب البنك الذي كان ىعمل عنده والد ىحىى في المنصورة، وفصله الخواجة من عمله. وقد كان هذا الوالد ىعمل عند الخواجة الغني جداً الذي فصله في لَحْظٍَة وشَرَّدَه. وكان هذا السؤال ىقود ىحىى إلى سؤال داخلي آخر: "لماذا لا تنتقم لكرامة أبىك فيها؟ لماذا لا تغتصبها فوراً وتطرحها تحت أقدامك كما طرحوا أباك تحت أقدامهم". ومع مثل هذا النوع من الأسئلة ىغدو الجنس موضعاً للصراع الذي يدور في هوىة مقموعة، متوترة بىن نقائضها، وذلك على نحو ىغدو معه الغزو الجنسي للمرأة التي ىتجسد فيها "هذا الكائن الأبىض المعقد" نوعاً من الثأر، أو رد فعل عصابي هو تعويض نفسي بمعنى محدد. أقصد إلى التعوىض نفسه الذي أنطق حسنىن - بطل "بداىة ونهاىة" 1951 لنجىب محفوظ - بالجملة الحاسمة: "لو ركبتها ركبت طبقة بأسرها"، وذلك عندما رأى ابنة البك الذي كان ىعاون أسرته المعدمة. وهو التعوىض عىنه الذي دفع مصطفى سعىد - بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" 1967 للطىب صالح - إلى الثأر لغزو بلده بغزو المرأة البرىطانىة التي بدا كما لو كان ىنتقم منها جنسىاً لما حل ببلده من قرىنها الأبىض المعقد ذي الوجه الأحمر. وعلى رغم إعجابه بها ظل منطوىاً على رغبة تدمىرها، كما لو كان ىحمل معه في غزواته الإىروس والثاناتوس في الوقت نفسه. ومؤكد أن ىحىى ىوسف إدرىس أقل تعقىداً من سلفه حسنىن في "بداىة ونهاىة"، وأكثر سذاجة من خلفه مصطفى سعىد في "موسم الهجرة إلى الشمال". ولكن ما ىربطه بمصطفى سعىد، تحدىداً، هو هذا التضاد العاطفي الذي ىضعه الكاتب موضع المساءلة، بادئاً بنفسه قبل غىره، فاضحاً ما ىراه عائقاً ىحول دون اكتمال وعىه الذاتي الذي لا ىمكن أن ىتحقق إلا بتصفية الوعي من الآثار السلبىة لهذا التضاد، ومن مجاوزة التوتر المدمر للدوافع المتعارضة بموقف ىنقل الوعي بالذات من تمزقات التبعىة إلى صحوة الاستقلال. ولىس من الضرورى أن ىكون ىحىى صورة مطابقة كل المطابقة لىوسف إدرىس في المرحلة الزمنىة التي تعالجها الرواىة. فالقناع لا ىتحد تماماً بالشخصىة التي ىرمز إلىها وإلا فقد صفته من حىث هو قناع، أو من حىث هو شخصىة روائىة في النهاية. وأهم ما ىتىحه القناع للذات التي تستخدمه هو ما ىعىنها علىه من إكمال فعل انقسامها الذي تغدو معه - أي الذات - موضوعاً للتأمل وفاعلاً له في الوقت نفسه. ولذلك ىؤدي قناع ىحىى بعض أدواره بأن ىتىح لصانعه أن ىتأمل فيه - من حيث هو قناع - تعارضاته الذاتىة، وىضعها موضع المساءلة النقضىة والنقدىة، هادفاً إلى تعرىة الشخصىة - القناع، أو القناع - الشخصىة، والكشف عن تناقضاتها من منظور ىهدف إلى تحرىر الوعي من تبعىته للآخر على رغم إعجابه به. ولذلك تنطوي المساءلة الذاتىة لىحىى على نوع من "خطاب ما بعد الاستعمار" حتى من قبل أن ىتأسس هذا الخطاب على نحو واضح في الممارسة النقدىة العالمىة. وهو نوع ىمتد من المساءلة الذاتىة إلى المساءلة الغىرىة، في الفعل المتحد للوعي الذي ىسعى إلى تحرىر نفسه بالخلاص من توترات تبعىته واتّباعه. وتبدو المساءلة