التأسيس وتحقيق رؤيتنا المثلى    الشيباني: حكومة جديدة "تراعي التنوع" مطلع الشهر المقبل    ترمب ينفذ وعوده الانتخابية بعاصفة أوامر تنفيذية    تعزيز التعاون بين اتحاد الكرة و«الفيفا»    نيوم يعزز صدارته ل«يلو» ويلاعب جدة غداً    تعليم ترفيهي    المنتدى السعودي للإعلام يناقش مستقبل الإعلام وفرص الاستثمار    استثمار الثقافة في المملكة.. يحقق نهضة إبداعية مستدامة    حراسة النفس    لائحة التصرفات الوقفية هي الحل    أمير جازان يبحث احتياجات أهالي محافظة هروب    بدر بن فرحان: المملكة تؤمن بأهمية الثقافة بصفتها ركيزة في بناء المجتمعات وتعزيز الهوية الوطنية    وزير الدفاع الأمريكي: حلفاء واشنطن ينتظرون خطة دعم أوكرانيا    التعاون يكتفي بالتعادل بهدفين مع الوكرة    مدرسة الملك عبد العزيز الابتدائية والمتوسطة تحتفي بيوم التأسيس    بدر شهر شعبان يزين سماء المملكة    هل تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان خلال المهلة المحددة؟    فيصل بن بندر يكرم المبدعين    التعاونية للتأمين وتطبيق Blu يوقعان اتفاقية شراكة استراتيجية    أخضر الكرلنغ يخسر أمام اليابان    غرفة ينبع تنظم ورشة عمل حول الخدمات اللوجستية في مطار الأمير عبدالمحسن    بعد استفزازه.. «فينيسيوس» يسخر من جماهير مانشستر سيتي بال«15»    الجوف: ضبط مقيم مخالف لنظام البيئة بحوزته حطب محلي معروض للبيع    «إنفست»: معدلات التضخم في الخليج تتراجع    ضبط شخص في الشرقية لترويجه (11,580) قرصًا من مادة الإمفيتامين المخدر    أمطار رعدية على معظم المناطق    5.5 ملايين سند عالجتها منصة نافذ    اختتام أعمال الاجتماع التاسع للجنة التوجيهية لشبكة العمليات العالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد    «الداخلية» تستعرض طائرة دون طيار لحماية البيئة بمؤتمر ليب التقني 2025    تعاون بين جمعية الزهايمر والولاية على أموال القاصرين    المعارضة: نتنياهو يريد إغراق إسرائيل في الدم    سلمان بن سلطان يتسلم وثيقة اعتماد المدينة أول صديقة للتوحد    سوريا تشكل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني    الحقيل: 140 مليار ريال استثمارات تطوير الضواحي السكنية    اللواء المربع يشهد حفل تكريم المتقاعدين من منسوبي الجوازات    فريق تقييم الحوادث باليمن ينفي قيام التحالف باستهداف عدد من المنازل والمباني    الأطفال الإعلاميون في حضرة أمير الحدود الشمالية    محافظ الأحساء يكرّم الفائزين بجائزة تميّز خدمة ضيوف الرحمن    وفود العسكريين يزورون مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    كانسيلو على رادار مانشستر يونايتد.. هل يوافق الهلال على بيع اللاعب؟    جامعة الملك عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة ال ( 54 )    الأردن: لا توطين.. لا تهجير.. ولا حلول على حسابنا    سلمان بن سلطان: القيادة تولي اهتمامًا بتنمية المحافظات    المملكة 11 عالميًا والأولى إقليميًا في المؤشر العالمي لسلامة الذكاء الاصطناعي    فنانة مصرية تتعرض لحادث سير مروع في تايلاند    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد يؤكد : رفض قاطع لتصريحات إسرائيل المتطرفة بتهجير الفلسطينيين    أمير القصيم يكرم 27 يتيمًا حافظًا للقرآن    مملكة الأمن والأمان    القيادة تهنئ الرئيس الإيراني بذكرى اليوم الوطني لبلاده    رأس اجتماع لجنة الحج والزيارة بالمنطقة.. أمير المدينة: رفع مستوى الجاهزية لراحة المصلين في المسجد النبوي    أمريكية تفقد بصرها بسبب «تيك توك»    «حملة أمل» السعودية تعيد السمع ل 500 طفل سوري    بعض نقاط التمييز بين اضطرابات الشخصية    ما بعد الإنسانية    صندوق الاستثمارات العامة شريكاً رسمياً لبطولة السعودية الدولية للسيدات للجولف    «المحتوى الشبكي».. من التفاعلية إلى الاستقطاب!    أوغندا تسجل إصابات بإيبولا    الاستحمام البارد يساعد على النوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذكرى السنوية الأولى لاغتيال المرجع الشيعي محمد صادق الصدر في كتاب لفائق الشيخ علي يصدر قريباً . مدرسة آل الحكيم والقرار الرئاسي بمحاربتها 3
نشر في الحياة يوم 21 - 02 - 2000

} تناولت الحلقة الأولى ردود السيد محمد صادق الصدر على الاتهامات التي اثارتها ضده جهات عراقية معارضة. وتطرقت الثانية الى الملاحظات التي اشار اليها "الكراس" الذي انتقد مرجعية الصدر. وتتناول حلقة اليوم تطور المؤسسات الشيعية في العراق وتعدد مراكزها ومراجعها.
