في خطاب الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله الأخير في عاشوراء 13 آذار/ مارس الجاري انتقال من حال الاقتصار على رفض وادانة الحرب الأميركية المحتملة على العراق، الى الدعوة لمقاومة الاحتلال الأميركي. وفي محاولة للبحث عن مدى الانسجام بين هذا الموقف والموقف الإيراني الحقيقي في المسألة، أكد مطلعون ان هذا هو الجواب السائد في طهران، ما يعني ان هذا التواصل قد صحح ما سبق أن بدا كأنه اختلاف بين الموقف الايراني وموقف "حزب الله"، لجهة الوسطية في الموقف الإيراني بما ظهر من انفتاحه على التطورات والوقائع المستجدة للتكيف معها بناء على المصلحة الوطنية الإيرانية، وقياساً على موقف ايراني سابق ظل متربصاً في انتظار المؤشرات النهائية للمسألة الأفغانية، الى أن تم الهجوم الأميركي والتغيير في أفغانستان، فاغتنمت ايران الفرصة للتعاطي مع الواقع بواقعية ملحوظة. ظهر الاختلاف بين "حزب الله" وإيران، عندما سارع كمال خرازي وزير الخارجية الإيراني، ممثلاً لموقع من مواقع القرار الإيراني بالطبع، الى طرح وجهة نظر لحل المسألة العراقية واسقاط ذريعة الحرب الأميركية دانها عدد من النواب الإصلاحيين في عريضة الى مجلس النواب، ورفضها وندد بها مسؤولون عراقيون علناً، وكان مضمونها دعوة النظام العراقي والمعارضة الى المصالحة، على أن ينتهي الأمر الى استفتاء شعبي حول النظام ورئيسه. وشعر كثيرون بأن هذه المبادرة غير الواقعية، نظراً الى ميل النظام العراقي ورئيسه الى التضحية بكل شيء من أجل البقاء، شكلت مخرجاً للسيد حسن نصرالله من الإشكال الذي أدخل نفسه فيه عندما أعلن مبادرته الداعية الى طائف عراقي - تشبيهاً بالطائفاللبناني - بين النظام العراقي والمعارضة، ورحب النظام العراقي بها ترحيباً فاتراً، وبلغت أطراف المعارضة العراقية - الشيعية خصوصاً - غاية الشدة في رفضها من دون ان تقف في وجه السيد نصرالله في شكل مكشوف، اتكالاً - ربما - على تكفل ايراني بإزالة الالتباس بين هذه المبادرة وبين الموقف الإيراني الحقيقي الذي يطغى عليه طابع التربص والانتظار والاستعداد للتكيف من دون حرج. هذا يعني أنه مهما يظهر على السطح من اختلاف في الخطاب السياسي بين "حزب الله" وعمقه الإيراني الفاعل والمقرر في النهاية، وفي المفاصل خصوصاً، فإنه لا يجوز أن تنقسم اللحظة السياسية الى قسمين، قسم ايراني وقسم لبناني، ليتركب عليها خطابان. غاية الأمر أن الخصوصيات والحساسيات المختلفة تسمح بأن يكون للخطاب الواحد لحنان أو توزيعان متمايزان جزئياً على نفس "النوتة"... وهذه العلاقة العضوية كانت لها مفاعيل ايجابية في المقاومة والتحرير مروراً بتوازن أداء "حزب الله" في لبنان وعلاقته المفتوحة بعيداً عن الصدام مع القوى السياسية الحزبية اللبنانية على اختلاف أمزجتها، خصوصاً من كان منها في صف الموالاة للدولة، التي نالت بدورها من العواطف والمواقف لدى "حزب الله"، ممثلة في رئاسة الجمهورية تحديداً، ما لم تكن تتوقعه من أي طرف إسلامي أصولي وقوي، ولم يكن يتوقعه العارفون بطريقة تفكير التشكيلات الأصولية، من كثافة الإيديولوجيا في السياسة، وإن كان المجربون يعتبرون أن نهاية الإيديولوجيا المحتومة هي بداية السياسة المفتوحة على التحولات السريعة... وقد تم اختبار مفاعيل هذه العلاقة العضوية التي تتعدى الإذعان أو الامتثال الى الحرص على النهوض بالتكليف المشترك، في أزمة أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر وميل الحزب الضمني الى اعتبار أسامة بن لادن و"القاعدة" أقرب الى الانسجام منهما الى التباين أو التنافر، لولا أن ايران حسمت أمرها لأن أهل مكة أدرى بشعابها وبأن مخاطر "القاعدة" على الأمن الوطني الإيراني أولى بالمواجهة. ولاحظ المتابعون للخطاب الشيعي