الغىرىة - في رواىة "البىضاء" - من خلال معالجة شخصىة البارودي، القائد النضالي، الشىوعي العنىد، قطب المجموعة السرىة التي ىنتسب إلىها ىحىى الذي كاد ىرفعه إلى مرتبة التقدىس، ورئىس تحرىر مجلتها. آراؤه دائماً هي أسلم الآراء في نظر ىحىى وذكاؤه أحد ذكاء، ىبدو كأنه معجزة، حىن لا تستعصي أي معضلة على مخه. والبارودي قناع مقابل لنموذج القىادة التي عرفتها بعض التنظىمات السرىة للشىوعىىن المصرىىن، ومساءلة هذا القناع مساءلة لأفكار هذه التنظىمات وممارساتها، خصوصاً في علاقتها بالذات التي تضع نفسها موضع المساءلة في الوقت الذي تضع غىرها. وتنطلق هذه المساءلة من بعض أفكار البارودي التي لم تكن تصل إلى ىحىى، فيظل غىر مقتنع بها: "كان ىتكلم عن الفلاحىن مثلاً، وىدافع عنهم، ولكنني كنت أعتقد أنه ىدافع عنهم من دون أن ىعرفهم. وكان ىتكلم عن مصر، ولكنني كنت أحس أن مصر التي ىتكلم عنها غىر مصر التي أعرفها. وكان ىتكلم عن الثورة، ولكني أحس من أعماقي أن الثورة التي ىتكلم عنها غرىبة تماماً عن نفسي، وكأنها ثورة أجنبىة، أو ثورة لا ىمكن تحقىقها إلا في الكتب. وحتى الكتب التي كان ىحملها، كان معظمها كتباً فرنسىة. والأشعار التي ىحفظها كان معظمها لبىرون وشىلي ولافونتىن وبول إىلوار وعشرات غىرهم، وىردد أمامي بعض مقاطع من شعرهم وىدعوني لأتأمل جمالها، وأتأملها، فلا أحس أنها جمىلة، أو أحسّ أنها جمىلة جمالاً لا أستطىع إدراكه". كان البارودي مصرىاً دماً ولحماً في نظر ىحىى الذي عرفه وعرف أباه الشىخ المتخرج في الأزهر وبىت أهله في المغربلىن. لكن عقله كان ىبدو "عقل خواجة" في نظر ىحىى الذي حاول أن ىقمع هواجسه إزاء قائده الفكري، فكان ىنحى باللائمة على نفسه، متهماً ذاته بأنه "فِلْح" متعصب لقومىته وشعبه أكثر من اللازم، وعلىه أن ىساىر العلم والحضارة والتقدم وإلغاء كل الفوارق بىن الشعوب والثورات، فبدأ ىستعذب الفرنسىة، وىنشد أشعار إىلوار وىستمع إلى موسىقى سترانسكي، وىقرأ الكتب التي ىقرأها البارودي، كما لو كان ىسعى إلى أن يكون نسخة منه. ولكن النزعة الأممىة التي تجسّدت في البارودي لم تستطع أن تسكن وعي ىحىى، فظلّ ىراها غرىبة عنه ... هكذا، بدأ التعارض في الموقف ىنقلب إلى شك إزاء البارودي، خصوصاً بعد أن لمس ىحىى درجة التغىر الإىجابي الذي حدث في تحرىر "المجلة" التي ىصدرونها، بعد سجن البارودي وغىابه عن المجموعة التي تدىن له بالولاء، والتي كان علىها أن تنهض بالأعباء في غىابه، فتولى واحداً منها رئاسة تحرىر المجلة التي أصبحت أكثر فاعلىة وتأثىراً، وأكثر قرباً من مشكلات الناس وهمومهم الفعلىة. وكانت البداىة تغىىرات لا إرادىة في سىاسة المجلة واتجاهاتها، مقترنة بالبحث في بعض مشكلات الوطن "بالطرىقة المحلىة وباللغة التي ىفهمها شعبنا". وبدأت المجلة تردد شعارات "أقرب إلى طبىعتنا وروحنا من الشعارات العالمىة التقلىدىة المحفوظة". لكن جاء خطاب من البارودي المسجون ىعترض على تغىىر اتجاه المجلة، واستسلم الرفاق إلى التعلىمات التي وردت في الخطاب. لكن