على رغم كون المسلمين الشيعة يشكلون غالبية سكان العراق، فإنهم محرومون من محاكم شرعية خاصة تحكم بينهم، على غرار المحاكم الجعفرية في لبنان أو الكويت أو أماكن اخرى ....
لا يوجد في العراق محاكم شرعية جعفرية تخضع لاشراف المرجعية في النجف الاشرف، انما هناك محاكم دولة تطبق قانون "الاحوال الشخصية" وفقاً لاحكام المذهب الجعفري. وعليه فقد ظلَّ المسلمون الشيعة من غير المطمئنين الى احكام القضاء العراقي في المعاملات وسائر مسائل الحلال والحرام، وممن لا يجدون ضرورة لمراجعة محاكم الدولة، يحتكمون الى "حاكم الشرع" الذي هو في نظرهم المرجع الذي يقلدونه. فيكون حكمه نافذاً وملزماً للخصوم من ناحية شرعية تكليفية تعبّدِية، وليس من ناحية قانونية تنفيذية... حتى جاء الصدر الثاني فأسس المحاكم الجعفرية في مختلف مدن العراق، وعيَّن فيها القضاة من طلبته ووكلائه، وصاروا ينظرون في القضايا التي تهم الطائفة ويحلِّون الخصومات الحاصلة بين اتباعها.
عملية التأسيس نفسها لم تكن من السهولة بمكان كما قد يتصورها البعض للوهلة الأولى. ففي بيان لا يحمل توقيعاً، لكنه سُرِّب من العراق الى الخارج مرفقاً ببيان سابق، حمل توقيع "جمع من علماء الحوزة العلمية"، صدر خلال الأزمة التي شدد فيها النظام خناقه على المرجع الشهيد. روى جانباً من المعاناة التي رافقت تأسيس المحاكم والثمن الذي دفعه مقابل اصراره عليها ....
إن السبب الأساس والمباشر وراء انشاء المحاكم الشرعية الجعفرية في العراق، كان حين استحصل السيد محمد سعيد الحكيم امراً رئاسياً من صدام، استرد فيه مدرسة آل الحكيم، أو "المدرسة الباكستانية" كما تُعرف، الكائنة في شارع "ابي صخير" في النجف الاشرف. تلك التي وضع السيد محمد الصدر يده عليها وحولها الى جامعة دينية علمية باسمه.
موضوع استرداد المدرسة هذا اثار فتنة كبرى في العراق، لم تخمد. كما ان كتابين صدرا في الخارج نشرا بعض وثائقه التي جرى تداولها في الداخل، وكانت مُعلَّقة في "برّاني" السيد محمد الصدر، يطَّلع عليها زواره. فالمدرسة صاحبة المشكلة كانت احدى مدارس عدة، انشأها المرجع الراحل السيد محسن الحكيم في العراق. كان يفترض ان يُديرها ويتولى شؤونها المرجع اللاحق، ولكن بما ان هذا النظام غير معمول به في المرجعية الاسلامية الشيعية، فقد آلت تركة السيد الحكيم إلى الأسرة، وأصبح من مهماتها ومسؤولياتها متابعة شؤون المدارس وغيرها.
