يعتبر العدوان الأميركي الغاشم على العراق، حرباً غير متكافئة بين جيش أقوى دولة في العالم مدجج بكل تكنولوجيا القتل والدمار، وجيش دولة ضعيفة محاصرة مستنزفة منذ أكثر من اثني عشر عاماً. ولا توجد ذرة شك في امتلاك الولاياتالمتحدة القدرات العسكرية، والمهارات القتالية، والأسلحة الفتاكة القادرة على إنزال هزيمة بالعراق، وإلحاق الخسائر الجسيمة بالنظام الحاكم في بغداد، وبالشعب العراقي نفسه الذي يقدم أغلى التضحيات دفاعاً عن نفسه وأرضه. فالفارق الضخم بين الطرفين في العدد والعدة، مثل الفارق الهائل بين جوليات ودافيد في الأساطير القديمة. هذه الحرب الهمجية تأتي في مجملها تعبيراً عن أزمة عاتية في الفكر السياسي الأميركي الآن، أزمة طفحت أعراضها في التخبط الذي غدت تعيشه علاقات واشنطن مع العالم، ونتج عنها طوفان من الكراهية لم يسبق أن أصيبت به إمبراطورية أبداً. وعلى رغم نتيجة حرب العراق، فقد خسرتها الولاياتالمتحدة سياسياً وشعبياً وأخلاقياً وقانونياً. فما أقدمت عليه الولاياتالمتحدة وبريطانيا من شن حرب على العراق، يمثل عدواناً صارخاً على ميثاق الأممالمتحدة، وعلى حق الشعوب في الحياة. وعلى جميع المواثيق والأعراف الدولية. كما أنه يمثل انتكاسة كبرى لمسيرة المجتمع الدولي على طريق التحضر، وخطورة ما أقدمت عليه الولاياتالمتحدة، هو أنه يأتي من القوة الأولى في العالم، التي تتحكم في مصير الإنسانية، عبر ما تمتلكه من أسلحة تقليدية متطورة، وأسلحة دمار شامل، وقنابل تحدث تأثيرات رهيبة من حيث التدمير والقتل ونشر الخراب. والأكثر خطورة أيضاً ما صاحب هذه الحرب من تصريحات على لسان أعضاء في الإدارة الأميركية تحدثوا عن ضرورة هدم الأممالمتحدة، وبناء تنظيم دولي جديد يحكم العالم، أي إنشاء منظمة دولية جديدة، بحسب مصالح الولاياتالمتحدة ورؤاها وعلى حساب مختلف دول المعمورة، التي ليس أمامها إلا أن تتكيف مع الزعامة الأميركية التي ستهيمن على العالم، وتفرض عليه الخضوع والاستسلام لجبروت القوة الأميركية الأوحد. ويبدو واضحاً أن هناك خللاً جوهرياً في رؤية الولاياتالمتحدة للعالم، ولسبل إدارة ما فيه من مشكلات وأزمات، وأن رؤية هذا الخلل وتقديره لم يعودا حكماً عربياً، بل باتا حكماً دولياً، وأحسب انه سيكون هو حكم الرأي العام الأميركي أيضاً. كما أن الحرب الأميركية على العراق غذت الى درجة كبيرة قوى التطرف والتشدد في أنحاء العالم، فقد شجعت مقولات صراع الحضارات والثقافات، بل ان بعضهم ذهب الى الحديث عن بعد ديني للحرب، وهو ما سبق أن حذرت منه قيادات أوروبية مستنيرة، لكن الإدارة الأميركية لم تعر هذه الأصوات أي اهتمام، ولا شك في أن الموقف الذي اتخذه بابا روما يوحنا بولس الثاني أكد في شكل قاطع عدم المشروعية الأخلاقية لهذه الحرب، فالرجل ظل على موقفه الرافض لهذا الجنون العسكري الذي اختارته الولاياتالمتحدة طريقاً لسطوها على ثروات العراق وسرقة موارده. ان حسابات صقور الإدارة الأميركية زينت لهم المكاسب التي ستترتب على الحملة العسكرية السريعة والنظيفة - بحسب تقديرهم - على العراق، وانها ستكون بداية لمرحلة تكريس السيطرة الأميركية على العالم، ورسموا في مخيلتهم صوراً وردية للحملة على العراق، وتعاملوا معها باعتبارها حقائق، لذلك كانت صدمتهم كبيرة من الآداء الرائع والمستميت للجيش العراقي. على رغم الانتصار، فقد هُزمت الولاياتالمتحدة يوم كسبت حقد الرافضين وغضب الثائرين، واستخفت بعقول وقلوب ودموع ملايين البشر الذين خرجوا في كل أرجاء المعمورة يطالبونها بعدم شن الحرب ووقف حمامات الدم. لن يصدق المواطن العراقي أو المواطن المسلم أو أي انسان عاقل في العالم أن تأتي كل هذه القوات والطائرات والمدرعات والصواريخ إلى العراق لكي تحرر الشعب العراقي وتعيد له ديموقراطيته المسلوبة. إذ كيف تجيء الحريات على يد جحافل القوات العسكرية الغازية، وكيف يكون العدوان طريقاً للديموقراطية، فلا توجد حريات على أشلاء الضحايا، ولا توجد ديموقراطية بين بقايا الموتى. لقد وصل الغرور بالعصبة الفاشية الحاكمة في الولاياتالمتحدة الى حد الغباء المطبق والعماء المطلق. الحرب الأميركية العدوانية على العراق تصنع عالماً يتقهقر بالحضارة الإنسانية الى عصر الغابة، يتخلى فيه البشر عن قواعد ارتضوها لضبط العلاقات الدولية، لتحكمهم قاعدة وحيدة سادت عبر التاريخ الإنساني هي "القوة" مبددين تراثاً صنعه الفلاسفة والمفكرون المحدثون بإضافة عناصر أخلاقية وثقافية اليها، لعلها تقمع "الوحش" الساكن داخل الإنسان الأقوى أو الدولة الأقوى. صحيح ان البشر لم ينجحوا تماماً في ترويض القوة خلال القرن العشرين لأسباب كثيرة أهمها انه من الصعب تعديل مسار ما درج عليه الإنسان عبر آلاف السنين في مئة سنة فقط، لكن كانت العجلة تدور والأمل لم يغادر نفوس سكان الأرض، لا سيما بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي تجاوزت الحدود والفوارق والجغرافيا، حتى جاءت الولاياتالمتحدة في العام الثالث من القرن الحادي والعشرين، وقلبت مائدة القانون الدولي والمعايير الأخلاقية في وجه العالم، وعادت به الى عصر الحروب الهمجية، التي يحكمها المنطق الامبراطوري فقط في شنها. ما يحدث اليوم هو ببساطة نهاية حضارة، وليس شروق عصر جديد، بل هو ظاهرة إفلاس حقيقي، وظلامية زاحفة. هي نكسة حضارية تشير الى صعود زمن دموي يتقدمه قابيل الذي عُقدت له الزعامة. * كاتب مصري. سفير سابق.