حديثنا فصلٌ في مقاتل الطالبيين، وهو خاص بما للمرحلة التاريخية التي نجتازها من دقة، وأرتال الأجنبي وفلوله في كل قدس من الأقداس العراقية، البصرة وكركوك والموصل وبغداد والنجف. وهو خاص بذكرى أليمة تعيدنا الى مثل هذا الشهر القاسي في تاريخ الأمة، بل في تاريخ الفكر، ليلةً قُتِلَ فيها طالبيان عظيمان، محمد باقر الصدر وبنت الهدى، فاستأثر الظلم في النجف الأشرف، وغاب أعظم أصوات الفكر العربي والإسلامي في القرن العشرين. هذا الحديث، بالمعنى الشخصي للعبارة، هو الأول والوحيد الذي أساهم به في مناسبة ذكرى غياب محمد باقر الصدر منذ ما انتهى ذاك الكتاب المبسِّط لفكره المتألق. "تجديد الفقه الإسلامي - محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم"، تمّ سنة 1989، طبع في كمبريدج سنة 1993، ويعاد طبعه الآن بالورق، والترجمة العربية صدرت عن دار النهار في بيروت سنة 1998، كما صدرت ترجمة باللغة الإندونيسية في جاكارتا سنة 2001. ويعرف الأصدقاء أنني دائماً تأخرت عن الإشتراك في أية مناسبة تتعلق بغياب العلاّمة الفقيد بعدما أنهيت الأبحاث التي امتدت زهاء عقد ونصف العقد عن فكر الصدر وبيئته النجفية في أبعادها التعليمية والدولية. ولهذا التلكؤ أسباب عدّة، قدِّم بعضها لما صدرت الطبعة العربية للكتاب، ومنها ما يطفو على السطوح، ومنها ما هو دفين في الأعماق. وما يطفو سهل الإحاطة به، وهو مرتبط بالالتفاتة الى ما عدا الصدر، لا سيما اهتماماً بكتب الفقه الكلاسيكي كما القوانين الوضعية، وقد ازدانت المكاتب العربية والأجنبية بدراسات عدة عن فكره ومكانته لا يسمح الوقت بمتابعة تفاصيلها في ايران ولبنان والولاياتالمتحدة وأوروبا. بل هذا الجديد الذي يصدر بانتظام يحتّمه "النظام الصدري" - أو "المنظومة الصدرية" - وهو النظام المفتوح على التأويل المعاد باستمرار، كل مرة بقراءة أخرى تزيد في النظام عمقاً وتألقاً، وتفتح بنفسها المجال للتأويل الجديد أخذاً ورداً وزيادة وحصراً. وفي عبارة المفكر الراحل الكبير جون وانسبرو في كتبه عن "الدراسات القرآنية"، والتي استعنّا بها في عمل مقارن عن علوم القرآن في النجف ولندن، "Readings of the Qur_an in Najaf and London: John Wansbrough and Muhammad Baqir al-Sadr, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 57:1, 1994, pp.158-173 فإن الميزة المحورية لكل سفرٍ عظيم في تاريخ الإنسانية هي "قابليته للتأويل" الخلاّق، Deutungsbedںrftigkei بالإلمانية. أما إذا كانت القابلية للتأويل حقيقة ثابتة في ما نسجه الإنسان من أعمال شعرية، فقابلية تأويل الشعر لا ترقى الى ما فوق التاريخ - بمعنى أنها تصبح ملازمة لكل جيل فيه بغض النظر عن الظروف الاجتماعية التي تحيط بهذا الجيل، - إلا عندما يكون الشعر كما في آثار شكسبير والفردوسي وأبي الطيّب المتنبي "خالداً"، أي متفوِّقاً. غير أن المنظومة النثرية - وبالأخص المنظومة التي تندرج في ما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية اقتصاد، قانون، تاريخ، سياسة - تحتاج الى تماسك خاص ونوعية مميزة تفصلها عن المساهمة الإلهية طبعاً، وعن عالم الشعر من باب ما ينتجه الإنسان. فالشاعر، كما هو في نفسه يغيره الأبد tel qu'en lui-mگme l'ژternitژ le change _ الشاعر يختصر موضوعه في الكلمة، واختصاره هذا سرّ قابلية الزمن لتأويل ما يحويه شعره من ألغاز، فتوحي كلمته بترفع شعره عن الزمن من باب تأويله المستمر وإعادة إحيائه جيلاً