تشاء الأقدار ان اكون شاهداً عيانياً لقصة مدرستين من مدارس السيد الحكيم في النجف الاشرف، الأولى مدرسة "دار الحكمة" في منطقة "المشراق". كنت طفلاً صغيراً حينما كانت امي تصطحبني معها الى بيت خالتها وعم والدي أواخر الستينات، أرى العمال يبنون فيها. وسمعت في ما بعد بأن كلفتها الاجمالية كانت حوالى ربع مليون دينار عراقي، في ذلك الوقت. لم يدر في خلدي يومها بان هذه الدار التي تعود الى الحاج "لطيف ابو صيبع" هو جد فتاة، ستصبح بعد نحو عقدين من الزمان زوجتي وأماً لاطفالي اروى وخبّاب وسيعدم صدام اباها "نجاح" في عام 981 واخاها "رحمن" في عام 1984 وعمها "غفوري" في انتفاضة العراق عام 1991 تلك التي خلالها استخدم الثوار "دار الحكمة" معتقلاً لأسرى النظام، بعد ان نقلوهم من الصحن الشريف، من دون ان يأخذوا اذناً من آل الحكيم. فما كان من السيد محمد رضا الحكيم، أكبر انجال السيد محسن الحكيم الاحياء في حينها الاّ ان جاء الى الشيخ شريف آل كاشف الغطاء، وطلب منه ان يبلّغ السيد الخوئي عدم قبوله عن هذا التصرف. يبدو ان الحكيم وضع في حسابه بعض الاحتمالات السلبيّة، التي من الممكن ان تؤول اليها الانتفاضة، والاّ لما كلَّف نفسه المجيء والاعراب عن هكذا طلب، في تلك الظروف المتأزمة والخطيرة.
بعد أيام إستَردَّت قوّات صدام مدينة النجف الاشرف من أيدي الثوار، فكان اول اجراء لها قامت به، بعد المذابح الدامية التي ارتكبتها بحق سكانها والوافدين اليها، ان الغمت "دار الحكمة" بالديناميت وفَجرتها، لتسوّيها بالارض. وبدلاً من ان تشكر السيد محمد رضا الحكيم على موقفه، او تسكت عنه في اقل تقدير اعتقلته مع اكثر من مئة عالم ورجل دين خلال الانتفاضة. وهم منذ ذلك اليوم المشؤوم لا يُعرف مصيرهم.
لم يبقَ لآل الحكيم مَعْلَمٌ من مرجعية راحلهم، الاّ ودنسه الممسوخون. غير ان مدرسة اخرى تشاء الاقدار ان نسكن بجوارها طوال العقد السبعيني. تلك هي "المدرسة الباكستانية" الكائنة في "شارع ابي صخير" صاحبة المشكلة. كنت أمرُّ عليها يومياً فاراها مهجورة متروكة، لا احد يرعاها او يهتم بها. ليس اهمالاً من آل الحكيم، بقدر ما كانوا يعانون من ضغوطات النظام واجراءاته التعسفيّة ضدهم، حتى توالت عليها النكبات المفجعة في الثمانينات، فقدموا 16 رجلاً منهم اعدمهم النظام ليتركوا عوائلهم من دون معيل. كان "احمد" نجل السيد محمد رضا الحكيم احدهم!
فجأةً وبلا سابق انذار يرون السيد محمد الصدر يضع يده عليها، ويشرع بترميمها وتأثيثها ليفتتحها كجامعة دينيّة تحمل اسمه. بديهي انهم سيمتعضون من هكذا تصرف، وسيفسرونه على انه استيلاء غير مبرر على جزءٍ مهم من تراثهم وتراث مرجعية اسرتهم الدينية. وهم ان سكتوا في البداية، ولم يحتكموا الى السلطة، فلانهم كانوا كغيرهم تحت تأثير الاشاعة الظالمة عن المرجع الشهيد بانه عميل لها. كما لم يبرز بينهم من يتصدى للمرجعية كي يتحركوا تحت ظلّه، فضلاً عن وضعهم الاتهامي المُضَعَّف من قبل النظام.
اما وقد طرح السيد محمد سعيد الحكيم نفسه مرجعاً، فهذا يعني بانه برز من آل الحكيم من يتصدى لشؤونهم الخاصة والعامة وللمرجعية ايضاً في مواجهة المراجع الآخرين، وعليه يمكنهم الاستناد الى هذه الواجهة للمطالبة بحقهم. ومما شجعهم على ذلك ايضاً اتضاح الأمور أكثر فأكثر، بحيث تبيَّن ان السيد محمد الصدر ليس بهذه الصورة المشوهة والمشاعة عنه. ما يعني معها انكشاف غطاء الحماية المزعوم الذي رُوِّجَ انه يتمتع به من قبل النظام، والذي ستسهل بكل تأكيد مواجهته والدخول معه في خصومة.
أخالُ السيد محمد سعيد الحكيم اطال النظر طويلاً وهو يتأمل "دار الحكمة" انقاضاً. اذ ليس هناك ما يمنع من ان ثمة توارد خواطر بينه وبين السيد محمد رضا الحكيم نبهته الى مصير "المدرسة الباكستانية" في ما لو صُفِّي السيد محمد الصدر بعد حين. لهذا كان لا بد من الاسراع لاستردادها، مهما كلفه من ثمن.