السياسي في عاشوراء الأخيرة تقارباً كبيراً بين خطاب السيد نصرالله وخطاب النائب أيوب حميد نائب رئيس حركة "أمل"، الذي تتيح له دائماً غلبة التزامه الوطني على إسلاميته السياسية المخففة جداً أن يكون أقل حرجاً من خطاب "حزب الله". وفي رأي هؤلاء المتابعين أن هذا التقارب يؤشر الى انتباه الشيعية السياسية إذا صح التعبير الى مزيد من الانسجام مع الموقف الشعبي الشيعي اللبناني الموصول وجدانياً الى حد كبير بالحساسية الشيعية الحادة جداً ضد النظام العراقي والمتأتية من تجربة مرة وجارحة يصعب تجاوزها تحت أي ذريعة سياسية... وهذا ما كان ل"حزب الله" في سابق الزمان تجربة انتهى في نهايتها الى تعديل أدائه مع النظام الليبي الذي اقترف جريمة تغييب الإمام موسى الصدر، ولم تتكرر لدى "حزب الله" حركات كتظاهرة بقيادة الشيخ صبحي الطفيلي احتجاجاً على القصف الجوي الأميركي لمقر الرئيس الليبي في العزيزية أواسط الثمانينات... وإذا نقلنا الكلام الى الشأن العراقي فإن أي حركة أو كلمة تفوح منها رائحة الإيجاب الشيعي نحو النظام العراقي، وإن كانت أميركا هي الطرف الآخر، من شأنها أن تسم من يقترفها، مهما تكن نواياه أو أدوات تحليله السياسي أو الرغبات السياسية التي يراعيها، بأنه متنصل من مرجعيته التي فتك بها النظام العراقي فتكاً ذريعاً. وإذا كان هناك تساؤل حول مدى الإحراج الذي يسببه تظهير هذه الحساسية في الموقف المعلن، باعتبار أن ذلك قد يعكس أو يؤدي الى الرضى بالحرب الأميركية وتداعياتها الخطيرة على الجميع، فإن من الممكن والمنطقي أن يحتج الملتزمون بالموقف السلبي من الطرفين العراقي والأميركي بأن النظام العراقي هو المسبب الأول لما يحصل بعد شراكته الطويلة مع الولاياتالمتحدة في تخريب العراق وعلاقاته مع جيرانه وأشقائه، وبأن الحرب واقعة، على عدم تكافؤ في القوى يضمن تعديل نتائجها، التي كان يمكن احتمال تعديلها لو أن النظام العراقي احتاط للأمر بسلوك أكثر تضامناً وتقارباً مع الدول العربية المكتوية من سلوكه في أعماقها، لتبادر هذه الدول الى تجاوز نسبي لأسباب ضعفها البنيوي، وتعمل مع العراق على تجنب الحرب بأقل مقدار من التنازلات حذراً من الكارثة... إذاً فالحرب وقعت والشغل الحقيقي على ما بعدها... وهنا تجري قراءة هادئة للاحتمالات وأهمها ان الشعب العراقي سوف يتحرر من النظام كمعيق ليجد أمامه عدواً آخر لا يقل خطورة ولكنه غريب مشتت في أرض واسعة وحالة اجتماعية معقدة ومجهولة لدى استخباراته مهما كانت تعلم عنها، فهناك استعداد شعبي للمواجهة إذاً، سيرفع من درجته ما يحتمل أن ترتكبه أميركا من حماقات في العراق من شأنها أن تعطل احتمالات الصراعات الداخلية لتضع المقاومة على رأس سلم الأولويات... على هذا يمكن أن تشتغل إيران والمعارضة العراقية التي أخذت، من طهران، تعلن تمايزها عن المشروع الأميركي في العراق، من خلال التأكيد على أن فيلق بدر العسكري لن يشارك القوات الأميركية في الحرب، وإعلانها رفض تعيين الحكام الأميركيين الثلاثة على العراق، الى غير ذلك من التعبيرات المؤهلة الى مزيد من التراكم والوضوح وتظهير الخلافات الحقيقية مع أميركا. إذاً، فقد دفنت المبادرة، وكان خطاب السيد نصرالله نعياً لها، في حين لم يكن أيوب حميد مطالباً بتوقيع هذا النعي، لأن قيادة "حركة أمل" لم تكن شريكة في هذه المبادرة ولا في التعبير عما يمكن أن يدل الى التفكير بها أو القبول بمثلها، وإن كان هناك من حرج في الكلام عن موقف "أمل" الحقيقي فإنه حرج شيعي يشارك فيه "حزب الله" فعلياً، لكنه وجد نفسه مضطراً الى مخاطبة الرأي العام العربي - والسني خصوصاً - في لحظة بدا فيها هذا الرأي العام كأنه يذهب في اتجاه النظام العراقي من طريق الموقف القاطع ضد أميركا والحرب الأميركية. لكن القوى