من المؤكد أن ليس لعاقل أن ينكر بأن خلع عيون أطفال العراق ونثر أطرافهم الطرية أمام الكاميرات قد عرى الطبيعة العدوانية لحرب أميركا على العراق، وأسقط عنها أي مسوح أخلاقية كان يدعيها لها الرئيس الأميركي بإ ستخدام اليمينية المسيحية كخطاب أيديولوجي متعصب يواري البرغماتية السياسية التي استدعت الحرب. كما أن المؤكد أن ليس لذي عقل أن ينكر بأن وحشية القصف الجوي على مدار الساعة لكل قرى العراق ومدنه من بابل إلى بغداد ومن البصرة إلى الموصل ومحاولة المحو المتعمد للذاكرة الحضارية لبلد يبلغ عمر حضارته عشرة آلاف عام وتحويل أجساد المدنيين إلى وليمة يومية للموت، قد عرت شعار الحرية المزعوم فظهرت انياب الحرب الأميركية كحال عدوان فاضح على عموم الشعب العراقي لم تفلح في أن تمس شعرة من رأس الرئيس العراقي بل أن كل ما فعلته أنها أعادت تلميع صورة الطاغية في عدد من العواصم العربية. حتى أنها بهذا العدوان تعمل على توليد خطابات متعصبة ربما ترمي بإذكائها إلى الزج بشباب المنطقة على طريق الإرهاب لتقوي ذرائع شن حرب شاملة على جميع دول المنطقة بحجة محاربة الإرهاب. هذا إذا لم تتخذ من حال الغليان الشعبي التي يخلقها عدوانها على العراق والمقاومة العربية المشروعة لهذا العدوان التي قد تتمخض عن هذا الغليان ذريعة جاهزة لتمد عدوانها إلى أجزاء أخرى من الخريطة العربية كما في مخططها المعلن لإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة بتفوق إسرائيلي. وكما يبدو من تهديداتها المبطنة لسورية عن طريق اتهامها بتوفير بعض الإمدادات العسكرية للعراق كقصة المناظير وكما يفضح إطلاق يد "إسرائيل" لتعيث في الأراضي الفلسطينية ترويعاً وجرفاً من دون حسيب أو رقيب على خلفية الحرب على العراق. وإذا كانت مقاومة الشعب العراقي الباسلة للعدوان الأميركي ورفضه التعاون مع الأميركيين ناهيك عن استقبالهم بالأحضان كما كانوا يتوهمون، لا تنبع فقط من آلام خبرته التاريخية في مواجهة الطغاة بدأ من هولاكو وانتهاء بصدام حسين بل إنها تنبع أيضاً من حسهم العالي بالكرامة وأشواقهم المبرحة إلى الحرية التي تجعلهم لا يقبلون استبدال طاغية عربي بطغاة أجانب، فإن هذه المقاومة قد كشفت أن المطلب الوطني للشعب العراقي وأجندة تحرره تختلف جذرياً مع أجندة الإحتلال الأميركي فليس المطلوب هو تغيير الأقنعة. إنما المطلوب الذي لم يطلبوه من أميركا أو سواها هو حرية وعدل وسلام يعلمون أنها لا تأتي على حاملة الطائرات الحربية بالقدر الذي يعلمون فيه أيضاً أن الديموقراطية لن تسقط على سقوفهم الواطئة مع الصواريخ التي تقتلع ابتسامات أطفالهم وترميها في وحل الحرب. كما يعرفون حق المعرفة أن ما كان لصدام أو سواه أن يقامر بمصيرهم الوطني مرتين في حرب الخليج الأولى والثانية لولا سياسة أميركا التاريخية بمؤازرة الطغاة ضد شعوبهم طالما أن في استمرارهم في السلطة ما يخدم مصالحها من محاولتها التدخل إلى جانب الشاه رضا بهلوي ضد الشعب الإيراني في ثورته الإسلامية إلى إسقاط سلفادور أليندي في تشيلي لصالح الانقلاب العسكري. لقد أظهر الإرهاب المنظم الذي تمارسه الآلة العسكرية الأميركية ضد المدنيين العراقيين والمقاومة الشعبية الواسعة لفلول الغزاة أن العدوان الأميركي على العراق هو حرب احتلال لا حرب تحرير مما يشكل هزيمة سياسية للإدارة الأميركية لن يمحوها أي نصر عسكري قد تحققه إلى حين على أرض العراق. على أن من المشكوك فيه هو أن تتوقف الهزيمة السياسية للخطاب الأميركي عند اللحظة الراهنة من رفض الشعب العراقي لابتياع شعار أميركا الرومانسي لحربها الهمجية عليه المعنون ب "الحرية للعراق" أو عند المقاومة الشعبية الحالية للنتائج العدوانية لهذا الشعار من