بعد جيل متى كان "خالداً". أما عالِم الإنسان، فإن تناوله للزمن مرهون عموماً بنقيض الاختصار: فأعماله نفسها شرح مطوّل ومنظوماته تمعن في التفصيل العلمي والاستعانة المفتوحة بآثار العلماء الآخرين ممن سبقوه في مجاله. وإذا كان الشعر يلغي على الفطرة ما قبله، بل يشكل التقليد فيه زوالاً سريعاً وموتاً محتماً، فإن المنظومة النثرية في العلوم الإنسانية منظومة تعتمد قبل كل شيء على التقليد المبوب في هوامش كثيرة، ولا يأتي جديدها إلا بعد تقليد طويل يستوعب ما قبله، فيبرز تماسكها "الجديد" نتيجة الجهد والعناية بالسوابق المعتمدة: وهكذا يصدر كتاب بمستوى "اقتصادنا"، وهو الكتاب الذي يختلف عن جميع ما عداه من البحوث في ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي من طريق شواهده العلمية، وجَمْعِ محمد باقر الصدر فيه لرافدين عميقين من علوم اقتصادية ترتكز على أمهات الفقه الإسلامي من جهة، وعلى الاقتصاد الغربي من جهة مقابلة، المسيطر آنذاك في ساحة العالم الثالث، وهو الاقتصاد الماركسي. من المناسب التوقف هنا في الحديث عن تركة محمد باقر الصدر الفكرية، لأن ما سبق لا جديد فيه بالنسبة الى مساهمتنا في فكر الصدر، وهو موجود في شكل أكثر تفصيلاً في مساهماتي المنشورة. هذا في الحقيقة الوجه الدفين وراء التأخر المستحي دائماً عن تلبية الدعوات لإحياء ذكراه العطرة، لأنني أجدني أعيد صوغ استنتاجاتي السابقة من دون زيادة تذكر، لا بل من دون زيادة على التأويل الذي تطالبه المنظومة الصدرية، وقد بتُّ غير أهلٍ بها إلا إذا صدف، كما حدث عرضاً عند نشر الكتاب باللغة العربية، اكتشافُ نصٍّ لم يكن معروفاً - أو على الأقل لم يكن متوافراً لدي. "أصول الدستور الإسلامي" لمحمد باقر الصدر، منشور ص ]33 - 44[ من الطبعة العربية أما وقد زال الكابوس عن النجف بعد ثلاثة وعشرين عاماً من مصرعه، فلا بد لدراسات أخرى ترتبط ببيئة انكشف عنها اللثام فجأة بزوال الطغيان المطنب على مدارس النجف الأشرف في شهر رموز التاريخ الصادف، ونيسان ابريل هو شهر مقتل الطالبي الكبير. وهنا لا بد من التعرض للصعوبة التي نجابهها، وهي صعوبة وصف الانجلاء المفاجئ لهذه العتمة على واقع احتلال الولاياتالمتحدة للعراق. وإذا كان ليس عندي من شك في أن الصمت الأسود في النجف ولّى الى ما لا عودة، إلاّ أن المخاطر نصب أعيننا من استلاب فكري من نوع آخر، وصمت من نوع خاص لا نزال في صدد رصد معالمه. هي أيام عصيبة تدعو أصحاب الفكر الى التروي، ومنذ جلاء الكابوس عن النجف اول شهر نيسان يساورنا القلق ما بين التمهل القاضي بشديد الحذر، أي الترقب الصامت، والتفكير في معضلات المرحلة الجديدة ومجابهتها قبل أن تحلّ الكارثة عينها. والسؤال، وهو سؤال الباحث في فكر مدينة معاصرة عاش مع كتابات أهلها زهاء عقدين من دون أن تتسنّى له فرصة زيارتها لما كان هذا البحث مغضوباً عليه من المتحكّمين بها، السؤال الملحاح ينتج من إمكان العودة الى مدينة النجف اليوم، ليس فقط للمهتمين بفكر الصدر وبيئته، بل ولأهلها المهجّرين منها لأسباب أكثر إيلاماً من تلك المرتبطة بالبحث في فقه النجف المعاصر. لقد صار ممكناً لكل منّا أن يزور مدينة النجف ويسلّم على أهلها العائدين اليها، من محمد بحر العلوم الى محمد باقر الحكيم الى آل الإمامين الخوئي والسيستاني، والى أهل محمد باقر الصدر جميعاً، وفي طليعتهم جعفر وأم جعفر. السؤال إذاً، مع بداية عودة أهل النجف المهجرين الى ديارهم ومدارسهم، هو سؤال عن