الاستسلام للوهم انتحار بطيء، وقتل للنفس مع سبق الإصرار والترصُّد، وانهزام كبير خطير أمام جيش الوهم الذي يمكن أن يدمِّر في الإنسان مراكز القوى، وقواعد الدفاع تدميراً كاملاً إذا وجد الإنسان ضعيفاً، منهار القوى، مهزوز النفس، مضطرب المواقف. الاستسلام للوهم يسوق الإنسان إلى متاهاتٍ ومفازات مهلكة، ويقذف به في أتون نيران من اليأس والقنوط حارقة، ويلقي به في خضم أمواجٍ من الحزن والانكسار مدّمرة. لماذا الاستسلام للوهم؟ من أهم أسباب هذا الاستسلام للوهم، تضخيم الآلام والأحزان، وتحقير النفس عن المواجهة، وتحطيم طاقات الروح والوجدان، والسبب الأكبر الذي يسوق إلى هذا السبب المشار إليه آنفاً (البعد عن الله سبحانه وتعالى) وعن مصادر القوة الروحية والنفسية جميعها المتمثلة في الاتصال الحقيقي بالله عز وجل إيماناً ويقيناً وتسليماً وخوفاً ورجاءً إليه في أحلك المواقف وأشدِّها ألماً وحزناً. إن الإنسان الذي لا ينقطع عن ربه ذكراً ودعاءً واستعانةً واستغاثةً وقوَّة في الحق لا يمكن أن يستسلم للوهم مهما كانت قوَّة دواعيه.وعندنا نحن المسلمين عاصم قويُّ من الأوهام وقسوتها ألا وهو الإيمان القوي الراسخ بمسألة القضاء والقدر: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشرِّه) إنَّ هذا الإيمان سد منيع أقوى من سد ذي القرنين وأمتن، لا يمكن أن يجرفه موج الوهم مهما كان عاتياً، ولا أن يهدمه الإعصار مهما كان قوياً، ولا أن يهزه البركان مهما كان ملتهباً ثائراً.ومشكلة الاستسلام للوهم تكمن في قدرة الوهم حينما يستسلم له الإنسان، على تحطيم عوامل القوة الموجودة في نفسه كلها، وعلى تمزيق فرق الجبهة النفسية الروحية في داخل الإنسان جميعها، ومن هنا تَسْوَدُّ الدنيا في عين الإنسان فلا يرى لها ولا فيها بصيصاً من نورٍ أبداً مع أنه في وضح النهار، وتحت أشعة الشمس المتدفقة نوراً. الاستسلام للأوهام يجعل صاحبه في فوَّهة البركان دائماً، فأي مرضٍ في جسده يتحوَّل في ميزان وهمه إلى مرضٍ عُضالٍ لا شفاء له، وأي جرح يصيبه مهما كان صغيراً يتحوَّل إلى جرح خطير قد يؤدي إلى قتله، وأي ابتلاءٍ يصيبه مهما كان خفيفاً يتحوَّل إلى كارثة كبيرة لا تطاق، وأي خلاف بينه وبين أحد من الناس - حتى لو كان من أهله - يتحوَّل إلى خصام عميق لا يمكن علاجه، وهكذا تتحول الحياة في ذهن المستسلم للوهم إلى جحيم لا يطاق، مع أنه في نعيم لا يملكه غيره من البشر. مما يروي المفسرون أن الكنز الذي كان تحت جدار الغلامين اليتمين المذكورين في سورة الكهف في قوله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا) إنما كان ألواحاً ثمينة مكتوب فيها عبارات عظيمة الفائدة منها عبارة (عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن) وهو قول مهم يحتاج إليه المستسلمون للوهم. أيها الأحبة: جيوش الأوهام من أضعف الجيوش وأسرعها انهزاما أمام الإيمان بالله إيماناً صادقاً عميقاً، فالقرآن والأذكار والأدعية والصلة الوثيقة بالله تهزم جميع جيوش الوهم والأسى والحزن بشرط ألا يكون ترديدها سطحياً لا يتجاوز اللسان إلى أعماق القلب. قلت لرجلٍ شكى إليَّ هزيمة نفسية شنيعة تكاد تدِّمر حياته: كن على صلة وثيقة بالله قولاً وعملاً يذهب ما بك. ثم طلب منه أن يكثر من قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) مستشعراً المعاني العميقة التي تحملها هذه الكلمة العظيمة، وقلت له: إن خلاصك من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته، هو القوة الحقيقية العظمى التي تنهزم أمامها جحافل شياطين الإنس والجن مهما كانت قوتها وكثرتها، وقد طبَّق ذلك الرجل ما قلت فأصبح من الأقوياء المنتصرين الذين لا يعرف إليهم الوهم طريقاً. إشارة: سترى الأرض بالرجاء زهورا ً=