أفاض الإعلام العربي على العراقيين بدروسه وتوجيهاته والزاماته وتحليلاته، وآن الأوان لنقرأ بعض الدروس العراقية التي قد تساعد على ردم الهوة التي قامت بين الفريقين. لو سئل من هو الذي اطلق مسيرة تحرير العراق: هل هو الاميركي رامسفيلد ام هو العراقي صدام حسين؟ فماذا يكون الجواب؟ البعض لن يقبل السؤال والبعض لن يقبل الجواب، لكن الأمر بسيط بساطة الاعتراف به وهو ان الذي نحن فيه اليوم هو من صنع صدام حسين وليس فقط من صنع رامسفيلد. وفتح ملف صدام حسين ونظامه وتقعيد المواقف منه له كل الاولوية على فتح ملف الاحتلال الاميركي للعراق. وذلك لأن توحيد الرؤية وبلورة الاختلاف حول النظام يسهّل مهمة خلع اي تركيبة من صنع رامسفيلد، في حين ان استمرار الخلاف على المرحلة السابقة وكيفية الخروج منها يُمَكِّن رامسفيلد في العراق، وقد يجعل له حزبا كبيرا بين العراقيين. - ولتصفية ملف صدام حسين ونظامه الاولوية العملية، ان ظلت لتحرير العراق الاولوية النظرية التي لن تقدم كثيراً أو تؤخر في بناء مجتمع مقاوم، قادر على انزال الهزيمة بالمحتل اذا ما تمسك باحتلاله، او اذا ماحاول املاء شروطه لضمان ولاء المرحلة اللاحقة على الاحتلال. - ان كون القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية والبعض يقول المسلمين، لا يعني ولم يعن منذ قيامها، ان لها الاولوية لدى كل العرب والمسلمين في كل لحظة. فابان حرب تحرير الجزائر مثلا، لم تكن القضية الفلسطينية لها الاولوية لكثير من العرب وللجزائريين على اقل تقدير. مع ذلك لايجوز النفخ في اي قضية لتحل محل هذه القضية، كما حدث في السبعينات والثمانينات عندما كانت دعاية النظام العراقي نفسه تتحدث عن الدفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي وتنفخ في نار العنصرية ضد الايرانيين. وفي المقابل هكذا كان الأمر إيرانياً أيضاً سواء في ظل حكم الشاه ام في ظل من اتوا بعده، والذين بارزوا العرب حتى في عروبتهم وليس في إسلاميتهم فقط. هذا النفخ شهدناه معكوساً إبان الحرب الاخيرة على العراق ودفع المتطوعين العرب لنصرة الشعب العراقي، كأن العراق تنقصه الخبرات القتالية والرجال. - ان من حق العراقيين ان نطبق عليهم، على الاقل ما قاتل بعضنا بعضا من اجله، ألا وهو استقلال القرار الفلسطيني. فالأولى ان يكون للعراقيين قرارهم المستقل. والقرار المستقل لا فرق اذا كان في الحالة الفلسطينية للشيخ امين الحسيني او احمد الشقيري او ياسر عرفات او اليوم وغداً محمود عباس. فكيف وعند العراقيين مرجعيات دينية وقيادات سياسية وتاريخ طويل من الصراع ضد النظام الذي جثم على صدورهم عقوداً وعقوداً ولم يكن لنا، نحن فرسان الكلمة العربية، موقف حاسم منه ومنها. وقد تحدثنا دائما عن خارج وداخل وجعلنا الشأن العراقي الداخلي شأناً لا يعنينا، حتى لو كان مجرد توقيع عريضة: ليس ضد اعدام محمد باقر الصدر واخته بنت الهدى، بل على الاقل ضد تشريد محمد مهدي الجواهري ونزع الجنسية عنه وعن آخرين من مثقفي العرب العراقيين. حتى لانذكر ونتذكر حلبجة ومجازر كربلاء والنجف. اليس من حق البعض ان يعتقد ان خلفية مذهبية واثنية تحكمت بالموقف العربي، موقف الحكومات والمحكومين، وخصوصا لدى اصحاب القلم والرأي. - قبل وقوع الحرب كان الصوت مرتفعاً بالقول ان مجرد هز النظام سيؤدي الى كارثة عربية ويفتح الابواب امام نفوذ اميركي لا يتوقف مده حتى يمتد الى كل بقعة عربية. متجاهلين ان النفوذ الاميركي بالكاد ينحسر عن بعض نقاط الواقع العربي المعاش بالسياسة والثقافة بل بالوجود العسكري أيضاً. وأول من سهل انتشار هذا النفوذ النظام العراقي عندما افسح المجال للقوات الاميركية لتدخل وتحسم الحرب العراقيةالايرانية. وعاد ووسّع هذا الوجود في ظل غزوه للكويت وتهديده لدول الجوار. وحتى اللحظة الاخيرة فضل ان يسلم مدن العراق وعاصمته للاميركيين على ان يتنحى عن السلطة لمصلحة طرف