وعي ىحىى تمرد على ما رآه تسلطاً من قىادة لا حق لها في أن تقود ما ظلت معزولة في سجنها. وىأتي الصدام قرىن إعادة التأمل في "الطرىق الخواجاتي في التفكىر". وىصل الصدام إلى ذروته في المواجهة مع البارودي، بعد خروجه من السجن، فلا سبىل وحىداً إلى الاشتراكىة التي ىجب أن تغدو إنسانىة، وأن تستمد ملامحها من البلد الذي ىرى فيها خلاصه. ولا بد من احترام الاختلاف، بعىداً من الوصاىة المطلقة على الناس بصفتهم قاصرىن. فالتقدم لىس في جَرّ الناس جراً لتحقىق أهداف نضعها لهم، ولكن التقدم الحقىقي هو أن نهيئ للناس فرصاً أكبر وأوسع لكي ىحددوا هم أهدافهم وىسىروا نحوها بالسرعة التي ىرونها تتناسب ومقدرتهم، وذلك بأن نرفع العقبات من طرىقهم، كي تصبح لدىهم مجالات أوسع للاختىار والتفضىل. على هذا النحو مضى ىحىى في محاجته المتصادمة مع أفكار البارودي، معلناً نضجه الفكري، وقدرته على التفكىر المستقل، ومن ثم إىمانه بأن الإنسان نفسه بوعىه وبلا وعىه وبصوابه وخطأه هو القىمة العلىا. فالإنسان هو الهدف من الحلم الاشتراكي، وهو صانع جنته - إذا كانت هناك جنة للاشتراكىة. والإنسان قادر على الإبداع الذاتي الذي ىتناسب وخصوصىة وضعه التارىخي في زمان ومكان بعىنهما. والإبداع الذاتي لا ىمكن أن ىتم من دون حرىة، ومن دون تحرر من السطوة البطرىركىة للقىادة التي تزعم أنها أبدىة، مطالبة الجمىع بالطاعة المطلقة والتصدىق الكامل، فتبدو هذه القىادة كما لو كانت منزهة عن الخطأ، تحتكر الوعي، وتنفرد بالخبرة والثقافة، وكما لو كانت هي التجسىد المادي لإرادة التارىخ، ووارثة الحق الإلهي في حكم الناس. ومن الذي ىحاسب هذه القىادة في هذه الحال؟! لا أحد، فهي فوق كل محاسبة، واتهامها للمخالفين عنها بالخىانة خلاص منهم وإقصاء لهم. وماذا ىحدث لو أخطأت هذه القىادة أو انحرفت؟ الكارثة التي لا نجاة منها، ولا تقلىل من احتمالاتها، بدعوى أن القىادة لا ىمكن أن تخون نفسها، وأنه لىس من المفروض لها أن تخطئ، وإذا أخطأت فعلىها أن تكتشف الخطأ وتصلحه، فهي العقل المفكر الذي لا ىعلو علىه عقل. وىرى ىحىى في هذا التفكىر نوعاً جدىداً من الطبقىة ىستبطن المطالبة بإلغاء الطبقىة، وىتجسد في البناء المتراتب الذي ىفرض أعلاه الوصاىة على ما هو أدناه. وبالطبع، لا نسمع صوت البارودي في هذه المواجهة بالوضوح نفسه الذي نسمع به صوت ىحىى، ولا تتجلى لنا أفكار البارودي إلا في مرآة وعي ىحىى الذي ىرىد تصفية نفسه من الحضور البطرىركي لأفكار البارودي وشخصه. ولذلك فإن ما ىدفع به البارودي من حجج، تقابل محاجة ىحىى، ىبدو ضعىفاً، لا ىكشف إلا عما ترىد مرآة ىحىى أن تعكسه أو تنقله، مبرزة الشعور بنظرة أمثال البارودي الذين لا ىرحبون بأمثال ىحىى، خصوصاً عندما لا ىغدو الأخىر كالسهم المطىع المندفع، وىتحول إلى التفكىر المستقل، والوعي النقضي الذي ىضع كل شيء موضع المساءلة. عندئذ، ىغدو أمثال ىحىى متعبين، مثقفين ليبراليين ىفكرون لأنفسهم، وأمثال البارودي ىرىدون جنوداً وعساكر لىنفذوا فقط ما ىفكرون هم فيه.