تُشكر الأجهزة الأمنيّة في لبنان على رصدها شبكات الجواسيس الإسرائيليّين واصطيادها الواحدة بعد الأخرى. لكنّ ما يقلق في هذا أن كثرة الجواسيس المكتَشَفين تنمّ عن تصدّع في النسيج الوطنيّ اللبنانيّ نراه أينما نظرنا، لا سيّما وأن الموسم الانتخابيّ الراهن لا يبخل بتقديم الأدلّة على تصدّع كهذا. وحين يكون الأمر على هذا النحو تغدو المطالبة بنزع الأدلجة والتخفيف من "القضايا" الكبرى في الحياة اللبنانيّة العامّة شرطاً، لا لقطع الطريق على الجاسوسيّة فحسب، بل أيضاً للوجود والاستمرار عينهما. بيد أن ما يُقلق أيضاً ذاك الميل إلى نقلنا من مكافحة الجاسوسيّة كمهمّة وطنيّة نبيلة، إلى إعادة تأسيس البلد وشرعيّته ونظامه انطلاقاً من هذه المكافحة. ويتذكّر أصحاب الذاكرات كيف وُظّف القبض على جواسيس يهود مصريّين استخدمتهم إسرائيل في ما عُرف ب"قضيّة لافون"، عام 1954، مدخلاً لتشديد قبضة النظام العسكريّ والإمعان في عسكرة المجتمع المصريّ. ففي ذاك العام نفسه كان جمال عبد الناصر يخوض معركته مع محمّد نجيب الذي أراد إرجاع الجيش إلى ثُكنه واستعادة الحياة السياسيّة والحزبيّة، ما دمج مكافحة الجاسوسيّة بمكافحة الديموقراطيّة والحريّات. ولئن كان انكشاف الجواسيس المصريّين انكشافاً حقيقيّاً لجواسيس حقيقيّين، على ما هي الحال في لبنان اليوم، فالأمور ليست دائماً على هذا النحو. ذاك أن بعض الأنظمة الاستبداديّة درج على اختراع جواسيس وهميّين من أجل توفير الذريعة للإمساك بالمجتمع والقضاء على المعارضين، فضلاً عن تغليب وجهة نظر لا يجوز الطعن فيها أو التشكيك. وهذا، مثلاً لا حصراً، ما فعلته الستالينيّة في تشيكوسلوفاكيا، مطالع الخمسينات، حين أعملت شفرة التطهير بالحزب الشيوعيّ في ما عُرف ب"محاكمة سلانسكي": يومها اتُّهم عدد من الشيوعيّين المشكوك في مدى ولائهم لستالين بأنّهم، وفي آن واحد، "تيتويّون وكوزموبوليتيّون وتروتسكيّون وقوميّون بورجوازيّون". وقد جرت آنذاك محاكمات مسرحيّة لم يستطع التشيكوسلوفاكيّون أن يصفوها بالمسرحيّة إلاّ حين سقط النظام الشيوعيّ بعد عقود ثلاثة! ومن هذه المدرسة أيضاً تخرّج صدّام حسين وبعثه في العراق. فقد باشر الحزب المذكور عهده، في 1968، بإعدام "جواسيس" وهميّين عُلّقت جثثهم على الأعمدة كي يكونوا عبرة لكلّ من تسوّل له نفسه معارضة الحكم البعثيّ. بعد ذاك وقف العراقيّون في الطابور، جماعةً جماعةً وحزباً حزباً، ينتظرون أدوارهم على أعواد المشانق. وهذا حين يُرى إليه معطوفاً على ثقافة الوشاية التي تتفشّى في المجتمع، وعلى مشاعر ثأريّة تضاعف تسميم العلاقات بين الجماعات، وربّما داخل العائلات، يغدو خطراً لا يقلّ عن خطر الجاسوسيّة نفسها. فكيف وأنّنا نعيش في منطقة تنفّذ حكم الإعدام فوراً، أو بعد ساعات من توجيه الاتّهام، على ما رأينا، قبل أيّام قليلة، في إيران؟ فمهمّةٌ كمكافحة التجسّس ينبغي لها، إذاً ودائماً، أن تقرن حساسيّتها الوطنيّة بحساسيّتها الديموقراطيّة. هكذا تحافظ على صدقيّتها وعلى جدواها في الوقت نفسه، فتقطع الطريق أمام الراغبين في الاستغلال السياسيّ على أنواعهم. فهل ينجح اللبنانيّون في هذا فيُبقون المهمّة النبيلة في منأى عن الاستثمار السياسيّ الوضيع، خصوصاً أن الانتخابات العامّة، والخريطة التي ستسفر عنها، تحضّ على استثمارات كتلك؟