عراقي داخلي ولو من قلب النظام نفسه. ولكن ما ان سقط النظام حتى سارع بعضنا الى وهذا جيد القول ان العراق كان يعيش منذ عقود في العصر الاميركي وانه الآن مستعد للخروج من هذا العصر. والامل ان لا يخلق تعجّلنا الخروج شروطاً لاعطائه فرصة للبقاء مدة اطول. - ان توجيه التهم بالخيانة والعلاقة مع الاجنبي كان مؤداها دائما، على الاقل في الحالتين الفلسطينية والعراقية ، سابقاً وحاضراً، تصفية النخبة شريحة بعد شريحة. وعراقياً، مهدت الطريق واسعا امام قيام هذه الديكتاتورية التي دفع العراقيون غاليا ثمن رسوخها والثمن الاغلى لاقتلاعها. وقد كان السكوت عن جريمة الاعدامات في صفوف هذا الفريق تغطي لاحقا سلسلة الاعدامات في الفريق الآخر. واليوم لا شك ان بعض الصمت المريب بل التعبير احيانا عن الرضا عن اغتيال رجل الحوار والانفتاح والتنوير السيد عبد المجيد الخوئي، وهو في حالة استسلام كاملة مجردا من كل حماية، قد يكون مقدمة لاغتيالات اخرى، او على الاقل هذا ما قصد اليه منفذو هذه الجريمة البشعة. - من ابرز الدروس التي قدمها لنا العراقيون انهم شعب حضاري قادر على ادارة نفسه بنفسه، وهذه اقوى حقيقة تُشهر بوجه المحتل اذا ماتردد في الانسحاب والالتزام بالجدول الذي يتم التوصل اليه مع ممثلي الشعب العراقي، وفق الآلية التي سيتوافقون عليها في رسم المرحلة الانتقالية وتحديد مداها وكيفية انتهائها. وقد حقق هذا الشعب مايشبه المعجزة خلال الانضباط الكامل الذي مارسه اثناء زيارة كربلاء. وبرز ذلك الانضباط على مدى الأيام التي اعقبت سقوط النظام، ما خلا فترة محدودة شهدت الى جانب تصرفات عفوية لمن احسوا بسقوط يد الطاغية عن رقابهم تصرفات ذات خلفيات منظمة مدروسة هي الارجح من صنع بقايا الاجهزة التي لم تتفكك كلية حتى الآن. - ان العراق ليس ايران ولن يعيد انتاج التجربة الايرانية. فكيف باستنساخها، والعراق ليس جنوبلبنان او ضاحية بيروتالجنوبية حتى تقوم فيه السيطرة للون واحد سياسيا كان الأمر ام دينياً. فتعدد مراجع الدين في النجف وكربلاء، واختلاف اذواقهم الفقهية والفلسفية والاجتماعية امر متعارف عليه ويشهد عليه تاريخ طويل من الانتاجات الفكرية والفقهية. فهذه البقعة كانت اول ارض اسلامية تستعمل المطبعة الحجرية لطباعة تراثها الديني وكانت من اوائل المناخات الاسلامية التي اهتمت بالصحف الحديثة فأصدرتها واستوردتها من بيروت والقاهرة ونشرت فيها، بل ان تياراتها الفقهية تعاملت باكرا وايجابيا مع نظرية النشوء والتطور، وكذلك الأمر اليوم مع قضايا الاستنساخ. ويكفي البيئة النجفية انها صدّرت ظاهرات مميزة مثل الشعر الحديث والطالب الحوزوي الماركسي. فهي بيئة فكر واجتهاد لا بيئة جمود وانغلاق. - ان العراقيين على مذاهبهم المختلفة واعراقهم المتنوعة كانوا دائما يتحدون في بوتقة وطنيتهم العراقية. وهذا ما اثبتته فترات الصراع ضد الاحتلال البريطاني بعد سقوط الدولة العثمانية، وفترات الصراع من اجل الاستقلال ثم في المراحل حيث كانت القضايا العربية والاسلامية تولِّد بينهم تيارات واجتهادات وأحزابا، لكن وطنيتهم العراقية لم توضع موضع شك في اي مرحلة من المراحل التي تلت نشوء الدولة العراقية الحديثة. - الدرس الاخير والاهم الذي يبرز في مرحلة الحرب على العراق وسلوك العراقيين إزاءها، وبعدها، ان التنوع السكاني العراقي والتعدد في مصادر ثرواته اضيف اليه تنوع في مصادر الثقافة مع انتشار ملايين العراقيين في ارجاء المعمورة وهم يستعدون للعودة الى بلدهم بعد تحريره واستقلاله، حاملين ثقافات اسكندينافيا والعالم الانكلوساكسوني والاوروبي اللاتيني الى جانب ثقافات آسيوية وافريقية وعربية وايرانية. والعراق قيل قديما انه بوتقة صهر لا تفرق. وبالتالي فان الخيار الوحيد الملزم للعراقيين جميعاً سيكون تعدديا ديموقراطيا غير ديني كبديل للديكتاتورية المنهارة من جهة وللتفتت العرقي والمذهبي من جهة ثانية.