قدَّم طلباً من خلال "لجنة شكاوى المواطنين" في استعلامات القصر الجمهوري يشرح فيه المشكلة. وبعد فترة ارسل القصر تبليغاً الى الطرفين بالحضور، فامتنع الصدر الثاني عن الحضور أو ارسال مَنْ يمثله، فما كان من صدام الاّ ان أمر بارجاع المدرسة الى آل الحكيم.
اما من ناحية السيد محمد الصدر، فان وضع يده على المدرسة، لا يعني باي حال من الاحوال اغتصاباً معاذ الله انما وجد بناية كبيرة مهجورة، شُيِدَت اصلاً من قبل المرجعية كمدرسة دينية تحتاج الى ترميم وتجهيز لمباشرة الدراسة فيها. ففكر في تسخيرها لخدمة الحوزة العلمية والدين الحنيف، فوضع يده عليها بعد ان وجد الاعذار الشرعية لذلك. غير ان هذه الوثيقة نفسها كشفت عن موقف متعسف من قبل المرجع الشهيد لارجاع المدرسة الى آل الحكيم. فهو وضع شرطاً شكَّل تحدياً لهم، من الطبيعي كانوا يرفضونه ولا يلبونه. وهو قوله في النقطة الخامسة جواباً على رسالة "الحاج علي شايع الشمري" المؤرخة في 8 ربيع الأول 1417ه، ما نصه: "انا قلت: انهم آل الحكيم اذا زاروني في بيتي البراني مع بعض الوجهاء، فسوف اعطيهم المدرسة فوراً. ولكني وجدتهم كأنهم مستعدون للتضحية بالمدرسة نفسها في سبيل عدم وصولهم الينا وسماع صوتنا".
استطيع هنا ان افهم وأقَدِّر حجم المصلحة العامة والكبرى التي نظر اليها المرجع الشهيد، من خلال وضع يده على المدرسة، ولكني لا استطيع ان اتفهم دواعي اصراره على زيارتهم اياه في بيته، وأيضاً إعراضه عن المصلحة الخاصة التي تشكلها المدرسة للأسرة. في نصِّ احد اجوبته المُسجلة على اسئلة الشيخ عبدالستار البهادلي قال: "وحينما جعلت هذه المدرسة تحت سيطرتي انما نفعتُ بها المجتمع. ومن ناحيتي ليست هي الاّ غرامة مالية ودوخة وجع رأس وترتيب وتنظيم الدراسة ... وانما المصلحة العامة التي انا كفلتها وهو الاهم". وهي بالفعل كانت كذلك، والاّ لما خصصنا بحثاً لها في كتابنا.
ومهما تعددت الملاحظات على تصرف الصدر الثاني، فإن محصلته صبَّت في النتيجة في مصلحة المرجعية والطائفة الشيعية المسلمة. اذ قرع ناقوس الانذار لديهم، ونبههم الى مسألة ضرورة انشاء كيان مرجعي مؤسساتي، يدير شؤون ونشاطات المرجعية من تركة واوقاف ومتوليات، بدلاً من اهمالها وانشغال المرجع الجديد في البحث عن مصادر ومشاريع جديدة.
شَرَعَ في هذا الطريق وثمة عقبات كثيرة كانت تحول دون الوصول الى الهدف المنشود. أولاها عدم وجود أرضية كافية له، وثانيتها عدم توافق كافة العلماء والمراجع وتكاتفهم من اجل تحقيقه، وثالثتها ان البداية التي انطلق منها تجسدت في مشروع تصادمي مع الآخرين. ولذا حزَّ في نفسه وهو يرضخ في نهاية المطاف لقرار سلطوي ويسلّم المدرسة الباكستانية الى اصحابها. فكان لا بُدَّ من ان يبحث عن منفذٍ او مَخْرَجٍ يعرب من خلاله عن رفضه واستنكاره للقرار. فشكل المحاكم الشرعية الجعفرية.
بقي الطرف الاهم في هذه الفتنة، وهو رأس النظام. فهو لم يتخذ قرار ارجاع المدرسة الى آل الحكيم، الاّ لحسابات سياسية بعيدة المدى:
أولاً: لكي يُجرِّد السيد محمد الصدر من موقع دراسي واسكاني مهم، كان يمارس من خلاله دوره التوعوي والتثقيفي اليومي، والذي هو بالضد من ثقافة النظام وطروحاته. ولكي يُعلِمه ايضاً بحدود مرجعيته، أي بمعنى ايصال رسالة له بأنه يستطيع ان يتحكَّم بمرجعيته سلباً او ايجاباً.
