"... إن أحداث 11 أيلول سبتمبر، قذفت بنا إلى حرب تتسع أهدافها ومداها الجغرافي وتتمدد تدريجاً. وفيما كانت شبكة "القاعدة" ونظام "طالبان" في أفغانستان هما الهدف الأول للحرب، أضاف إليهما الرئيس جورج بوش في رسالة الاتحاد إلى الكونغرس في كانون الثاني/يناير 2002، هدفاً ثانياً أكبر، هو: عدم السماح بوجود أسلحة دمار شامل في أيدي الإرهابيين، والدول التي ترعاهم، أو أي أنظمة حكم تقرر الولاياتالمتحدة أنها أنظمة خطيرة، ووضعت في قائمة هذه الأنظمة: العراق وإيران وكوريا الشمالية، باعتبارها محور الشر، لكن القائمة مفتوحة ولا تقتصر على هذه الدول الثلاث وحدها". هذه من أهم الفقرات التي وردت في تقرير صدر قبل فترة عن مركز "كارنيجي للسلام الدولي" يحمل عنوان "11 أيلول: عام من التغيير". ولأن المركز الذي أصدر التقرير واحد من أكبر مراكز الفكر السياسي والبحوث السياسية ومنتديات المناقشات الحية التي تدعى إليها شخصيات متخصصة، لمناقشة العديد من المشكلات الدولية... لذا لا يمكن المرور على مثل هذا التقرير وتوجهاته مرور الكرام في ما يتعلق ب"ملامح السياسة الخارجية" للإدارة الأميركية "الجديدة". ولعل الدليل على ذلك هو التعليق الذي جاء على لسان كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي بالقول: "إن 11 أيلول فتح طريقاً لعصر جديد في الشؤون الدولية، فتلك فترة مماثلة للفترة من 1945 إلى 1947 التي أدت إلى تحول في مسار السياسة الدولية". فما هي العلاقة بين هذا "الطريق"، أي ما حدث في أفغانستان، وبين ما يحدث في العراق؟ لعل ما تنبغي الإشارة إليه في الإجابة عن هذا السؤال هو "السابقة" التي أقدمت عليها الولاياتالمتحدة في أفغانستان، والتي تتمثل في قيام الولاياتالمتحدة تحت مظلة ما سمي "التحالف الدولي" بغزو عسكري لأرض "دولة" مستقلة ذات سيادة هي أفغانستان وأزالت النظام الحاكم ونصّبت نظاماً بديلاً. أمام هذه السابقة التاريخية التي تؤسس لنمط جديد من تفاعلات الهيمنة في العلاقات الدولية لا بد من الإقرار بأن منطقة الشرق الأوسط، التي تقع منطقتنا العربية في موقع القلب منها، تقف راهناً في مواجهة تحولات ليست بالبسيطة في الاستراتيجية الأميركية. بل لا نغالي إذا قلنا إن المتابع لما يجرى، لا بد من أن يلحظ أن التحركات التي يشهدها العالم، راهناً، تشير إلى معالم "مشهد" سيناريو جديد بدأت ترتسم ملامحه لإعادة صوغ التوازنات الاستراتيجية في العالم، وتحديداً في الدائرة الممتدة التي تشمل منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي تفصل بين الصين شرقاً وأوروباً غرباً، وهي الدائرة التي يبدو أنها ستستقطب نوعاً من الصراع الدولي الحاد في المرحلة المقبلة. وفي ما يبدو، فإن ملامح "السيناريو" الجديد ستنتج عن "قوة دفع" أميركية، هيأت لها أحداث 11 أيلول الفرصة الذهبية، وتتمحور حول هدف "التمركز على المحور الشرق الأوسطي- الغرب الآسيوي"، وهو "الاستهداف" الذي تلاقت عنده رؤيتان لاثنين من أهم المفكرين الاستراتيجيين في الولاياتالمتحدة: أندرو مارشال أهم العاملين في مركز دراسات البنتاغون ومعد معظم التقارير التي تقترح التركيز على شرق آسيا، ك"خطر مستقبلي" بدل