على صعيد الشرق الأوسط، لم تكن هناك خلافات جوهرية بين أوباما ورومني. ولم تبتعد طروحات هذا الأخير عما هو قائم اليوم بالفعل. وهو قد حاول تجنب الظهور كداعية للحرب، رغم اتهامه لإدارة الرئيس أوباما بانتهاجها سياسة لينة حيال ما وصفها بالتحديات الآتية من الشرق الأوسط وروسيا والصين. شهد يوم الاثنين، الثاني والعشرون من تشرين الأول/ أكتوبر، مناظرة تلفزيونية بين الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والمرشح الجمهوري، ميت رومني، هي الأخيرة في سياق حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2012. وقد دارت هذه المناظرة حول السياسة الخارجية الأميركية، وقضايا الدفاع والتسلّح. وهيمنت الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط على الشق الخاص بالسياسة الخارجية. كما جرى التطرق إلى الحرب في أفغانستان والعلاقة مع روسيا والصين. على صعيد الشرق الأوسط، لم تكن هناك خلافات جوهرية بين أوباما ورومني. ولم تبتعد طروحات هذا الأخير عما هو قائم اليوم بالفعل. وهو قد حاول تجنب الظهور كداعية للحرب، رغم اتهامه لإدارة الرئيس أوباما بانتهاجها سياسة لينة حيال ما وصفها بالتحديات الآتية من الشرق الأوسط وروسيا والصين. وعلى الرغم من ذلك، فإن الرئيس أوباما ذكّره بالمدرسة التي يدافع عنها، وخاطبه قائلاً: "في كل مرة عبرتم عن رأي كنتم على خطأ"، وأضاف: "قلتم إنه كان علينا الذهاب إلى العراق، رغم أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل. قلتم إنه كان يتعين علينا إبقاء قواتنا في العراق حتى يومنا هذا". وتابع: "قلتم في بادئ الأمر إنه لا يتعين علينا وضع جدول زمني في أفغانستان، ثم قلتم العكس". وقد بدا أوباما أكثر واقعية في مقاربته للتحديات الماثلة في الساحة الدولية. وميّز نفسه بالتأكيد على مبدأ التعددية في العمل الدولي. في تأصيل النقاش الدائر، يُمكن ملاحظة أنه وبعد أكثر من عقدين على انتهاء الحرب الباردة، ثمة تغيّرات واسعة قد طرأت على السياسة الخارجية الأميركية، وخياراتها بعيدة المدى. بعد الحرب العالمية الثانية، وضعت أوروبا في قمة أولويات الأمن القومي الأميركي، على الرغم من مشاركتها في حروب بالوكالة في جميع أنحاء العالم. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، انتقل التركيز إلى منطقة الشرق الأوسط، مدعوماً بغزو الرئيس العراقي السابق صدام حسين للكويت. وشهد العقد التالي تزايد التورط الأميركي في الشرق الأوسط. وقد بلغ ذروته اعتباراً من أحداث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، وحرب العراق عام 2003. بعد الانسحاب الأميركي من العراق نهاية العام 2011، جرى وضع الشرق في مكان أبعد ضمن دائرة الاهتمامات الأميركية، لمصلحة آسيا - الباسفيك. وعلى الرغم من ذلك، فإن الولاياتالمتحدة حرصت على التأكيد بأنها لن تتخلى في حقبة آسيا عن التزاماتها تجاه الشرق الأوسط. وفي أحد أبعادها، عكست التحوّلات الجديدة في السياسة الخارجية الأميركية واقعا اقتصاديا جديدا، إذ إن تكلفة حربيْ العراق وأفغانستان كانت عالية بكافة المعايير. ولم تعد الولاياتالمتحدة قادرة على تحمل أعباء حملة عسكرية جديدة تخوضها منفردة. وذلك يفسر جزئياً استمرار أوباما في التأكيد على سعيه لسياسة خارجية تعددية، على الرغم من أن الدافع نحو التعددية هو أكثر تعقيداً، إذ إنه يرتبط، في الوقت ذاته، بالسعي إلى اكتساب الشرعية في الساحة الدولية. وهناك اتجاهان رئيسيان حكما تقليدياً الرؤية الأميركية للعالم: تمثل الأول في شعار "أميركا أولاً"، والثاني في مبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر. على خلفية الشعار الأول، سارعت الولاياتالمتحدة، فور اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914، إلى إعلان حيادها. بيد أنها أقدمت على التدخل في هذه الحرب عام 1918، لتقرر في سياق تدخلها وانتصارها "أخذ زمام قيادة العالم عامة، وأوروبا خاصة". وقد كان هذا التدخل ترجمة للشعار الثاني، أي مبادئ ويلسون. كذلك، تم التعبير عن هذين الاتجاهين أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث لم تعلن الولاياتالمتحدة دخولها الحرب إلا بعد الهجوم الياباني على قاعدة "بيرل هاربور"، ما أعطى القيادة الأميركية إمكانية الحصول على تأييد الرأي العام، الذي كان معارضاً في البداية للحرب، طالما أنها ظلت بعيدة عن البيت الأميركي. وساد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية اتجاه تشجيع التورط الأميركي في الشؤون الدولية، فكان مشروع مارشال عام 1948، لإعادة أعمار أوروبا، والتدخل اللاحق في فيتنام. وبعد عقد على انتهاء