ثانياً: لكي يبدو وكأنه متكرمٌ متفضلٌ على آل الحكيم وعلى السيد محمد سعيد الحكيم على وجه الخصوص، بما سيحدد معه مسبقاً الاطار العام لمرجعيته، والذي سيتحرك في داخله، من دون الدخول في صراع معه. ليس خوفاً منه بقدر ما هو حفاظاً على البقيّة الباقية من آل الحكيم.
ثالثاً: لكي يثير فتنة بين الناس، من ان آل الحكيم عملاء له بدليل انهم يحتكمون اليه. وهذا مرمى ساذج، لان الناس يعرفون تماماً بان هذه الاسرة كانت سبّاقة الى تقديم قرابين الدماء من اجل ازاحته. وهو ما يأسف معه المرءُ حقاً حين يرى صدام قد حقق ولو بعضاً من هذه الاهداف المبُيَتَةَ.
في ظلِّ المحاكم الشرعية الجعفرية التي انشأها المرجع الشهيد لاحقاً، ليس هناك ما يؤكد أن السيد محمد سعيد الحكيم، لو كان احتكم اليها على فرض وجودها في فترة الخصومة ان يحكم القاضي الجعفري بعدم تمكينه من استرداد المدرسة الباكستانية. فمؤلف هذا الكتاب محامٍ ويفهم احكام القانون والفقه الاسلامي، يُقدِّر تماماً بان ادلة المدعي في هذه الدعوى ليس من السهولة بمكان ردَّها او دفعها.
وعليه فإن الحكم الذي حكم به الطاغوت، كان من المحتمل ان يحكم به مستضعف. ولكن الفرق بين الاثنين الطاغوت والمستضعف هو ان الاخير يحكم بصدق نيّة ونقاء سريرة وفقاً لاحكام الشارع المُقدَّس، بينما ذاك طاغوت خبيث يُضمِنُ حساباته الدنيئة في قراراته السياسية، التي يحسبها المغفلون غير سياسية!
موقف مؤسسة الخوئي من مرجعية الصدر
كثيرون هم مراجع المسملين الشيعة الذين حوربوا من داخل اوساطهم الحوزوية، ولكن قليلين منهم مَنْ حوربوا من خارجها ايضاً، سواء تمَّ ذلك بتأثير من الوسط الحوزوي ام بدونه. من هؤلاء القليلين هناك مرجعان معاصران. الاول حورب بعد وفاته، والثاني حورب في حياته. السيد ابو القاسم الخوئي والسيد محمد الصدر. ربما القواسم التي تجمع بينهما فوارق، وربما الفوارق التي تُمايز بينهما قواسم مشتركة. ولكنها في الحالتين سيّان، تصلح موضوعاً للمقارنة او المقاربة بينهما. فكلاهما ظُلما وكلاهما لا يستحقان الظلم.
ظُلِم السيد الخوئي صاحب اوسع واعمق واغنى مرجعية اسلامية شيعية في العالم، وفي تأريخ المسلمين الشيعة ايضاً، لأنه لم يمارس السياسة، وسكت على جرائم صدام ونظامه، وندد بالانتفاضة والمنتفضين في العراق في آخر حياته. فعتب عليه الناس ووجهوا اليه اللوم، واخذوا عليه بانه لم ينطق كلمة حق في وجه سلطان جائر. ونسي هؤلاء أو تناسوا بان تأريخه لم يشهد له بانه مارس السياسة يوماً، وانهم هُم الذين اقحموه في الانتفاضة من دون ارادته وبخلاف رغبته. لقد كان جلُّ هَمّ السيد الخوئي ان يبقى محافظاً على المرجعية في النجف الاشرف. فهو حمل على كاهله اعباء كيان عمره الف عام، فكان لا بد ان ينهض به ويؤديه، ولا يسمح بان ينتقل او ينتهي على يديه.
وظُلِم السيد الصدر صاحب أجد واغزر واشجع مرجعية اسلامية شيعية في العالم وفي تأريخ المسلمين الشيعة، قياساً بعمرها القصير نحو 5 سنوات، لأنه مارس السياسة، تلك التي ناكفها المرجع السابق، متخذاً من النظام الحاكم جملاً، حيث لا طريق امامه الاّ هذا، حتى يتمكن من تحقيق اهدافه، فاقام صلاة الجمعة ونزل الى المجتمع. فلم يدرك الناس منهجه ولم يستوعبوا خطته، فراحوا يكيلون له سهام النقد والتجريح ويشككون في دعوته ويتهمونه كعميل للحكومة!