الاستمرار في التركيز على أوروبا اإثر سقوط الاتحاد السوفياتي. ويعتقد مارشال أنه "حتى سنة 2025 ستبرز في آسيا أربع قوى كبرى: الصينوروسياوالهند واليابان. كل منها مرشح لأن ينافس الولاياتالمتحدة في الباسيفيك عموماً، وشرق آسيا خصوصاً. ويرى أن تحديد المنافس المحتمل وتغير ميدان الصراع يحتمان العمل على تعديل الوسيلة. ف"السلاح الذي يصلح في أوروبا الأنهار والغابات، لا يصلح في آسيا الشاسعة البعيدة عن أميركا حضارة تختلف عن أوروبا"، ويعتبر أن "هذا الأمر يتطلب إيجاد الأسلحة المناسبة لخوض الحروب هناك". دونالد رامسفيلد وهو أول من حدد المخاطر المستقبلية على الولاياتالمتحدة من أسلحة الدمار الشامل ولم تكن مصادفة أن يكون هو من ترأس لجنة "الدرع الواقية الصاروخية. وتستند رؤية رامسفيلد إلى أنه "مع الانتشار السريع لأسلحة الدمار الشامل، ما الذي يمنع أي دولة من إطلاق صواريخ على الولاياتالمتحدة؟". لذا بدأ مفهوم "الدول المارقة" يدخل الخطاب السياسي الأميركي، وكان قرار بناء "الدرع الصاروخية ومحاولة إلغاء معاهدة "آي بي إم" الحد من التسلح النووي مع روسيا. وفي ما يبدو، فإن النقطة المحورية التي يلتقي عندها الرجلان، هي "القوى الكبرى" في آسيا و"الدول المارقة" القريبة معظمها من وسط وجنوب غربي آسيا. وإذا أضفنا إلى ذلك المحاولات الأميركية لتوسيع حلف شمال الأطلسي الناتو ليصل إلى الحدود الروسية، وأضفنا إليه الاهتمام الواضح بجمهوريات آسيا الوسطى "الإسلامية"، والتبديل الأميركي لتسمية الصين ب"المنافس" الاستراتيجي بدلاً من "الحليف" الاستراتيجي، ناهيك عن الرؤية الأميركية بضرورة "الاقتراب" من الهند، بهدف الإشراف على المحيط الهندي واحتواء الصين ، نلاحظ أن ثمة استهدافاً أميركياً ل"التمركز على المحور الشرق الأوسطي - الغرب الآسيوي"، وهو ما مثل الدافع الرئيس للحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان، ويمثل الدافع الرئيس للحرب الأميركية على العراق. تحولات الاستراتيجية ويعني هذا، في ما يعنيه، أن ثمة تحولات كبيرة في الاستراتيجية الأميركية تجاه العالم. ومثل هذه التحولات تتبدى بوضوح في "خطاب حال الأمة" للرئيس بوش بعد عام على تسلمه مهماته، وهو الخطاب الذي أطلق عليه بعضهم "خطاب حال العالم"، إذ إنه تناول كل شيء إلا الوضع الداخلي للأمة الأميركية. ورسم بوش في هذا الخطاب الذي شكل مرحلة جديدة من مراحل "الحرب الأميركية ضد الإرهاب" الخطوط الرئيسة لمسار الحرب في مرحلة ما بعد أفغانستان ووضع الملامح الأساسية في الاستراتيجية الكبرى لهذه الحرب. وما يهمنا، في هذه الملامح وتلك الخطوط، أن الإدارة الأميركية حددت "الحرب ضد الإرهاب" أولوية أولى، مؤكدة أنها لن تستثني مكاناً في العالم وهي مفتوحة في الزمن، وحددت العراق عنواناً للمرحلة الثانية من هذه الحرب. فالحرب التي بدأت في أفغانستان لن تصل إلى حسم شامل إلا في العراق، وكما كانت حرب أفغانستان مقدمة لحرب إستراتيجية ضد الإرهاب في آسيا، فإن حرب العراق مقدمة لحرب ميدانية مطولة ضد "الإرهاب" بحسب التعبير الأميركي في الشرق الأوسط. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي الأفريقي".