ماذا الآن؟ حرب العراق أطلقت مفهوماً جديداً لمعادلة "الانتصار والهزيمة" وفتحت باباً على تداخل بين "التحرير" و"الاحتلال". المشاعر العربية كشفت عمق انفصام الشخصية العربية وحيرتها بين الإحباط والكآبة والصدمة والحسرة والتذمر والاستسلام وبين الاحتجاج والرفض والمكابرة والسعي الجدي للخروج من وضع راهن كئيب ومهين. المشاعر الاميركية وقعت بين تلذذ دعاة الاجتياح بحرب "سريعة ونظيفة" انتهت بانتصار عقيدة "الاستباق العسكري" وبين التأهب لتحديات مجهولة في بقعة وبيئة اعتبرت "التحرير" مدخلاً "للاحتلال" ولاستفادة الشركات والإدارة الاميركية. الآن، ليس مفيداً للمنطقة أو للولايات المتحدة التعمق في الفجوة بينهما، ذلك ان مصير توسيعها مضر بالطرفين. الآن، ان المصلحة العربية والاميركية تقتضي فكراً وتفكيراً جديداً لجعل العراق محطة لنقل العلاقة الاميركية - العربية الى عتبة إصلاح جذرية. ما زال التطرف سيد الساحة الاميركية والعربية والاسرائيلية. صقور المحافظين الجدد داخل الإدارة الاميركية والدائرة المطوقة لها يمثلون طرازاً مميزاً من التطرف الممزوج بالعنجهية المعطوف على العظمة. حرب العراق عززت نرجسية هؤلاء الصقور وجعلتهم اكثر استعلاء وعربدة في شد العضلات وعقيدة الفرض والإملاء. التطرف في الساحة العربية له نكهة الغضب والإحباط والضياع بين البحث عن هوية وبين استراق السلطة لفرض احكام متطرفة، معظمها بطابع ديني. انه تطرف العجز الخطير اذ انه ينبع من الحقد ويتعالى عن الدراسة الواقعية لما تحتاجه البقعة العربية، إذا كان لها الشفاء من عللها العديدة. حرب العراق عرّت افلاس تمسك التطرف بشخصيات فاسدة لمجرد تحديها الولاياتالمتحدة كما فضحت وهم تحويل الشعوب العربية الى قنبلة بشرية في وجه "الغازي" الاميركي، وبالتالي فإن التطرف العربي أصيب بانتكاسة قد تؤدي الى قصم ظهره، وقد تؤدي الى اعادة تنظيمه لانتقام مرير. التطرف الاسرائيلي حكومي وشعبي في آن. ذروة هذا التطرف هو رئيس الوزراء ارييل شارون وحزب "ليكود" الحاكم. وما شجع ومكّن التطرف الاسرائيلي الحاد جاء من عقر الدار الاميركية عبر سياسات الادارة الاميركية وعبر نفوذ المؤسسات ذات الولاء القاطع لإسرائىل والعداء للفلسطينيين والعرب عامة. حرب العراق أمنت الواجهة لغض النظر عن تجاوزات اسرائيل للقانون الانساني الدولي وفتكها بالفلسطينيين، ووفرت الغطاء لتملص شارون من أية عملية سلام مع التركيز على "تغيير النظام" في الساحة الفلسطينية. والأهم، ان انشغال الرئيس جورج دبليو بوش بحرب العراق وعقيدة الاستباق أدى به الى التراجع عن اطروحاته الأولى المعتدلة الرامية الى معالجة النزاع العربي - الاسرائيلي، وهذا جاء نتيجة استراتيجية متماسكة لذوي التطرف داخل وحول الإدارة الاميركية. شعبياً، أثبت الاسرائيليون انهم غير جاهزين للسلام مع العرب، وغير مستعدين لتعايش مع الفلسطينيين، وذلك واضح في تمسكهم بشارون قائداً لهم وفي تصورهم ان حرب العراق ستعيد رسم خريطة المنطقة بما يزيد من إضعاف العرب ويضاعف تدليل اسرائيل. انما هناك أقلية اسرائيلية تعي خطورة نهج المتطرفين، الاميركيين والاسرائيليين، على اسرائيل ذاتها في نهاية المطاف. مفتاح تمكين هذه الأقلية له قفلان، الأول تعرية خطورة التطرف في صفوف اليهود الاميركيين النافذين مع الادارة الاميركية وتحديهم من منطلق المصلحة الاسرائيلية. القفل الثاني محلي، وبالذات على الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية، حيث على تيار الاعتدال الاسرائيلي ان ينهض ضد التطرف الاسرائيلي والفلسطيني على السواء. أميركياً، ان الشعب الاميركي يتأبط التطرف من دون ان يدري. فهو في نشوة الانتصار في الحرب على العراق من دون كلفة باهظة، يتنشق الوطنية مستلقياً وعلى عيونه غمامات تعميه عن التدقيق في معنى "الهزيمة والانتصار" في حرب العراق. ما سبق الحرب أفاد بأن في الساحة الاميركية شطراً مهماً من الرأي العام يرفض غرور العظمة وحروب عقيدة الاستباق. انما ما تبع الحرب أفاد ان تطويق الرأي العام الاميركي أمر سهل على أية ادارة لمجرد رفعها شعار الجنود والوطنية. ومع هذا يمكن القول ان التطرف الاميركي حكومي اساساً، في الإدارة كما في الكونغرس، وان الشعب الاميركي قابل للاستقطاب، تطرفاً أو اعتدالاً. الحلقة الأصعب في فهم أو في استقطاب الرأي العام هي حتماً حلقة الشعوب العربية. تراكم التناقضات مذهل، وغرابة ردود الفعل تؤكد انفصاماً عميقاً في الشخصية العربية. هذا الانفصام لا يقتصر على علاقة الفرد العربي بحكومته أو على مشاعره نحو اميركا وسياساتها في المنطقة. انه انفصام يتعدى العلاقة المبتورة بين ما يسمى "النخبة" وما يسمى "الشارع"، فهو انفصام يكاد يكون مرضاً نفسياً تملّك الشخصية العربية، وقد حان الوقت لتشخيص الداء بحثاً عن دواء لشفاء البقعة العربية. كآبة العرب من الانحطاط والبؤس والقهر والتحقير لها مبرراتها، لكنها باتت عذراً وذريعة للاستسلام للأمر الواقع والوضع الراهن. ولو كان الوضع الراهن مقبولاً عربياً، لقيل حسناً، لا بأس في الانتظار الى حين حلول جهوزية التغيير. التذمر وسيلة من وسائل إحداث التغيير اذا اتخذ طابع التنظيم والتقنين لقضايا حيوية. أما ان يصبح التذمر لقمة تمضغها العروبة للتسلية أو لرفع العتب عنها، ففي هذا ظاهرة مريضة خطيرة على الأجيال المقبلة. الجيل الجديد أقل قدرية واكثر استعداداً للمغامرة خارج النمط التقليدي المتمسك ببؤس الوضع الراهن درعاً "للسترة" والاستسلام. انما هذا الجيل منقسم جذرياً بين متطرف يرى في الاعتدال انبطاحاً وبين معتدل يرى في التطرف مناطحة. وهو جيل حائر بين حماية وظيفة أو وضع شخصي مميز وبين إدراكه ان على اكتافه تقع مسؤولية رسم هوية جديدة للمنطقة العربية تتطلب التخلي عن امتيازات شخصية. الحوار بين التيارين، كما حق الاختلاف في الرأي ورسم التوجهات، أمر صحي ومفيد في تطوير المجتمعات العربية ليصيبها بعض الديموقراطية. انما ما يحدث الآن مجرد جدال بلا إصغاء بحثاً عن منطقة رمادية للعمل المشترك. بذلك، يقع الجيل الجديد في دوامة الجيل القديم التي جعلت من الشعوب العربية "قطيعاً" في نظر حكام المنطقة وحكومات الامبريالية الغربية. الآن، وبعد حرب العراق، لا يجوز للشعوب العربية الإبقاء على نمط لوم الآخرين وتحميلهم مهمة تقرير المصير العربي. الآن، وبعد "الصدمة" أو "النقمة" يجب الإجابة على السؤال الرئيسي وهو: ماذا يريد العرب؟ ماذا يريدون من حكوماتهم ومن الولاياتالمتحدة الاميركية؟ وهل هم جاهزون لتغيير جذري ينقلهم من ثقافة الصراخ والاحتجاج لمجرد "فشة خلق" الى ثقافة المسؤولية والمشاركة الفعلية في رسم خريطة جديدة للمنطقة العربية؟ بادئ الأمر، لا بد من مصارحة عربية في شأن ما حدث في العراق، ان سقوط نظام صدام حسين حدث مفيد للمنطقة لأنه سجل سابقة محو وهم الاضطرار للقبوع في ظل أنظمة استبدادية نصبت أبناءها لوراثة قمع الشعوب وقهرها. ولو وضع صدام حسين العراق قبل النظام وفوقه، لكان ممكناً احباط أجندة دعاة اجتياح العراق، وعدم تعريض العراق لحرب مدمرة. لنضع غايات وأهداف دعاة اجتياح العراق جانباً، ان احد إفرازات حرب العراق هو واقع نسف عقيدة الشعوب العربية بأن لا خلاص من الاستبداد ولا مجال لتغيير الأنظمة. فما حدث في العراق يمكن توظيفه للمطالبة بإصلاح جذري مؤسساتي في الدول العربية يصك قوانين تحمي المواطنين وتعطيهم حقوق المشاركة في الحكم والتعددية الحزبية وحرية التعبير واستقلالية الإعلام والمساواة. المطالبة بالإصلاح السلمي كخيار واقعي أمام هجمة الاصلاح عبر القوة العسكرية أو عبر الفوضى. إذا كان في يد الولاياتالمتحدة سوط العظمة العسكرية، فإن في يد الشعوب العربية سوط الكف عن الانحناء والاقلاع عن الاستسلام عبر الفوضى. فعلاقة الشعوب العربية بحكوماتها قابلة الآن لتغيير بنيوي لأن الخيارات توافرت والأفضل للحكومات العربية ان تبادر الى الاصلاح الصادق والعملي بدلاً من الاصلاح عبر الفوضى أو العمل العسكري. صفوف الاعتدال العربية مؤهلة للعب الدور الأهم والأكثر فاعلية. فهي الأكثرية الصامتة بغض النظر عما أصابها من تطرف مرحلي نتيجة الغضب من السياسات الاميركية نحو فلسطينوالعراق والعرب عموماً. انها في عمقها لا تريد للتطرف الديني الهيمنة على مجتمعاتها، ولا تريد للحكم العسكري ان يبقى الخيار الوحيد البديل عن خيار التطرف الاسلامي. لذلك، على الاعتدال العربي الاستفادة من الظروف الراهنة من أجل احباط غايات التطرف في الساحة الاميركية والعربية والاسرائيلية. أمامه فرصة نادرة، وعليه حسم انفصام الشخصية الناتج عن العلاقة مع الحكام والعلاقة مع اميركا. عليه ان يكون أذكى من صنّاع مصيره من متطرفين اميركيين ومن مسايرين لهم في البقعة العربية، من متحدين لهم بعشوائية واعتباطية ومن مرحبين بهم لأن التطرف الاميركي يغذي التطرف العربي ويقويه. ما تتطلبه انتفاضة الاعتدال العربي ينطوي جزئياً على تشخيص العلاقة مع الولاياتالمتحدة. مناطحة اميركا اليوم غير مجدية على الاطلاق، كما الانبطاح أمامها. بين الاثنين خيار ابلاغ الإدارة الاميركية ان الاعتدال العربي يريد علاقة صحية مع الولاياتالمتحدة ولا حاجة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد ان يتظاهر بأن اميركا لا تريد قواعد عسكرية في العراق وغير راغبة بالسيطرة على نفطه ومكافأة الشركات المقربة من أقطاب الادارة. مثل هذه العلاقة الصحية يتطلب أولاً كف صقور المحافظين الجدد عن الإزدراء والتحقير والإهمال للاعتدال العربي، وهذا بدوره يتطلب يقظة صفوف الاعتدال لإبراز وجودها وثقلها وعزمها على منع التطرف من خنقها. يتطلب، ثانياً، كف الصقور الاميركيين والحمائم العرب عن تقنين العلاقة الاميركية - العربية في اسرائيل وعبرها. فطالما يسمح الحمائم ان تبقى اسرائيل ابرة بوصلة العلاقة الاميركية - العربية، طالما استفحل صقور واشنطن وحققوا اهدافهم. لذلك، توجد حاجة الى استراتيجية عربية لصفوف الاعتدال تنطلق من استباق ذكي ومنظم لما في ذهن صفوف التطرف اينما كان. استراتيجية تشكل انقلاباً على المعادلة التقليدية للهزيمة والانتصار، وتتبنى التحرير الفعلي بديلاً للاحتلال وتوسع العلاقة الاميركية - العربية خارج بوصلة اسرائيل، وتوجه انذاراً الى الأنظمة العربية في صحوة لم تكن في بالها.