ظُلِمَ الاول لمطلب سياسي تمنّاه المتمنون، وهو لم يمارسه اصلاً، فشنعوا عليه، وظلم الثاني لمطلب سياسي مارسه، ولكن ليس كما تمنّاه المتمنون، فشنعوا عليه! ظُلِمَ الاول بعد وفاته، حيث لم تمهله المنيّة طويلاً ليدافع عن نفسه ويبيِّن للناس رأيه في ما قالوا فيه وعنه. وظُلِم الثاني في حياته، فدافع عن نفسه وبَيَّن للناس رأيه فيما قالوا فيه وعنه، ولكنه لم يُغير من قناعاتهم شيئاً! ظُلِم الاول بعد وفاته ليجردوه من مجدٍ وعزٍ عاشهما في حياته، وكأنهم حنقوا عليه فارتأوا استرداده. وظُلِم الثاني حتى في نُدْبِه حين ارادوا ان يردوا اليه مجداً وعزاً لم يعشهما في حياته، وكأنهم شعروا بوخز الضمير على مواقفهم منه. ظُلِم الاول في حياته ايضاً حين دفنوا ولده "ابراهيم" حياً في الانتفاضة مثلما في مماته ارسلوا بعده ولده الآخر "محمد تقي" الى قبره مغتالا. وظُلِم الثاني حين اختزل القتلة رحلتي الموت والحياة في لحظة الاغتيال، فأرْدَوا اثنين من اولاده على صدره اغتيالا.
وليت المظالم تنتهي وتتوقف. بل لعله من المفارقة بمكان ان تشنَّ مؤسسة السيد الخوئي الخيرية من لندن، حملة اعلامية تشهيرية واسعة النطاق ضد مرجعية الصدر الثاني. وهي نفسها تعاني من اشرس حملة تسقيطية شُنَّت على جهة اسلامية شيعية في تأريخ المرجعية، وربما من قبل اقرب الناس اليها. ولو لم يكن السيد عبدالمجيد الخوئي هو الامين العام لمؤسسة والده، لكانت تلاشت وتشتتت منذ استشهاد امينها العام السابق السيد محمد تقي الخوئي.
حرصت المؤسسة بعد وفاة مؤسسها الراحل عام 1992 ان تجعل نشاطاتها تتم تحت اشراف المرجع الاعلى الجديد لاضفاء الشرعية عليها. والمرجع الاعلى حسب القانون الاساس والنظام الداخلي لها هو "مَنْ ترجع اليه اكثرية ابناء الطائفة حيثما وجدوا في امور دينهم، بشهادة ما لا يقل عن ثلاثة ارباع اعضاء الهيئة المركزية للمؤسسة".
وبالرغم من الروابط الأسرية الجامعة بين المرجعيتين الخوئي والّلبايّاني، فان الجفوة والخصومة كانت باديةً بينهما لسنين. لكن هذا لم يمنع المؤسسة من ان توجه رسالة الى سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الاعلى السيد محمد رضا الكلبايكاني بتأريخ 26 محرم الحرام سنة 1414ه بتوقيع السيد محمد تقي الخوئي وثمانية اعضاء في هيئتها المركزية، تطلب منه الاشراف والرعاية الابوية لها. ويبدو ان الكلبايكاني لم يستجب لطلبها وقد رحل في 19/11/ 1993. فبعد ستة اشهر من الكتابة اليه، وجهت المؤسسة رسالة اخرى بنفس المضمون في 8 شعبان سنة 1414ه الى سماحة آية العظمى المرجع الديني الاعلى السيد علي الحسيني السيستاني سرعان ما استجاب اليها في رسالة مؤرخة في 23 شوال المكرم 1414 ه ذاكراً: "واننا إذ نستجيب لطلبكم المشار اليه رعاية لما ورد في النظام الاساسي للمؤسسة، نحيطكم علماً بأنا قد انبنا عنّا في هذا الامر سماحة العلاّمة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد مهدي شمس الدين دامت تأييداته". مغتنماً الفرصة للاشادة "بالخدمات الجليلة التي قدمتها المؤسسة".
كل هذا التحرك كانت الغاية منه قطع الطريق على صدام من ان يتدخل في شؤون المرجعية لشعور المؤسسة وهو شعور شاركها فيه سائر الاطراف المهتمة بهذا الشأن من انه حاول بعد وفاة السيد الخوئي، ان يتدخل بشكل جدي في أمور الحوزة العلمية. لذلك اخذت على عاتقها التصدي لهذا الاجراء. وأقرت المؤسسة بدورها هذا وهي تعدّد 33 نشاطاً ومهمة قام بها "مكتب العلاقات العامة" فيها. كانت العاشرة منها هي: "بعد وفاة السيد الإمام لعب المكتب دوراً مهماً في اثارة مسألة استقلال المرجعية الشيعية، واظهار ضغوط الحكومة العراقية وتدخلاتها في شؤون تعيين المرجع. وقد عكس ذلك في الاعلام الرسمي وتناقلته القنوات السياسية المهمة".
