هل تعجّل المعاناة الفردية والجمعية ولادة الابداع، ام على العكس، تعيقه وتحبطه؟ وأعني بذلك المحن الجمعية الكبرى التي تمتص الافراد وتلغي تميزهم وتحدّ من قدراتهم على التحرك داخل مجالاتهم او الانطلاق خارجها. وهل لولادة الابداع علاقة بما يُتوقع من الاديب؟ هل يدرك المبدع ما يتوقع وينتظره الآخرون، وكيف يسلك ازاء هذا الانتظار والتوقع، هل يرضيه؟ يزعجه؟ يدفعه؟ يحبطه؟ وكيف يصنع اذا ما قرر الاستجابة، سواء لدوافعه الذاتية، او لاغراء انتظار خطابه من آخرين، او للعاملين معاً؟ هل يعطي ما يريده هو ام ما يريده الآخرون؟ هل يقايض الآجل بالعاجل، فاذا ما ادرك انه لن يستطيع انجاز ما "يريده" الآن، فانه يصنع ما يريده المنتظرون؟ لا مفر من الاقرار بأن القارئ ينتظر من الاديب / الادب ان "يحدثه" عما يجري "هناك" حيث الكاتب شاهد حي مؤهل بحكم كونه مميزاً بالموهبة والبصيرة والقدرة على الوصول الى القراء، لأن يشهد ويتقدم بشهادته ما دام قد فتح فمه ووضع سنّ القلم على صفحة الورق. فهل حقاً يحدّثنا الادب بما ننتظره منه؟ ومتى نكفّ عن انتظار "حديث" الادب؟ وهل نكف؟ وماذا لو ان الكاتب تجاهل "واقعه" الذي يشغله ويشكّل حياته وقام ليكتب عن امور اخرى غير ذات صلة، او ذات صلة "ما" بما هو فيه؟ هل سيعتبر القارئ عاجزاً عن الافصاح، وماذا لو اعتبره "عازفاً" عن الافصاح؟ وماذا عن الناشر؟ هل يستخدم النشر وسيلة لدفع الكاتب الى الافصاح الى التعجّل في الافصاح؟ لا بد من الاتفاق على ان القارئ /الناقد/ الناشر ينتظرون من الكاتب افصاحاً وكشفاً لا تشوبهما شائبة، حتى وان كان ذلك على حساب الاعتبارات الفنية، او حتى، اعتبارات السلامة الشخصية. وحتى لو ادرك المتلقي ان الكاتب لم يقدم له سوى العابر الفجّ من متطلبات القراءة. واذا ما وضعنا قلّة قليلة من الكتّاب يمكنها في ازمان الاضطرابات وامكنة المحن الجمعية حماية نفسها بالخبرة الطويلة او الموهبة او العزوف عن التأمل في الواقع، فتكتب اعمالاً لا يمكن قراءتها على انها "شهادات واقعية" فان غالبية الكتاب والكاتبات يميلون في ظرول المعاناة الجمعية الى كتابة النصول الواقعية: اولاً: لشدة اغراء المادة الواقعية بسبب من راهنية تأثيرها في الذات، الفردية للكاتب، والجمعية للكل الذي ينتمي اليه. ثانياً: لضغط الوقت وتفجّره بالاحداث مما يدفع بالانفعالات الحادة المتطلبة للتعبير. ثالثاً: إغراء تطلّب القراءة من آخرين يتلهفون الى معرفة ما يجري "هناك". وفي احيان كثيرة يكتب الكتاب اليوميات والمذكرات على امل/ قصد الاهتداء بها لكتابة "نصّ آخر" في "وقت آخر" وقد تطرأ معطيات تدفع به/ بها الى نشر المادة الاولية باغراء الانفراد باتلاك الوثيقة الثمينة. وقد تموت تلك المادة الاولية وتندثر حين لا ينجح اي اغراء في دفعه الى نشرها او اعادة كتابتها. في واقع الحال، فان الكاتب مضروب بزمنه يساوي شهادة عن الزمن ثم عن الكاتب وقد لا يكون للكاتب حصة في "ذلك الزمن" يدعيها وتبرر له الشهادة او الادلاء بأي دلوٍ في بئرها. اما الكاتب مضروبا بخبرته عن زمنهفيساوي شهادة عن الكاتب ثم عن الزمن، وهذا يعني بالضرورة مرور الوقت. وهذا الوقت قد يجعل للكاتب حصة في الزمن تبرر له الشهادة. ان المخاطر التي تواجه الادب/ الكتابة في بؤر المحن الجماعية، كثيرة. معظمها داخلي، لكن الخطر الخارجي الاكثر شيوعاً هو "التيسير" الذي يلقاه الكتاب ويدفعهم الى الاغتراف من الوقائع الفجة وصنع الادب الواقعي الرث. والمادة الواقعية النيئة مادة جذابة للقارئ او المراقب الخارجي الذي لا فرصة له لعيش تفاصيل تجربة حياتية جمعية وينتظر ان يجدها في الادب المكتوب في تلك المنطقة وبقلم ادباء/ اديبات يعيشون "هناك". وكل قارئ/ ناقد/ ناشر هو مراقب متعجل / متلهف. اي انه يعيش الزمن ويدرك افتقاره للمعلومة والخبرة، وحتى القدرة على تخيّل ما يحدث هناك ويريد ان يجد ذلك في الادب المنتج "هناك". وللمفارقة، فان المراقب الخارجي المتعجل يصنع ما يصنعه القريب المحلي، او الموجّه الفكري الذي يدفع الكاتب الى الالتصاق بالمادة الوقائعية النيئة، لا "يفخرها" ولا يزيد صلابتها ولا يشكلها بحيث يصعب الحكم عليها او توصيفها. فالمادة الوقائعية اطوع لتدخل القريب ولاعمال الرقابة الذاتية للاديب نفسه. ما اكثر الادباء الذين قد قالوا وهم في خضمّ المعاناة بأنهم لو شاؤوا كتابة ما يحدث حولهم وما يصادفهم لأنجزوا اعمالاً تتفوق على اعمال كتّاب الواقعية السحرية! فهل هذا حقيقي؟ ممكن؟ قبل ذلك، لنا ان نسأل: من الذي يكتب المادة الوقائعية النيئة في الادب؟ من لا يملك القدرة على اشادة المتخيّل لفقر موهبته؟ او من لا يستطيع ذلك خوفاً من العواقب؟ او من لا يريد، تهاوناً وتعجلاً؟ او من يدرك انه يصنع ما يراد منه تجنباً لحضور البنى الفكرية والتخييلية الاشد تطلباً لتحقق الابداع؟ فما الوقائع والمادة الوقائعية الفجة سوى مادة عابرة سريعة العطب وتوشك على ان تعتبر مادة اعلامية. وهي تعامل بالفعل على انها كذلك من قبل الناشر. بصناعة رائجة للعلم او للتأثر او لتبرير الانفعال العاطفي المبذول تجاه قضية الكاتب الجمعية ووضعه المثير للتعاطف والأسى. ان اطناناً من اكداس الادب العقائدي الموجه تشهد على خرافة هذا التصور، كما تشهد عليه الاعاقات القصوى التي تعيق ظهور الادب الواقعي الحي الذي تنضجه المعاناة وعمق الموهبة وتحول دون خروجه الى النور عقبات لا يدركها سوى الكاتب نفسه، صاحب الحق في تقرير لحظة ولادة جنينه، او ربما "وأده"، حتى وان توسل اليه من تحت الردم، كما المؤودات يتوسلن بآبائهن: "قتلتني يا أبي"!