في عام 1986، قبله بقليل أو بعده بقليل، حين كان قلة من الشعراء العرب يختارون البقاء في عزة العزلة على الذهاب إلى مهرجان المربد الشعري الذي ظل يقام في بغداد حتى بعد أن امتلأت شوارعها بالمتأبطين عاهات الحرب مع إيران وإعاقاتها المرعبة وبعد أن صار ذلك المهرجان تمجيداً لآلهة الحرب، أقدم الشاعر البحريني قاسم حداد على استعارة لوحة من لوحات بيكاسو لغلاف أحد دواوينه وأظنه "عزلة الملكات" الذي كان يتم تبادله باليد قبل أن يخرج لاحقاً عن دار نشر. وكانت عقدة تلك الاستعارة أنها تمت في شكل سوريالي لا يقل سوريالية وغموضاً عن اللوحة نفسها. إذ تكونت اللوحة في إخراجها الجديد من ثلاثة مشاهد وكأن اللوحة الأصلية سئمت الوحدة فقوضت إطارها وقررت التعدد وإن خالفت التوقعات، فصارت اللوحة تبدأ بلوحة سوداء تماماً وكأنها صباح يوم صحو من صباحات حروب منطقتنا العربية، ليس في حلكة اللوحة مكان بحجم خرم الإبرة يمكن أن يتسلل منه خيط ضوء واحد. في المشهد التالي من تحولات اللوحة يبزغ إنسان نحيل تكاد لا تبين ملامحه بفعل العتمة، يحمل سلماً يسنده إلى سعة السواد ويمد يده إلى أعلى ويدخلها في سحب السقف الملبدة بالظلام فيسري فجأة تيار كهرباء في زجاج مصباح لم يكن أحد يشعر بوجوده في جفلة الأجفان. في المشهد الثالث حين تضج نوافير النور تكشف لوحة الجرنيكا عن بهاء الحرب وشفافية أحقادها في تحويل البشر إلى شيء يشبه الهباء. تذكرت تلك المشاهد حين كنت أرى كيف حشرتنا جميعاً الحرب الأميركية على العراق في موقع ما من تلك اللوحة حتى لم يبق منا واحد يوحِّد الله من دون ان تكون آلتها العسكرية أو مقصاتها الإعلامية علجت شيئاً من كبده أو تمضمضت بالشيء الكثير من ماء وجهه. غير أن الفارق المريب أن ترتيب مشاهد اللوحة في الحرب الأميركية على العراق بداً مقلوباً عن ذلك الترتيب السريالي الشعري. وربما يرجع ذلك الترتيب المعكوس لمشاهد العدوان على العراق إلى أن سريالية السياسة لا يمكن أن تكون إلا أشد قسوة وأقل خيالاً. فهي على خلاف الفن والشعر لا تكتب أو ترسم بحبر الروح وأحلام البشر. إذ لا تستطيع أن تمارس هواياتها السادية وترتكب دسائسها إلا باستخدام دماء البشر ولحومهم الحية كمادة أولية لصناعة الموت بخاصة عندما تكون السياسة مجرد حصان لشهوات عسكرية واقتصادية جامحة لا ينقص خبثاً ومخاتلة عن حصان طروادة. وهكذا بدت مشاهد لوحة الحرب كما هندستها سياسة العدوان العسكري الأميركي على العراق وعرضتها آلة الإعلام التي كانت نصف مبصرة ونصف عمياء بالترتيب العكسي الآتي: بدأ المشهد الأول من لوحة الحرب بالأشلاء في شكل بدت معه لوحة غيرنيكا لقطة جامدة "متخلفة" جاءت من العصر البائد لكاميرا البعد الواحد وكأنها صورة من صور السينما الصامتة بالمقارنة مع مناظر الموت المتموج أمام عدسات التظهير ذات الأبعاد الثلاثة. فكانت اللوحة الأولى لقطة طويلة عالية التقنية شديدة الإتقان لشروق العدوان الأميركي على العراق فجر الخميس - العشرين من شهر آذار مارس 2003. وعلى مدار الساعة ولعشرين يوماً متواصلة كانت اللقطة تظهر بالألوان الطبيعية الأشلاء البشرية: جماجم الأطفال المتطايرة تحت القصف، نحور النساء المحلاة بالشظايا، ضفائر بنات المدارس المحلوقة بالتحليق غير الخفيض لطائرات "ب 55"، أصابع التلاميذ المقطوعة بالقنابل العنقودية، أرحام الحوامل المحشوة باليورانيوم، مشيمة الأجنة المسرطنة بأسلحة الدمار الشامل، ظهور الرجال المغروسة بالصواريخ الذكية. كان في خلفية مشهد اللوحة الأولى ذلك الأمل النحيل بأن تعوق المقاومة العراقية تقدم إعصار العدوان الأميركي الهائج وإن كان من اليقين أنها لن توقفه. ولم يكن وجود المقاومة العراقية وهماً لمجرد أن البعض صار ينكرها الآن. لم تكن "ميسون" تلك المرأة المسنَّة الموشحة بالسواد والشجاعة وشجن المواويل العراقية الجارح من فدائيي صدام أو من الحرس الجمهوري. كما لم يكن الفلاح الخارج من عسيب النخل "منقاش" جنرالاً من جنرالات القيادة العسكرية لحزب البعث. ولا بد من أن هناك الكثير سواهما من النساء والرجال ممن كانوا لا يقبلون باستقبال العدو بالعناق. لم يكن استعصاء أم قصر على جنود العدو مجرد رضوخ لأوامر صدام. كما لم يكن صد البصرة للغرباء من جحافل الجنود المعتدين لأيام عدة حباً بالقائد الملهم. كانت هناك هوة تكنولوجية مريعة بين العدو وبين مقاومة العراق ما سهل على الأميركيين والبريطانيين وإن تسموا بالحلفاء الانتقال الى المشهد التالي من رعب لوحة حرب أميركا على العراق. المشهد الثاني من تحولات لوحة الحرب يبدأ من النهار الأخير ما قبل سقوط بغداد بالغارة على عدد من مراكز الإعلام الفضائي التي تتابع العدوان على الأرض فيقتل ثلاثة مراسلين دفعة واحدة ويجرح زملاء لهم. وعلى عكس ما حدث في الترتيب الإبداعي للوحة الذي اقترحه غلاف عزلة الملكات تمتد يد أو آياد خفية سيان إن أتت من داخل العراق أو خارجه أو بالتعاون بينهما و تنطفىء بارقة المقاومة، وإن لم تفلح لحسن الحظ في إخفاء الأشلاء البشرية، فإنها تنجح في نقل العرض إلى المشهد الثالث من اللوحة. في المشهد الثالث من لوحة الحرب يسود ظلام دامس ليس فيه مساحة لخيط ضوء واحد. فلا يستطيع معه أي مشاهد على الأرض اجمع وليس في العالم العربي أن يرى غير الغموض يغطي المشهد. يضيف على لوحة الحرب مزيداً من الطبقات الداكنة للسواد فتلتبس فجيعة العدوان بسعادة سقوط الطاغية. * شاعرة وأكاديمية سعودية