يعتقد الكثير من المعنيين بمواكبة الرأي العام العالمي ودراسة اتجاهاته ان التظاهرات الشعبية العارمة التي شهدها العالم من أقصاه الى أقصاه تمثل، كسابقة تاريخية، حركة رفض عالمية مناهضة لا للحرب على العراق فحسب وانما أيضاً لفكرة الحرب ذاتها على اختلاف مضامينها وأشكالها ومبرراتها، بما فيها ما يسمى "الحرب العادلة" او "الحرب الوقائية". وتنم هذه الحركة عن وعي جماهيري متنام ونضج سياسي وفكري يؤشران لولادة قوة معنوية انسانية وأخلاقية تقضي بتعميم ثقافة السلام وتوفير الأجواء الملائمة للنضال السلمي الديموقراطي من جهة ونبذ العنف والارهاب والحرب بكل ما فيها من نزعات شوفينية وعقائد هدامة. تلك هي ابرز المضامين التي يمكن استخلاصها من التظاهرات "المليونية" التي اشتملت على كل الوان الطيف السياسي والايديولوجي في المجتمعات المدنية المتقدمة والتي تمثل الجانب المضيء للعولمة بمفهومها التعايشي الانساني والحضاري. واللافت ان هذا المد الجماهيري لم تحركه ايديولوجيا واحدة ولم يأت نتيجة ايحاءات دولة بعينها، كما لم يكن، بخلاف ما قد يتبادر الى الأذهان، دفاعاً عن صدام حسين او عن نظامه او حتى تنديداً بالولاياتالمتحدة كدولة وشعب، وإنما استند الى خلفيات تعددت فيها الاعتبارات الانسانية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والاقتصادية وغيرها، ويجمع بينها قاسم مشترك هو العداء المطلق للحرب والعنف والارهاب والديكتاتورية من جانب، والدعوة الى التمسك بفضائل الديموقراطية والحرية والحوار والسلام من جانب آخر. وطبيعي ان يكون للشباب في هذا التحرك الجماهيري الواسع حضور يتناسب مع ما يمثله من قوة وإمكانات وطاقات. فهم حرصوا على ابلاغ ما لديهم من رسائل الى من يعنيه الامر من حكام وأنظمة ودول، بأنهم باتوا قوة اجتماعية سياسية اقتصادية لا يمكن الاستهانة بها او تهميشها او الاستخفاف بما تختزنه من قدرات دفينة، إذ يشكل الشباب اليوم قرابة 20 في المئة من مجموع سكان العالم، وهم أيضاً "بارومتر العصر" ومقياس تقدمه وتخلفه، وهم الى ذلك من اكثر الفئات المعنية بالامن والسلم الاجتماعيين ومن اشد الدعاة الى التغيير السلمي الديموقراطي. وفي غمرة هذه الاجواء العابقة بالكراهية للحرب، كانت مونتريال في صميم الحدث: تظاهرات عارمة لم تشهد مثيلاً لها في اية مناسبة داخلية او كندية او عالمية. تظاهرات تفردت بها عن شقيقاتها في المدن الكندية الاخرى 150 الفاً في تظاهرة 15 شباط / فبراير الماضي و250 الفا في تظاهرة 15 آذار / مارس الجاري مقابل 8 آلاف متظاهر في تورنتو اكبر المدن الكندية في المقاطعات الانكليزية. ولهذا الأمر دلالات بالغة اظهرت مدى التباين في المواقف السياسية بين حكومة كيبيك الرافضة للحرب على العراق وبين الحكومة الفيدرالية المترددة الغامضة. وليس ادل على ذلك من نزول كبار المسؤولين الكيبيكيين الى الشارع المونتريالي، تتقدمهم رئيسة الجمعية الوطنية البرلمان لويز هاريل ووزيرة العلاقات الدولية لويز بودوان ورئيس "بلوك كيبكوا" جيل دوسيب