احتلال أراضيه إلى ذبح أطفاله في أسرة نومهم. إذ قد تكون لهذه الهزيمة الراهنة تبعات مستقبلية بعيدة المدى ومتعددة الأبعاد وذات طبيعة مركبة لا قبل لأميركا بها حتى وإن نجحت في تحقيق أحد أهم الذرائع المعلنة من غزوها للعراق وهو إسقاط سلطة صدام. و قد لا يكون من قبيل المبالغة أو التمني, كما يرجح الحالمون بالحرية المحمولة على نعوش شعوبهم, إذا قلنا أن بعض هذه التبعات وتعقيداتها قد بدأ يتدخل ويفرض نفسه على مسرح الأحداث من الأسبوع الأول للغزو الأميركي ولن يتوقف الأمر كما نعتقد بتوقف الحرب. وتظهر هذه التبعات على ثلاث مستويات منها ما يرجع إلى مستويات مختلفة من العمل الأمريكي لترميم ما صار يصعب إخفاؤه من هزيمة خطابها السياسي ومنها ما يتعلق بالمقاومة العراقية وبموقف المعارضة العالمية للعدوان الأميركي عليه في محاولتها لطرح خطاب سياسي بديل من خطاب الهيمنة الأميركي: المستوى الأول، يتمثل في كيفية إدارة الخطاب الإعلامي الأميركي للحرب كجزء من خطاب السيطرة الأحادية. فأميركا عدا أنها استهلت حربها من دون سند قانوني وبتعدٍ على الشرعية الدولية التي بدا إجماعها على رفض القرار الأميركي بالحرب مما شكل بحد ذاته هزيمة سياسية مبكرة لها أي قبل دخول قواتها أرض المعركة فإنها قد خلقت حالة تشكيك غير مسبوقة بمصداقية إعلامها على مستوى العالم. فمن إدعاء انتصارات يكذبها الواقع سواء في ما يخص "تقدمها في الاحتلال" أو عدد "المستسلمين" والأسرى لديها من العراقيين إلى إخفاء حجم خسائرها البشرية والمادية أمام مد المقاومة العراقية. حتى أن صديقة أميركية تعيش في المملكة العربية السعودية قالت حرفياً "أن أخشى ما تخشاه هو أن لا يعرف الشعب الأميركي حقيقة ما يدور على أرض المعركة وخطورة المقامرة الأميركية في العراق إلا حين تعود ما تسمى ب "الصناديق السوداء" التيتحمل جثث الجند إلى أهاليهم كما حدث في حرب فيتنام حين لم يعلم المواطنون الأمريكيون بفداحة خسارتهم البشرية إلا حين بدأت فلول المعاقين نفسياً وجسدياً والنعوش تعود إلى أميركا". وقد ساهم الإعلام الأميركي في هز هذه المصداقية التي كان يراهن عليها الكثيرون منا في الوطن العربي، ليس فقط إلى حد منع عرض صور تمثيل القنابل العنقودية بجثث مدنيي العراق وأطفاله وباغلاق المواقع الإلكترونية التي تعرض مثل هذه الصور بما فيها صور القتلى من الجنود الأميركيين بل تعداه إلى طرد أو تجميد الصحفيين والمراسلين الذين يقولون كلمة حق تكشف عورة ادعاءات الإدارة الأميركية بالحرب النظيفة، كما حدث مع الصحافي الأميركي بيتر أرنيت. فبدون هذا التعتيم الإعلامي على الداخل الأميركي لم يكن لرئيس اميركا في اليوم الرابع عشر من الحرب، في الوقت الذي رفض ويرفض فيه الشعب العراقي بحدته المعتادة التعاون مع أي جندي أجنبي، وفي الوقت الذي يفصل القصف الأميركي رؤوس أطفال العراق عن أجسادهم، أن يتبجح بالقول أن الجنود الأميركيين يطعمون أطفال العراق المن والسلوى بأيديهم، وأن العراقيين يعانقون الجنود الأميركيين والبريطانيين ويقولون لهم شكراً على "وجبة الحرية" التي أحضرتم، من دون أن يذكر أن "وجبة الحرية" تلك كانت تصل إلى العراقيين محشوة بالصواريخ الفتاكة. فالشحنة، كما يقول المثل الأميركي، تأتي في مغلف واحد المستوى الثاني من تبعات هزيمة الخطاب السياسي الأميركي، الناجمة عن موقف المقاومة الشعبية ورفض المدنيين العراقيين للتعاون مع الأميركيين، يظهر في إضطرار الإدارة العسكرية للحرب لتغيير خطتها الحربية التي كانت تقضي باحتلال مدن العراق الرئيسية في طريقها إلى بغداد إلى محاولة تجنيب جيشها غير المرغوب فيه الاحتكاك بسكان هذه المدن إلا بالقصف الجوي المرتفع و القفز إلى بغداد