بغضّ النظر عن مدى جدية واشنطن في موضوع الديموقراطية للعراق، يناقشه مثقفو أميركا بحرارة. هاجس بعضهم ان التعاطي الرسمي مع الموضوع تبسيطي: فالادارة، أولاً، تريد الديموقراطية أكثر مما يجب. وترى الديموقراطية، ثانياً، من باب الاجراء الانتخابي المباشر والفوري. وهي، ثالثاً، لم تتخلص من تجربة اوروبا الوسطى: هناك سقطت الانظمة التوتاليتارية فنشأت الانظمة الديموقراطية. لماذا؟ لأن الديموقراطية كانت ضامرة في الصلب القاعدي للمجتمعات والثقافات. التقليد الاوروبي، هناك، حي. لم تستطع التوتاليتارية الشيوعية ان تُفنيه: ما فعلته انها حملته على الانسحاب من الحيز العام الى الحيز الخاص. لطأ في الخاص بانتظار الوثوب على العام. سقطت الانظمة. وثب. حتى بولندا حين احتمت بكنيستها من السلطة لم تعبّر عن سياستها البديلة كنسياً. عبّرت ديموقراطياً. انشأت احزاباً دينية لكنها لا تريد تديين المجتمع. احزاباً وافقت على فصل العام عن الخاص. الزمني عن الديني. وطبعاً وافقت على تداول السلطة. ثم: الحياة السياسية لجميع القوى الفاعلة في أوروبا الوسطى مرهونة بالدولة - الأمة: اقتصادها ومالها وتعليمها وطبابتها ومواصلاتها داخل حدودها. ليس هناك "وطن أكبر" ولا "قضية فلسطين". ذاك أن الديموقراطية مستحيلة في ظل منح الأولوية، لدى التصويت، لما يتطلبه "الوطن الأكبر" و"قضية فلسطين". فإما هذا او ذاك. لماذا؟ لأن الأولوية الأخيرة تُبقي المجتمعات في مراحل احتقان وتعبئة، ولا ديموقراطية مع الاحتقان والتعبئة. المسألة ليست وعظاً عن توفيق "القومي" و"الديموقراطي". المسألة أن "القومي" ينفي الدول و"الديموقراطي" يعتبرها الشرط الشارط للسياسة. فريد زكريا، رئيس تحرير "نيوزويك"، احد الذين اصدروا كتباً تعالج الموضوع. "مستقبل الحرية" عمل لافت في عقلنة الدعوة الديموقراطية. في تليين المماثلة بينها وبين الدعوة الانتخابية الفورية. نحن لدينا مثَلنا: الجزائر في 1989-1990: انتخابات من دون تقاليد ديموقراطية وبعد استبداد دمّر كل احتمال سياسي. زكريا يورد أمثلة عدة: الانخداع بنموذج اوروبا الوسطى قاد الى عمليات انتخابية لا تُحصى أنتجت مستبدين في آسيا الوسطى وأفريقيا واميركا اللاتينية. لوكاشنكو في روسيا البيضاء. شافيز في فنزويلا. موغابي الذي تجدد ديموقراطياً في زيمبابوي. لا بل بوتين في روسيا. في الهند، بلد زكريا الأصلي، تستخدم الاحزاب الهندوسية المتعصبة مناسبة الانتخابات للتحريض ضد المسلمين: ذاك ان كسب الجمهور الهندوسي انتخابياً يستدعي التحريض. والتحريض قد يقود الى عنف يقوّض الديموقراطية. الكتاب يستعيد فيينا 1895: المدينة انتخبت لرئاسة بلديتها كارل لويغير. الامبراطور فرانز جوزيف الأول رفض الاعتراف بانتخابه لأن لويغير متعصّب كاثوليكي ولاسامي. هكذا يقترح زكريا وقف الانتخابات 5 سنوات على الاقل. خلالها تنشأ "ديموقراطية غير ليبرالية" تطوّر ركائز الليبرالية الدستورية: حكم القانون وفصل السلطات وضمان الحريات الاساسية للتعبير والاجتماع والعبادة والملكية. آنذاك يتم تعليم الديموقراطية فيما تُزال الاحتقانات في المجتمع. وبالطبع تسهّل البحبوحة الاقتصادية عملية كهذه وتسرّعها. في الوعي الاوروبي عموماً، هذه الاستدراكات على الديموقراطية ليست جديدة. منذ وصول هتلر الى السلطة بالانتخابات، عام 1933، وهي شاغل فكري. الاميركان بدأوا يتعاطون معها ايضاً كشاغل فكري. اما في وعينا نحن فهناك نقد جاهز: الأميركان لا يريدون الديموقراطية، الا حين تخدمهم. الحجّة صحيحة وخاطئة. صحيحة لأنهم، بالطبع، ليسوا فاعلي خير ولن يقيموا ديموقراطية ضدهم. وخاطئة لأن الديموقراطية حين تنبثق من "العداء ل" لا تكون ديموقراطية بل تغدو خطراً وجودياً على الديموقراطيين انفسهم، قبل ان تكون خطراً على اميركا. وهذا ينبغي ان يعنينا، بمعزل عن اميركا، فيما نشاهد الاحتمالات الشعبية المرعبة التي خلّفها نظام صدام حسين.