دور صدام في فرض سيطرته على المرجعية، اختزله السيد عبدالمجيد الخوئي في ظاهرة السيد محمد الصدر المرجعية. ففي اول واسرع مقال مرجعي يكتبه ابن مرجع في الخارج تصدى فيه لسياسة النظام، بعنوان "المرجعية وقوة التأثيرات الخارجية" نشره في مجلة "النور" الصادرة عن مؤسسته بتاريخ تشرين الثاني/ نوفمبر 1992 - جمادى الاول 1413ه عدد 18 قال فيه:
"ما يجري حالياً في العراق بعد وفاة الامام الخوئي الراحل قده من محاولات يائسة مستمرة في الضغط السياسي على طلبة العلوم الدينية، للتأثير على عملية اختيار المرجع الجديد ودعم كفة مرشح الدولة ووضع الامكانات المادية ومواردها في خدمة الترويج لمرشحها والضغط للتأثير على استقلال عملية اختيار المرجع الاعلم الجامع للشرائط، محاولة دعم كفتها بالتأثير القومي حيث ان جل المراجع العظام المرشحين يتحدرون من اصل غير عربي، ويحاول العراقيون في دعم مرشحهم على اساس القومية كونه من اصل عربي". هذا الكلام الذي اعيد نشره بنصه في عدد "النور" 33 بتاريخ شباط فبراير 1994م شعبان 1414ه، تحت عنوان "المرجعية امتداد لخلافة الرسول والائمة، استقلاليتها بين المؤثرات السياسية والخارجية" كان قد عُزِّر في العدد السابق بمقال افتتاحي وإن رمى الى تبديد مخاوف الخوئي الابن. اذ كتبت "النور" بعنوان "لا خوف.. على المرجعية" جاء فيه:
"وهنا حانت الفرصة التأريخية للمؤسسة الحاكمة في العراق لتضرب ضربتها في صميم المرجعية محاولة ولاول مرة في تأريخ المسلمين الشيعة، التحكم في هذا المركز الديني الحسّاس، وذلك بتعيين احد رجال الدين في موقع المرجعية. ورغم ان مقدار تعاون هذه الشخصية مع السلطات العراقية امر مشكوك فيه، فان مجرد محاولة فرض زعيم الحوزة العلمية من الجهات الحكومية يُعتبر تعدياً خطيراً على استقلالية المركز. وقد اختار النظام العراقي شخصية من عائلة علمية محترمة، الا انه دون مستوى المرجع الاعلى، ولا يحظى باعتراف ذوي الاختصاص من العلماء كما انه يفتقر الى الشياع العام في اوساط الامة. بل لم يسمع به في الخارج قبل تعيينه. والواقع ان مجرد تعيينه من قبل صدام يكفي لانهاء اي امل بنجاح العملية من الاساس".
غير ان السيد عبدالمجيد الخوئي لم تتبدد مخاوفه، وقد ظلّ يواصل الافصاح عنها كلما وجد الى ذلك سبيلاً. فبعد ست سنوات على ذلك المقال صرّح الى "الحياة" في 24/4/1998 في اعقاب اغتيال الشيخ مرتضى البروجردي قائلاً إنه "تمَّ في اطار تصفية المنافسين المحتملين لمرشح السلطة مرجعاً دينياً اعلى" وهو السيد محمد الصدر ال "متعاون مع السلطة التي تستغل اسم عائلة الصدر لفرضه مرجعاً، مع انه غير مؤهل" لذلك.
بديهي ان نحو خمس سنوات من عُمر مرجعية الصدر الثاني كانت كافية لنفر من الناس، من ان تتبدد مخاوفهم ويتفهموا ولو جزءاً يسيراً من واقعها. فيوم كتب السيد عبدالمجيد مقاله في "النور" عام 1992 لم نسمع رداً عليه، لأن الآخرين كانوا ما يزالون يتربصون حتى تنكشف الأمور. أما تصريحه ل"الحياة" فقد اثار أحمد جابر فبعث رسالة نشرت في زاوية "بريد القراء" بتاريخ 28/5/ 1998 جاء فيها: "ان التقييم العلمي لرجل الدين في الحوزات العلمية يقوم على أسس معينة تتضمن شهادة عدد من المجتهدين بكفاءة ذلك الشخص واهليته وهذا ما يعلمه السيد مجيد الخوئي جيداً باعتباره احد ابناء العلماء، لذلك فليس من حقه ان يقول عن السيد محمد الصدر إنه غير اهل للمرجعية. اما ما قاله من ان السيد محمد الصدر هو مرشح السلطة، فهذا ما تنقصه الدقة الى حد بعيد. فالذي يعرف النظام في العراق وكيف يتعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة يعلم جيداً بان السيد الصدر وغيره مجبرون على الوضع الذي يعيشونه تحت حراب النظام، كما حصل من قبل للسيد ابو القاسم الخوئي الذي أُجبر على امور عدة، ما كان يقبلها لو كان الوضع طبيعياً في العراق. فاذا كان النظام يتظاهر بدعمه للسيد محمد الصدر لاغراض معروفة، فما ذنب السيد في ذلك، ونحن ابناء العراق نتذكر جيداً ان اجهزة النظام في عام 1970 وبعد وفاة المرجع السيد محسن الحكيم، تظاهرت بدعم السيد الخوئي. فهل يعني ذلك انه كان مرشح السلطة آنذاك؟!".