مباشرة، على أمل أن يؤدي سقوطها إلى حال من التيئيس العسكري والسياسي معاً من جدوى المقاومة للقوات الغازية بفرض سياسة الأمر الواقع وإقامة حكم عسكري أميركي أو نحوه على أنقاض سلطة نظام البعث الحاكم. لكن تدبر أمر الترتيبات لحكم العراق ما بعد نظام البعث في حال نجاح القوات الأميركية لن يكون بالسهولة التي خططتها المخيلة الأميركية ومعلوماتها المخابراتية التي لم تقدر موقف قوى الداخل العراقي حق قدرها وأنما نظرت إليها تلك النظرة "الاستشراقية" التي لا ترى في مواطني البلاد المستهدفة بالغزو إلا خلفية كالحة لمسرح الأحداث حيث الغازي وحده من يؤدي فيه أدوار البطولة كما في رواية البير كامو "الغريب". فلا نظن أن أزمة الثقة الحادة التي خلقتها علاقة الغزو/ المقاومة بين العراقيين وبين الإدارة الأميركية ستجعل بالإمكان إحلال حكم وطني من قوى الداخل العراقي. هذا فيما لو كانت أميركا تفكر أصلاً في مثل هذه التسوية مع الشعب العراقي. غير أن ما يزيد من تعقيد مواجهة أميركا مع الشعب العراقي ومن تضييق خياراتها في شكل الحكم الذي تريد أن تفرضه على العراق في حال نجاحها في إسقاط النظام البعثي الذي استطاع أن يدير المعركة خلال أسابيعها الأولى بكثير من المكر السياسي والمناورات العسكرية الذي أبعد الأمريكيين عن منالهم بل قد يمنيها بمزيد من هزيمة خطابها السياسي، وأن انتصرت عسكرياً في المدى المنظور، هو رهان استمرار المقاومة الشعبية العراقية وعدم انكسار شوكتها بسقوط النظام هذا لو سقط. وهذا الرهان وإن بدا مستحيلاً أو عنقاء بميزان القوى التكنولوجي القئم فإنه ليس كذلك بالميزان التاريخي للصراع بين القوى المعتدية وبين شعوب لا تملك إلا أن تقاوم العدوان إذا لم ترد أن تصبح نسياً منسياً. المستوى الثالث، الذي قد يكون فيه مقتل الخطاب السياسي الأميركي وإن نجحت القوات الغازية موقتاً في ضرب يدها على العراق، هو المعارضة العربية والاسلامية والمعارضة العالمية لسياسة العسكرة الأميركية ولسياسة عولمة المكارثية وسياسة توزيع رعب الإرهاب الأميركي المنظم على كل بلد قد لا يرى مستقبل شعبه في الانقياد إلى بيت الطاعة الأمريكي. وقد عبرت هذه المعارضة عن نفسها على صعيدين: فهنالك مواقف الدول وهذه لها حساباتها غير المحسومة بعد لصالح إقامة علاقات دولية تعددية وعادلة بين أعضاء المجتمع العالمي بدليل عجز مجلس الأمن إلى هذه اللحظة عن إصدار بيان يدين الحرب الأميركية على العراق أو يطالب بوقفها رغم المعارضة الدولية الواسعة لها. وهناك المعارضة على صعيد الشعوب. هذه الشعوب التي لم تكف يوماً عن التظاهر ضد قرار الحرب في كل مراحل الأعداد الأميركي للعدوان إلى هذه اللحظة هي وحدها القادرة على طرح خطاب سياسي سلمي عالمي يشكل بديلاً من خطاب الهيمنة الأميركي. وهذا يطرح السؤال الذي يجب أن لا يشغلنا عنه تسارع الأحداث مهما بدت فداحتها لغير صالح المقاومة "موقتاً" في هذه اللحظة، وهو: هل العدوان الأميركي على العراق هو حقاً كما تقول الإدارة الأميركية حرب على العراق أم أن هذا العدوان قد أشعل بالفعل فتيل حرب كونية بين من يريدون "السيطرة الانفرادية" في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والقيمية على مقدرات المجتمع الدولي بالترهيب أو الترغيب أو بقوة السلاح وبين أولئك الذين يحلمون بالحب والخبز والحرية والتعددية العادلة بين شعوب الأرض وحضاراتها؟ ويبدو أن الحرب على العراق واندلاع التظاهرات والاعتصامات في عواصم العالم على نحو غير مسبوق في التاريخ الحديث للمشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي ينبئ باستعداد الشعوب لدفع ثمن هذ الخيار الخطير الذي لم يعد منه بد. * كاتبة وأكاديمية سعودية.