نحن لا نعرف ان ننتصر ولا نعرف ان ننهزم. كل حقبة نضيّع حقاً من حقوقنا الكثيرة، نتصرف دوما كمهزومين. لا نعرف ان نقول، ولا نتجرأ على القول إننا مهزومون. وإذا قلنا ذلك، فإما لإنبعاث رغبتنا بالاستسلام، أو لتلاشي رغبتنا بالسياسة. لا نعرف ان نقول لأنفسنا إننا هُزمنا، وإننا سنقاوم بغيرالجهاد والاستشهاد" أو بعبارات أكثر أناقة، ب"إطلاق الرصاص". فوطنيتنا تُقاس بمكابرتنا. كلما عانَدنا الواقع ثَبتنا على اساليب المقاومة التي أفضت الى هزيمتنا. كان ضميرنا الوطني مرتاحا. وهذه من تقاليدنا العريقة مع الهزيمة والانكسار. لها طقوسها وكلماتها المأثورة. نقول ونكرّر، بأن ما بلغناه لا يلبّي خمسين عاما من النضال والتضحيات. مع الفلسطينيين خصوصاً، خمسون عاما من الاستقلال الوطني. مع ان المعنى في الكلمة نفسها: الخمسون عاما من النضال والتضحيات لم يكن بوسعها غير الافضاء الى هذه النتيجة: فهل الذنب يقع على عدوّنا فقط؟ على عدوانيته الفطرية وحبّه للهيمنة والاستئثار؟ أم على هذين النضال والتضحيات اللذين لم يكن بوسعهما إيصالنا إلا الى حيث ما بلغناه: فالمعني في قلب الكلمة نفسها. نصرّ على التكرار الآمن، معتقدين بأننا بذلك نبقى مرفوعي الرأس" وبأننا فقدنا هويتنا او أضعنا حقوقنا، لو تعاملنا مع انفسنا على غير نحو. لماذا؟ لِمَ نحن قاصرون عن الاعتراف بأننا ازاء هزيمة؟ كل مرة، وليس هذه المرة فقط؟ ولا ننتبه الى سلسلة الهزائم التي تزْخر بها الخمسون عاماً من استقلالنا؟ اعتراف مسؤول... أقصد: ذاك الذي تترتب عليه وقفة حقيقية، لا مسرحية. لماذا؟ ربما لأن لدينا طقوسا عريقة في تقاليد هزائمنا. كلما بدا لنا في الأفق أن واحدة ستحلّ علينا، فعلنا سحرين: سحر الكلمة وسحر الكراهية. فالشعر والسجع والخطابة والرطانة والادعية والشعارات الرنّانة، كلها تستنفر مخيّلتنا عند الشدّة، وتخْتلي بها الكلمات، فيتعطّل عقلنا ونقفز الى المزيد مما تتطلّبه الكلمات. والكل في هذا سواء: مدّعو الحكمة والجنون. فكل المعارك عندنا معارك كلمات. ثم يأتي سحر الكراهية، وغالبه تؤجّجه نفس هذه الكلمات. كم نحب ان نكره. كم نجنّد من عواطفنا في سبيل الكراهية. نكره مثل كبار لم ينضجوا. طاقاتنا مصوّبة كلها نحو فطرتنا، التي تلغي الاسئلة والمعرفة، لا بل التدبّر... وهي تئنّ تحت وطأة الكلمات. ولأننا ايضا لكي نقرّ فعلا بالهزيمة، نحتاج الى طاقة العقل والروح، المهدورتين في سِحْري الكراهية والكلمات... طاقة الروح خصوصاً، التي تمنحنا القدرة على اختراع مقاومة ليست انتحارية. لا تفْضي بالضرورة الى الهلاك. وهذا النقص في الابداع يعزّزه تراث دوّناه: لا وجود فيه لإنهزام من دون استسلام، من دون موت واستسلام. فوجداننا مسكون بمعادلة واحدة: إنتصار أو استسلام. وبما أن الاثنين مستحيلان، يبقى الموت، او بالاحرى الاستشهاد. ولا نعرف اخيرا ان ننهزم، ربما لأن نظرَنا ليس مصوّبا نحو أنفسنا. لا ننظر الى أنفسنا. وإذا فعلنا، فبنرجسية كاذبة، تحجب معها كراهية للذات. واذا حاولنا الكشف عن بعضها، جَلَدنا أنفسنا. فنحن لا ننظر الى انفسنا ونتفحّصها. بل نتباهى بأننا ثابتون على "عهدنا" لم نتغيّر، لم تضِف الهزائم شيئا جوهرياً على طبائعنا او احوالنا... بمعنى اننا ما زلنا وطنيين، ما زلنا نقاوم. إرث ثقيل آخر يشلّ نظرنا: ذكورية متشبّثة بأسباب عجزها. لا نستطيع ان نتخيّل أننا أفسدنا نصف قرن من الاستقلال... لا نستطيع ان نتخيّل أن العدوان علينا وقدرة الاقوى من بين الامم، والاقل قوة، في رسم تاريخنا، هما من باب الاخفاق في هذا الاستقلال. استقللنا منذ خمسين عاماً. ولم نعرف كيف نحافظ على هذا الاستقلال. إنها هزيمة مجلْجَلة، تطنّ بها الآذان. ومع ذلك فنحن ماضون في مقاومة واحدة: تلك المفضية الى المزيد من الانهزام. فهل يمكن ان تكون هزيمتنا قوية لدرجة اننا لم نعد ننتبه الى اننا مهزومون؟ الى هذه الدرجة مهزومون؟ من دواخلنا مهزومون؟ كنا عشية العدوان على العراق عائشين في دائرة مغلقة، لا منفذَ واحداً يخرجنا منها. هذه الدائرة كَسَرها الاميركيون بالنار والحديد" فشقّوا بذلك سبيلا جديدا للتاريخ. فهل نعرف كيف نجد لأنفسنا مكانا إنسانيا فيه؟ أم نظل ننشد التعاويذ على ارض اصابها القحط واليباسْ؟ وإذا لم تغيرنا هذه الحرب، فما الذي سيغيّرنا يا ترى؟