هذا "التحرير" لمدينة النجف، وإذا كان كافياً أن يعودوا اليها لكي تتحرر، والاحتلال الأميركي نصب أعيننا: هو سؤال لنا جميعاً، وهو السؤال الذي طُرِح على أصدقائنا وأحبابنا، ومنهم رحمة الله على شبابه من دفع ثمنه غالياً - السيد عبدالمجيد الخوئي. ليس عندي من شكّ في أن ما حدث في العراق هو احتلال، بل الاحتلال هو الوصف القانوني الدقيق للحال الراهنة. أما أن يكون الاحتلال تحريراً، فهذا، مهما كان من عودة أهل النجف اليه، ما لن يثبت إلاّ إذا اجتمع شرطان: الشرط الأول تحصيل حاصل، لن يختلف اثنان فيه اليوم، وهو إمساك العراقيين الشرفاء بمقادير بلادهم. أما الشرط الثاني - وهو موضوع حديثنا - فيتعلق بكيفية الحفاظ على تاريخ فريد في القرن العشرين، امتدّ من سنة 1909 وحتى يومنا، وهو رفض الاعتماد على العنف سبيلاً في عالم النجف في التعاطي مع الآخرين. وللانتقاص من هذا التراث البالغ الأسى الذي يرافقنا جميعاً من التوتّر الحالي في الحوزة، وهو المستقى من التراث النجفي الثابت، والذي يقضي بألا يدفع عالم واحد بحياته لما له من آراء - والعالِم عصب الحياة النجفية ومرادفها لجميع أبناء النجف إن في الحوزة أو في المجتمع الأوسع. فالحرية خاصة النجف العظمى، قوامها المنافسة والسجالات خلال ما يعرف في مدارسها ب "المذاكرة" - أي التهالك على العلم والريادة - وهذه المنافسة الفكرية هي شيء عظيم لأن العنف كان دائماً خارج دائرتها. وإذا كان صحيحاً أن مقتل طالبي آخر في الصرح الكبير، في قدس الأقداس، جاء نتيجة اللغط، جاء خطأ أو سهواً أو سوء حظ، وأن طعن السيد عبدالمجيد الخوئي يشكّل عارضة أليمة واستثناءً مؤسفاً لتراث الحرية النجفية كما نرجوه، - وقد تكون الأمور على غير ذلك، تشابك مصالح وأشرار أكثر تعقيداً -، فإن مقتل الطالبي في الصرح الأعظم يشكّل قطيعة في تاريخ النجف الممتدّ على أكثر من قرن، لأن ريادة المجتمع النجفي لم ترَ يوماً سيف عالِم مستلّ على عالم آخر، حتى في أحلك أيامها خلال الحرب الإيرانية - العراقية. واحتراماً للتراث، بات ضرورياً وملحاً أن يتمّ تحقيق وافٍ، تحقيق قضائي وافٍ في ملتبسات هذه الجريمة، دفاعاً عن تاريخ نجفي لم يأتِ العنف اليه يوماً من أهل النجف على بعضهم بعضاً، ودفاعاً عن شجاعة عبدالمجيد الخوئي وتراث له ضدّ الطغيان أعرفه ممتدّاً على الأقلّ الى الانتفاضة الأولى، بل دفاعاً عن مستقبل نجفي للعراق. وفي معرض هذا الحديث في مآثر مقاتل الطالبيين، وحجة النجف الحرّ من أعظم تراثه، أن تسمحوا لنا استذكار خلاف فقهي أثاره كتابي عن محمد باقر الصدر مع العلاّمة الراحل حنا بطاطو صدر كتابه سنة 1978، ومع كتاب مهمّ في تاريخ العراق الحديث، "جمهورية الخوف" لسمير الخليل، المعروف اليوم بكنعان مكّيه صدر سنة 1989. ففي دراسة تعود الى عقد، Obstacles to Democratization in Iraq: A Reading of Post-Revolutionary Iraq History Through the Gulf War", in E. Goldberg, R. Kasaba and J. Migdal eds., Rules and Rights in the Middle East: Democracy, Law and Society, University of Washington Press, Seattle, 1993, pp.224-247. حاولت وضع جهودي المتواضعة قبالة سفر بطاطو العظيم ومساهمة "جمهورية الخوف" بما تتميّز مقاربتي عن مقاربتهما، وهي محورية النجف في تاريخ العراق الحديث. فإذا كانت عبارتا "دولية النجف" و"الأممية الشيعية" أصبحتا مأثورتين في أية مراجعة علمية للعراق أو للتاريخ الشيعي المعاصر، مثلاً في كتابات