الحرب الباردة، والبحث عن بناء هيكلي جديد للسياسة الخارجية، أتت أحداث الحادي عشر من أيلول /سبتمبر لتدفع الولاياتالمتحدة باتجاه إعادة النظر في سياستها الخارجية. لقد كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر سبباً مباشراً للحرب الأميركية في أفغانستان عام 2001، ومحفزاً سياسياً وأيديولوجياً لحرب العراق عام 2003، وعامل دفع رئيسيا لإعادة تشكيل العلاقات الأميركية - الروسية. كما صاغت هذه الأحداث، على نحو مباشر أو ضمني، خيارات السياسة الأميركية في عدد كبير من مناطق وأقاليم العالم. وبعد سنوات ثمان من حكم الجمهوري جورج بوش الابن، جاء باراك أوباما في العام 2009، ليبدأ بإعادة صوغ جديد للسياسة الخارجية الأميركية على أكثر من صعيد. وقال أوباما في خطاب تنصيبه، في 20 كانون الثاني/ يناير 2009: "اعلموا أن أميركا صديق لكل دولة، وكل رجل وامرأة، وطفل ينشد مستقبلاً من السلام والكرامة. وإننا مستعدون لتولي القيادة مرة أخرى". ومن هنا، بدت سياسة أوباما، في السنوات الأربع الماضية، على قدر من البراغماتية، والابتعاد عن النهج الصدامي والهرولة نحو الحرب. ومن السياسة الخارجية إلى الدفاعية، وبالعودة إلى مناظرة أوباما - رومني ذاتها، ثمة تباين بين الديمقراطيين، والجمهوريين على صعيد الإنفاق الدفاعي وحجم الجيش، وسياسة التسلّح بشقيها التقليدي والنووي. ويُعد هذا الأمر أحد الفروقات الرئيسية بين الحزبين. وهي فروقات تفوق تلك الدائرة بشأن السياسة الخارجية، في سياقها التفصيلي. وخلافاً للديمقراطيين، يطالب الجمهوريون بزيادة الإنفاق العسكري، وتعزيز الترسانتين التقليدية والنووية، وتزويد بعض الصواريخ النووية العابرة للقارات برؤوس تقليدية، واستخدامها كأي سلاح آخر، وبمنأى عن أية قيود. وعندما انتقد رومني أوباما، خلال المناظرة التلفزيونية الأخيرة، بسبب انخفاض عدد السفن الحربية لدى الولاياتالمتحدة قياساً بما كانت عليه في وقت سابق، سارع أوباما لتذكيره بأن عدد حاملات الطائرات الأميركية هو اليوم أكثر من أي وقت مضى. وكان أوباما قد حرص، خلال إعداد السياسة الدفاعية الجديدة، على عدم تقليص عدد هذه السفن العملاقة البالغ حالياً 11 سفينة، تعزز على نحو كبير التفوق البحري الأميركي على كل المنافسين الدوليين. وللتذكير، فإن الدولة الثانية في الترتيب العالمي لا تمتلك سوى حاملتيْ طائرات. كما لا توجد لدى روسيا سوى حاملة طائرات واحدة. وكذلك الصين، التي دخلت لتوها، قبل حوالي شهر، عصر هذا السلاح البحري. وكان الرئيس أوباما قد كشف، في الخامس من كانون الثاني/ يناير 2012، عن ملامح استراتيجية عسكرية جديدة، ترتكز على ثلاثة محاور هي: تقليص عدد القوات في أوروبا، وخفض الإنفاق الدفاعي، في ظل التركيز على آسيا، والمحافظة على التفوق النوعي. وقال أوباما إنه وبعد استخلاص تجارب ما بعد حربيْ العراق وأفغانستان، ونهاية مرحلة طويلة من نشر قوات كبيرة خارج الحدود، أصبح بمقدور الولاياتالمتحدة المحافظة على أمنها بعدد أقل من القوات التقليدية في أوروبا، والتركيز بدلاً منها على التفوق النوعي في القدرات الإستراتيجية، لا سيما في مجال الحرب الإلكترونية والإنترنت، بما في ذلك أنظمة القتال المتطورة. واعتمدت الإستراتيجية الجديدة على تعزيز القدرات القتالية للولايات المتحدة لكسب حرب واحدة، مع امتلاكها القدرة على ردع أهداف خصم في حرب أخرى، في تحول واضح عن الإستراتيجيات السابقة، التي كانت تقول بإمكانية خوض حربين متزامنتين والانتصار فيهما. وقد أقرت إدارة الرئيس أوباما خططاً لخفض القوات المسلحة بنحو 80 ألف جندي خلال ست سنوات، تبدأ من العام 2012. ويشمل الخفض سحب لوائي قوات مشاة ثقيلة من أوروبا، أحدهما في العام 2013، والآخر عام 2014. وأشارت خطة موازنة الدفاع لعام 2013 إلى تقليص حجم الجيش، بهدف خفض النفقات بواقع 487 مليار دولار في غضون عشر سنوات. وسوف تتحمل القوات البرية، التي تضم الجيش وقوات مشاة البحرية، بعضاً من أشد التخفيضات، مع توقع انخفاض حجم الجيش من ذروته وقت الحرب، التي بلغت 570 ألف جندي عام 2010، إلى 490 ألفاً بحلول نهاية العام 2017. وستخفض قوات مشاة البحرية من نحو 202 ألف إلى نحو 182 ألفاً، خلال الفترة ذاتها. وتضم المؤسسة العسكرية الأميركية حالياً مليون ونصف المليون عسكري، إضافة إلى 700 ألف مدني، يعتمدون على قاعدة صناعية يرتبط بها أكثر من 3.8 ملايين أميركي. وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن سياسة الدفاع الأميركية الراهنة تبدو منسجمة مع رؤية الرئيس أوباما للأولويات المستجدة للأمن القومي الأميركي، والانخراط الحذر وغير المفرط في القضايا الدولية.