السياسية السنية الفاعلة، وبهدوء ومن دون استعراض، أوصلت رسائلها الى الجميع ومضمونها أنه لا مجال لأي طراوة في التعامل مع أميركا، وأن هذه مسألة والنظام العراقي مسألة أخرى، وإن كانت الدقة تقتضي عدم الخلط في هذا الشأن، فإنها تقتضي كذلك ألا يكون هناك داعٍ للتوهم بأن القوى السياسية الإسلامية السنّية قد بدلت من رؤيتها السلبية للنظام العراقي ومسؤوليته عما يجري الآن كثمرة لسلوكه المتعرج منذ تأسيسه. لا بد من الانتباه والتنبيه الى أن السيد نصرالله أحسن صنعاً عندما توجه في خطب عاشوراء نحو فلسطين، التي تقوم في السياسة مقام التوحيد في العقيدة، باعتبار ان الله يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به، وبصرف النظر عن مدى الإلتزام بموجبات التوحيد. هذا الكلام يميل الى الهدوء في التعامل مع الإشكالية الشيعية المتداخلة والآيلة الى مزيد من التعقيد على ايقاع الحرب الأميركية على العراق، وهو الى حد كبير محكوم بحسن الظن الذي لا يعدم مسوغاً له أو مشجعاً عليه، من دون أن ينفي أن هناك كلاماً شيعياً أقرب الى التوتر والانحكام بسوء الظن، يتزايد كلما تعامل الإنسان مع الواقع بأدواته، أي بعيداً نسبياً من الإيديولوجيا، الدينية أو المذهبية أو الوطنية أو القومية، التي تتحمل قسراً عبء تزيين الواقع بالأحلام أو تلغيمه بالمخاوف والشكوك. وعلى هذا الأساس فإن هناك من يتوقع ان تشتبك الإيديولوجيا الوطنية والقومية من جهة مع الإيديولوجية الدينية والمذهبية من جهة أخرى، على مستقبل العراق، بالنظر الى التراكمات الكثيرة. فهل الحكمة الإيرانية والدقة في التعبير عن الموقف المعقد والمركب تكفي زاداً مستقبلياً للاحتياط دون عودة ايران الإسلامية الى مسلكية ايران الصفوية في سعيها مقابل المسلكية العثمانية للاستقواء بالعراق من خلال استتباعه. وإذا ما كان الشيعة عموماً في العراق حريصين على تجنب أي غلبة كاسرة على السنّة وتلافي أي صراع عنيف بين الشيعة والسنّة، وكان غياب الطرف السنّي القوي المعادل لإيران الدولة العثمانية سابقاً مع عدم قدرة تركيا على الحلول محلها تماماً الآن لأسباب تتصل بلا مركزية تركيا وانشغالها مستقبلاً بالبعد الكردي في المسألة؟ إذا كان ذلك من عوامل الاطمئنان، فما هي عوامل الاطمئنان من احتمال انفجار صراع عنيف بين الأمزجة والحساسيات الشيعية المختلفة، والتي، كغيرها من الأمزجة الوطنية والقومية واليسارية، استطاع النظام وشخصية صدام نقل عدوى المركزية الشديدة التي لا تعيش إلا على نفي الآخر، الى جسمها ورؤيتها؟ يحتاج العراق الى مزيد من الحكمة الإيرانية والشيعية هذه المرة لكي يسلم... من هنا فإن الخوف عليه من هذا الباب، حدا ببعض المتابعين أن يفكروا بأن تكون هناك مبادرة جماعية شيعية لبنانية. تحمل الى شيعة العراق والعراق، مشروع رؤية للمستقبل تستفيد من تجربة لبنان التعددي المتقابل بحدة والمتقاتل بشراسة قبل الطائف، في الخروج من الحرب من بوابة الطائف، والدخول في السلم بكل ما فيه ومن فيه من أجل الجميع، مع التواطؤ العميق على إطلاق آليات وحيويات الصراع السلمي الى آخرها وتنشيط الجسم اللبناني على انتاج المضادات الحيوية للعنف، بعوامل داخلية أساساً مع ما يلزم ولا يطغى من المنشطات الخارجية... لا بد من الاحتياط الشديد ضد احتمالات العنف الشيعي - الشيعي في العراق، ما كان له سابقة في لبنان تركبت على إسلامية مغلقة من جهة ووطنية لبنانية مغلقة من جهة أخرى، وسال دم كثير وحدث خراب كريه كاد أن يعم لبنان لولا ان حدثت هنا فتحة وهناك فتحة. لا نبالغ إذا قلنا إن الشيعة أمام فرصة أو تحد كبير يتعلق بقدرتهم على الإندماج وعدم التمايز أو الفصال مع غيرهم، والعراق الآن هو اختبارهم الأعظم، ووفاقهم الذاتي هو شرطهم. * كاتب ورجل دين لبناني.