الباحث الفرنسي لويزار والأميركي كول، ويكفينا مثالاً حياً لها على مدّ البصر ما تألّق من علمائنا النجفيين اللبنانيين نذكر منهم فقط من رحل من مشاهيرهم، السيد محمد تقي الحكيم، والإمام محمد مهدي شمس الدين والشيخ راغب حرب، بل أذكر منهم فيلسوفاً نجفياً جاء عمق فكره من وحي دراساته في حوزة النجف الأشرف، المرحوم حسين مروة صاحب "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" صدر في جزءين في السبعينات في بيروت، إذا كانت الدولية الشيعية إذاً علامةً فارقةً في العلوم الإنسانية اليوم، غير أن خلافي مع كل من كتاب بطاطو عن "الطبقات الاجتماعية" وكتاب "جمهورية الخوف" مختلف، ومحورُه رسالة النجف، والمنظومة الصدرية تحديداً، ومفاد الخلاف أنه لا يمكن فهم تاريخ العراق الحديث ما لم نلمّ تماماً بالثورة الإشراقية الفكرية - وعالماها المرحومان الإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر - التي وضعت النجف في وسط التاريخ العالمي، فكيف بتاريخ العراق نفسه. ولهذا كله ليس من المبالغة القول اليوم إن المرحلة الحالية منعطف في تاريخ العالم، وقد بات العراق مرتكز مستقبل العالم، واستقراره على مرتكز الحرية. وبهذا التضافر باتت رسالة النجف في ما هي حريّة نابذة للعنف نقطة انطلاق استقرار العالم وحريته في "الشرق الأوسط الجديد". فللنجف تراث استقرار وحرية، عنوانها الترفع عن العنف في تعاطي أهل النجف بعضهم مع بعض، وصنوها التهذيب العظيم الذي طالما شدّني الى المرحوم السيد مهدي الحكيم، ولا يزال يغمرني بعطفه المتواصل مع السيد محمد بحر العلوم، هذا التهذيب مرادف في السياسة لنبذ العنف على الفطرة في الساحة العامة. هذا كنز النجف الأعظم، وهو كنز الشهادة، وكنز تراث المستضعفين. ولا بدّ هنا من حديث مطول في معالم هذه الميزة النجفية التي أظنها غير مبتذلة، لأنها ليست ميزة ضعف أو خواء، بالعكس، هي صمودٌ والصدرُ مفتوحٌ أعزل على نار العدو، وخير مثال على ذلك تلك المحاضرات العظيمة في القرآن سنة وفاة محمد باقر الصدر "المدرسة القرآنية"، بيروت ط ثانية 1981، والتي يروى أنها تليت على حضور اغرورقت فيه العيون دموعاً، لشجاعة المحاضر المحاصر في منزله بجلاوزة النظام الأسود، أياماً قبل أن يقضوا عليه في ليلة الثامن من نيسان لثلاث وعشرين سنة مضت. أما كيف المدافعة عن هذا التراث اللاعنفي، فلا بد لذلك من بحث أكثر عمقاً. وإذا كان الابتعاد عن العنف مرهوناً بالاستناد الى المحاسبة القضائية لمن يلجأ اليه، لا بد اليوم من محاسبة المسؤولين - على المستويات كافة - عن مقتل محمد باقر وآمنة الصدر، وعن مهدي الحكيم، وعن محمد الصادق الصدر، وعن العلماء الذين لا مجال لإحصائهم في الحقبة التاريخية الليلاء التي بدأت تنجلي، ولا بدّ من معالجة مصرع السيد عبدالمجيد الخوئي بالتحقيق الوافي ريثما تتّضح التبعات، ولو صعب ترتيب الجهة القادرة على القيام بمثل هذا التحقيق، بل الجهة القادرة على محاكمة المسؤولين عنه. أما ذكرى محمد باقر الصدر، فهي التي لن يتمّ إيفاؤها بالتمام إلاّ عندما يمسك العراقيون بزمام مصيرهم - اليوم قبل الغد - وعندما تبدأ المحاسبة القضائية الجدية لمن أمعن في قتل العلم والعلماء زهاء ثلث قرن، وعندما تنتشر حقوق الإنسان أخيراً في وادي السلام رسالةً للعالم. * محام، بروفسور كرسي جان مونيه في القانون الأوروبي، جامعة القديس يوسف في بيروت. والنص ألقي كمحاضرة في الذكرى الثالثة والعشرين لإعدام محمد باقر الصدر.