عندما انتزع السيد عبدالمجيد الخوئي صفة "الاهلية" للمرجعية عن السيد محمد الصدر، وصفت صحيفة عربية السيد عبدالمجيد ب"الإمام" حسب المقابلة الصحفية المسجلة التي اجراها الشيخ ستار البهادلي مع السيد الصدر الثاني فما كان من المرجع الشهيد الاّ ان ينزع هذه الصفة عنه وعن ابيه الراحل، في معرض اجابته، حين قال: "ان لفظ امام لفظ مقدس ... وانا بيني وبين الله لا اقبل ان يُقال عني إمام ... اذن ينبغي إلغاء هذه الكلمة لا من سيد مجيد ولا من ابو سيد مجيد ... ونحن نعلم باليقين ان مجيد الخوئي لا هو مجتهد ولا هو مقلَّد ولا هو مرجع، وانما له شأن اجتماعي واقتصادي في لندن ليس اكثر من ذلك. وهذا لا يجعله مؤهلاً لهذه التسمية".
ربما يعتقد البعض بأن رسالة أحمد جابر الى "الحياة"، كان من شأنها ان اعاد السيد عبدالمجيد الخوئي حساباته في موقفه من مرجعية الشهيد الثاني. ولكن هذا التصعيد فضلاً عن مواقف ذاتية اخرى، كانت وراء اجابته تحريرياً بناءً على طلبنا على سؤالنا، حول تقييمه الآن بعد اغتيال المرجع الشهيد لتصريحاته السابقة، فكتب بالنص:
"لا يشك أحد ممن عاش جانباً من الظروف الصعبة للحوزة العلمية الدينية في النجف الاشرف في ظل نظام البعث الحاكم في العراق، بما جرى على الحوزة ورجالها من ظلم وقتل وتشريد، من اجل اضعافها او محاولات محوها تماماً، ومن بين تلك الاساليب الاجرامية كانت محاولات النظام بين حين وآخر تأييد ودعم بعض الشخصيات في مواجهة المرجعية العليا للمسلمين الشيعة، وبطرق عديدة وأساليب شتى لخلق منافسة "غير حقيقية" من أجل زرع الشك والتردد بين صفوف ابناء الطائفة عموماً. وهذا ما حصل فعلاً لبعض الشخصيات وفي ظروف مختلفة منذ عهد المرجعية العامة للإمام الحكيم وما تلاها، لضرب الحوزة من الداخل وإظهار تلك الصور "غير الواقعية" للمنافسة بين رجالها لعموم الناس، ومن ثم القضاء على الطرفين، في محاولة أخرى لإبعاد الشبهة عن دور النظام في قيامه بتلك الجرائم.
وأما بخصوص التصريحات فانها لم تكن مبنية على أسس عاطفية او مواقف شخصية، ولكن الخوض في تفاصيلها لاثبات صحتها من عدمها، فاني اعتقد بان الظرف الصعب الذي نمر به وتمر به الامة الاسلامية عموماً وأبناء الشعب العراقي الجريح خصوصاً، غير مناسب في الوقت الحاضر لفتح مثل هذه الملفات لاي طرف من الاطراف، حيث انه لا يستفيد منها ومن طرحها وعرض تفاصيلها على أية حال إلا النظام الفاسد الحاكم المتسلط على رقاب شعبنا الجريح.
وأما بخصوص اولئك الاشخاص وكونهم قد انطلت عليهم اللعبة او هم كانوا يدركونها ويعملون من خلالها للصالح العام، أو النوايا القلبية لهم والاسباب الداعية فهي كلها في علم الله وحده وليس لنا إلا التعامل والحكم بناءً على الظواهر والأدلة المحسوسة وما يتلوها".
الحلقة المقبلة: يوم الأربعاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.