تقرأ "بيروت ونهر الخيانات" التي صدرت لمحمد علي اليوسفي عن دار الفارابي، بيروت، على مستويين: السرد الظاهر واللعبة التي يشوّش بها اليوسفي فهم القارئ حول هوية المؤلف. الكاتب التونسي بالغ الاهتمام في الشكل ويجمع ثلاثة أصوات بالرسائل والمونولوغ العبثي بين الصفحتين 67 و74 واقتراح نهايات عدة لكتابه. الرواية الصغيرة 147 صفحة صغيرة مشغولة الى درجة تطغى فيها لعبة المؤلف والضياع بين النثر والشعر على الأحداث التي تجري غالباً إبان الحرب في لبنان. كان يمكن أن تقدم هذه خلفية واقعية قاتمة يضيئها الحب، لكن اليوسفي لا يعنى حقاً برسم شخصياته. ينشغل بعبارات من نوع: "أين أنا؟ أأكون هنا أم هناك؟ بأي لغة من لغاتي أخاطب الآخرين؟". "عقد صداقة، بل إلفة، مع زهرة لا يسميها، ثم مع إمرأة، قبل أن تتحول في أحلامه الى تمثال" ص 7. "صار الكلام يأتي من جسدها إلي فأتخلص من الكلام القديم الذي حفظته" ص 20. الهم الشعري يعرقل السرد والشكل معاً لكنه يطيل الرواية التي تبدو مختلفة أو ذات تفاصيل قليلة لا تسمح ببناء قصصي متكامل. الراوي تونسي عاش في بيروت الحرب وأغرم براوية التي التقاها للمرة الأولى وهي بثياب النوم الخفيفة في الملجأ. ماضيها ثوري ومرت بتجربة حزبية قاسية ويتردد أنها طردت من الحزب لقتلها رفيقاً حاول اغتصابها. يمر الحدث بسرعة وتقطع على رغم هذه المادة الروائية الصلبة والملونة لرسم المرأة والعلاقة، وعلى القارئ استنتاج المعنى أحياناً لتفضيل اليوسفي الانغلاق والشعر على القص الذي يغنيه الشعر من دون أن يغلقه أو يشوشه. يصور امرأة غامضة غنية "نساء يسكن امرأة واحدة" وهي تهتم بتعزيز "أبعادها" المختلفة فتكثر من المرايا في البيت الذي تملكه لأنها "تعددها". تتعهد غموضها وتتعمده فتثير بنفسها الفضول حول قلادتها وترفض الافصاح عن الصورة داخلها في آن. ذلك كله لا يحول راوية الى اسطورة كما يرغب الكاتب، وقد لا تكون اللغة المختلطة وحدها ما يمنع اكتسابها لحماً ودماً. يريد تصوير قصة حب كبيرة أو هاجس قاتم، وتكثر اشاراته الى المرأة - التمثال والمرأة الفارعة لكي يشدد على حب المرأة المستحيلة على أن ذلك ينحصر في اطار شعري قلما يرتبط بسلوك نقول عندما نقرأ عنه اننا نعرف جيداً ماذا يعني بجماله وأوجاعه. يتلصص عليها بالمناظير ويعكس أشعة الشمس على شقتها من غرفته على السطح فيثير شك المسلحين الذين يحاصرونه. لا يتوقف اليوسفي عند هذا الفعل المراهق الأليف بل يغرق في متاهة اللغة. "كان يوقّت حضوري بحركة الظل ودرجات الضوء حتى يميل ظلي الى حافة النعاس فأكاد أنحني لألقي برأسي على زنده. عندئذ يستيقظ مرهقاً بالانعكاسات "شمس علينا، وظلالهم على ظلي، وظلي على ظلال من؟" ص 14. اللقاء في الملجأ وهي بثياب النوم يجمع الحرب والرغبة، الموت والحياة. لكنها "سهلة وممتنعة في آن" تغويه وتمتنع عليه وتستدرجه من تونس الى بيروت لتستضيفه في بيتها وتصعقه عندما يكتشف انها صديقة صديقه عزوز المرداسي. لا نعرف إذا كانت مغرمة بالغزل الذي يدنيها من الحب، أو وهمه، من دون ان يحرقها بناره، أو هاوية جمع المعجبين في شكل مراهق ومجاني. لا تكتسب راوية أو غيرها من الشخصيات حيوية مقنعة، وليست هناك اشارة واحدة الى الحب أصلاً، أو حتى الى الرغبة الجميلة التي تحيي النفس خصوصاً