وغيرهم من زعماء الاحزاب والنقابات وممثلي الروابط الطلابية واتحادات المحامين والأطباء والهيئات الثقافية والفكرية والدينية والشبابية والنسائية ولجان حقوق الانسان. الا ان الهيئات الشبابية كانت الاكثر حضوراً... شباب يمثلون مختلف الاتجاهات والتيارات السائدة في المجتمع المدني. شباب من الحزب الكيبيكي يحملون اعلامهم الى جانب الاعلام الفرنسية وصور الرئيس جاك شيراك في اشارة واضحة الى تأييد مواقفه المناوئة لواشنطن. ويقول رينيه لاروا رئيس التجمع الطلابي في الحزب: "نحن نتظاهر ليس تأييداً للطاغية صدام او دعماً لنظامه الديكتاتوري وإنما نحن هنا لنعلن تضامننا مع الشعب العراقي ورفضنا لهيمنة بوش وتحكمه بمصير العالم والشعوب"، في حين يحذر الناطق بلسان "شبيبة السلام" لوري بيكار، رئيس وزراء كندا جان كريتيان بقوله: "نحن مواطنو مونتريال نحرم عليك قتل طفل عراقي بأموالنا وباسمنا". اما جماعة اليسار الجديد يوصفون بالفوضويين وهم من منابت طبقية شعبية ومتوسطة ومهمشون اجمالاً، فكانوا يحملون صورة كاريكاتورية تضم بوش وصدام وشارون كتب عليها: "هؤلاء مجرمو العصر والارهابيون الحقيقيون". ومما قاله احدهم غي مانيون طالب جامعي ومن ابرز الناشطين في التظاهرات ضد العولمة ان "العالم اليوم مقسوم الى قوتين: الولاياتالمتحدة والرأي العام الدولي ونحن جزء من هذا الاخير نناضل ضد الامبريالية الاميركية التي يتوارثها ابناء العم سام اباً عن جد". اما ممثل حركة "الشبيبة الكاثوليكية" سيمون نارو فأكد قائلاً: "كيف يمكن لبوش ان يسوق للديموقراطية من فوهات المدافع". والى هؤلاء كانت مجموعات من الفنانين تغني على وقع انغام موسيقية، وكان في طليعة الفنانين المطرب الشعبي المشهور آن بيرغاس الذي قال: "يجب ان نتحرك ونعمل"، مضيفاً: "ان للفن والموسيقى دوراً عالمياً في مناهضة الحرب والدعوة الى الحب والسلام". كما لم تخلوُ التظاهرات من تجمعات لمثليي الجنس الذين اعتبروا انفسهم "جزءاً من حركة الحرية والسلم العالمي". من جهتهم، الشباب العرب، وغالبيتهم من طلاب المعاهد والجامعات، تميز حضورهم بما رفعوه من شعارات ربطت بين الحرب على العراق والحرب التي تشنها اسرائيل على الفلسطينيين في الاراضي المحتلة، على اعتبار ان الحربين "وجهان لحرب اجرامية واحدة"، على حد تعبير ماك نادر امين سر الروابط الطلابية العربية. اما الطالبة الفلسطينية زهراء ابو العلا فعزت مشاركتها في التظاهرة لاعتبارات عدة منها "ادانة الانظمة العربية المتخاذلة وتواطئها مع اميركا واسرائيل"، في حين اشار زميلها سامر حميدي الى "عجز المواقف العربية الرسمية وصمت الشارع العربي قياساً على ما ابدته شعوب العالم الحر ودوله من تضامن وتأييد لافتين". ويبقى التساؤل حول فاعلية تلك التظاهرات ومدى تأثيرها وإمكان استثمارها كحركة سياسية ناشئة تمهد ربما لقيام "سلطة الشارع" كقوة ضاغطة تكبح جماح الحكومات وتحد من تهور الحكام، ام انها ستظل مجرد ظاهرة عابرة وتغدو في افضل الأحوال حركة احتجاج آنية وصرخة في واد.