في ظل الحرب. في الصفحة 75 يقول عندما يراها بعد غياب انها لم تكن علاقة حب حتى من طرف واحد، وإذ يحقق حلمه ربما بالنوم معها يفاجأ بسلبيتها: "تترك لي جسدها من دون حركة واحدة" ص 89 فيظن أن السبب توقفه عن الكلام لأنها "صانعة الكلام" ص 91. قد تكون شقيقة روحه، فهو يقول شيئاً فتكمله هي، ص 87، غير ان اتفاقهما الروحي لا ينفي صراع الجنسين الذي تخرج المرأة منتصرة منه في كل الأحوال. راوية تمتنع عليه ثم تترك صديقه عزوز، وزوجة هذا تستولي على البيت والمال ومع ذلك "تعتبر نفسها مظلومة مطلقاً وأنا الظالم مطلقاً"، وشروق تستغل الراوي في الفراش في موقف هو الأجمل في "بيروت ونهر الخيانات". يرتبط الجنس بينهما بلعبة السلطة، لكن شروقاً تتصرف كصيادة فتفرض أسلوبها وتستعمله لتصل الى ما تبغيه. يحس ان جسمه انفصل عنه وانه لم يعد موجوداً وتفاخر هي بسلبه واغتصابه كأنها ترد على دور المرأة التاريخي السلبي في العلاقة. شروق البكماء نقيض راوية المغرمة بالكلام ومكملة لها، ولئن رغبت الأخيرة في فرض شخصيتها واستقلالها اشتركت مع الراوي وشروق في السعي الى القوة. في الصفحة 135 يقول الراوي: "حتى في غيبوبتها سعيت لأثبت لنفسي عليها سلطة ما" كأن جوهر المطاردة لا يتعدى الظفر بها وقهرها، وكأن السلطة وحدها تفسر علاقته بها. في ص 33: "للنساء الحكم الخفي، والمعلن أحياناً، فماذا يبقى للرجل؟ مناورات الطفل في أحضان الأم الأبدية". تشبّه راوية نفسها بالتمثال لكن أحلامها تتقد بالرغبة والإشارات الصريحة والرمزية الطيران، المياه الصاخبة، الأمواج الى الجنس. محاولة الكاتب إضفاء البعد الأسطوري عليها تصب في الفراغ لتسطحها وابتذال واقعيتها. تتزوج مغترباً ثرياً طاعناً في السن وتنتظر موته لترثه فتخلصها الحرب لا السن، إذ يموت بقذيفة اسرائيلية في غرفة النوم، والاشارة واضحة الى "موته" المعنوي في هذه الغرفة قبل ذلك المادي. تتزوج ثانية من كاتب يستخدم الجميع بمن فيهم هي مادة لرواياته، وهنا يبدأ المستوى الثاني ل"بيروت ونهر الخيانات". يقدم عزوز هذه الرواية بالعنوان نفسه للراوي عندما يعود الى تونس من زيارة الى بيروت. يذكر اسم الراوي على الغلاف، لكن هذا لم يكتبه ويتهم راوية بكتابته لطغيان السيرة الذاتية عليه مع ذكر الأسماء الحقيقية. في ص 53 تقول ان الراوي هو المؤلف، وفي 78 يقول انها الكاتبة وفي 145 يقول عزوز للراوي ان روايته الجديدة صدرت وانه الكاتب الحقيقي، لا راوية ولا زوجها. هل هو الكتاب نفسه أو غيره؟ لا يهتم اليوسفي بالتوضيح لانشغاله بلعبة الأقنعة، فكما تختلط هوية "راوية" بهوية زوجها الكاتب الذي لا تلبث أن تطلقه بعد صدور الرواية يتشوش الفاصل بين الراوي وعزوز. فالأول كتب حكايات الثاني ووقعها بالحرفين الأولين من اسمه، ص 38، والثاني يسأل الأول عما إذا كان يتمنى قتله لأنه "قناعه الأخير" ص 147. ربما كانت راوية قناعاً آخر فهي تبدأ المونولوغ في الصفحة 9 بسؤاله عما إذا كان حلم بإمرأة عارية قد تكون تمثالاً لا يلبث أن يكتسب ملامح أليفة. وفي الصفحة 135 ينفي أن يكون زوج راوية فيثير الشك بدل اليقين. يقول انه لا يعرف لماذا يسرد حكاية يرويها مؤلف عن مؤلف نقلاً عن مؤلفة هي راوية، ويتساءل ما إذا رغب في تداخل الحكايات أو تبادل الأدوار والأقنعة والخيانات؟