ضمن مؤتمر المرأة العربية والإبداع الذي عُقد في 26 من تشرين الاول أكتوبر الماضي خططنا لإصدار مجموعة من المطبوعات بمناسبة المؤتمر، بعضها مؤلَّف وبعضها مترجم، تتناسب والأهداف الأساسية لهذا المؤتمر، وعلى رأسها مناقشة العوائق المتعددة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً التي تحول دون المرأة العربية والإبداع، أو الوصول في إبداعها إلى درجات من الحرية مكافئة أو مساوية لحرية الرجل في الكتابة وغيرها من أشكال التعبير، أو حتى غيرها من أشكال الممارسة الاجتماعية. وكان من الطبيعي اختيار مجموعة من الكتب الصادرة باللغات الأجنبية عن هذا الموضوع عموماً، وعن الأدب النسائي والكتابة النسائية خصوصاً. وقد اخترت عدداً من الكتب التي سبق لي قراءتها باللغة الإنكليزية، سواء في القاهرة أو في العواصم الأجنبية التي عملت أستاذاً زائراً في جامعاتها، ولم تكن هذه الكتب حين قرأتها في لغتها الإنكليزية، وفي البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية، تتضمن مشكلات ذات حساسية خاصة، فلم أتوقف منها إلا على قيمتها العلمية، أو على اختلافي أو اتفاقي مع هذه الفكرة أو تلك، أو شعوري بأن هذه الملاحظة أو تلك تتطلب نوعاً من التطوير أو التعميق، أو حتى المعالجة الموازية التي يمكن أن أقوم بها في المستقبل في كتابات خاصة بي. ولم أفكر وقتها في حساسية دينية أو اجتماعية، أو مشكلات يمكن أن تثيرها جماعات التطرف تلك، أو مجموعات التعصب هذه، فالقراءة باللغة الأجنبية - فيما يبدو - تدفع العقل على نحو واعٍ أو غير واعٍ في الأغلب إلى التفكير فيما يقرأه المرء فحسب، وليس في صدى هذا الذي يقرأه في بيئة أو بيئات غير متقدمة بالقياس إلى البيئة أو البيئات التي يطالع فيها أمثال هذه الكتب. وأحسبني - بعبارة أخرى - كنت أقرأ هذه الكتب بلغتها، وفي سياق تلقّيها الطبيعي، من منظور الثقافة التي تجسّدها هذه اللغة، وفي علاقاتها بسياق التلقي الذي يتميز بدرجة عالية من الحرية ومن احترام الاختلاف ومن التسامح، فضلاً عن تشجيع التجريب والمغامرة في الكتابة، وإطلاق العنان للكاتب أو الكاتبة كي يكتب كل ما يمكن أو ما لا يمكن تصوره، ومحاسبة الكاتب أو الكاتبة على قيمة ما يقول، وفي سياق ما يقول، وبمعاييره النوعية أو الموضوعية، بعيداً من أي معيار خارجي ليس من جنس المكتوب، وبعيداً من أي شكل من أشكال التطرف أو الجمود أو التعصب. وطبعاً، أصبح هذا الموقف آلية طبيعية من آليات الثقافات الغربية الحديثة، تأكيداً لحرية التفكير والتعبير، وتجسيداً لاحترام الاختلاف والمغايرة، وتجسيداً للمبدأ الذي يقول: إني لأختلف معك كل الاختلاف، ولكني مستعد للتضحية بحياتي في سبيل أن تكون حراً في ما تقول أو تذهب إليه من آراء. ونتيجة لهذا المبدأ ازدهرت الثقافة الغربية، وتنوعت تيارات الإبداع والفكر التي لا تزال تأتينا بكل جديد، ولا تتوقف عن التغير والتطور والتحول. لم أفكر في ذلك كله حين قرأت الكتب التي قرأتها، والتي أعجبت بها، وتمنيت لو ترجمناها إلى اللغة العربية، فاقترحت على اللجنة الخاصة بالترجمة ترجمتها ونشرها بمناسبة مؤتمر المرأة العربية والإبداع. وكنت أحسب أن الأمر يسير، وأنه لا صعوبة سوى الحرص على سلامة الترجمة ودقتها، وإظهار أفكار كل كتاب في أبهى صورة عربية. واخترنا المترجمين والمترجمات، وبدأ العمل في الترجمة على قدم وساق كما يقال. وعندئذ، بدأت المصاعب والمشاكل في الظهور. وكانت المشاكل والمصاعب المتكررة، ولا تزال، هي كيفية ترجمة مفاهيم يمكن أن تستفز مجموعات التعصب والتطرف، فتدفعهم إلى مهاجمتنا والافتراء علينا - كالعادة - بتهم الكفر والإلحاد. وأضيف إلى ذلك مشكلة ترجمة بعض العادات التي لا نألفها، أو نرفضها، وهذا حقنا الطبيعي، ولكننا لا نسمح بالكتابة عنها، أو القراءة حولها، وهذا ليس من حقنا في إسرافنا في منع المختلف والمغاير عن ثقافتنا. وأخذت محرمات الجنس والدين والسياسة تطل برأسها من جوانب كثيرة، فهذه كتب لا تعرف سوى الديموقراطية، وتهاجم غيابها في كل صورة. ووضع السياسة موضع المساءلة مسألة لا تقل أهمية - في مثل هذه الكتب - عن دراسة التأويلات الدينية دراسة موضوعية، يمكن أن تنتهي إلى الرفض في حالات كثيرة. ولا تعترف أمثال هذه الكتب بالمؤثِّم من ذكر الأعضاء الجنسية في المجالات الخاصة بها، أو الحديث عن المثلية الجنسية الذكورية أو النسائية أو بقية مشكلات النوع التي ترتبط بتحديد الهوية الجنسية وتعريفاتها. وفجأة، بدت الكتب التي لم أشعر بأية مشكلة حين قرأتها في لغتها الأجنبية مثيرة لمشكلات كثيرة، ومستفزة للمشاعر المحافظة، وحجة قد يستخدمها المتطرفون لممارسة متعتهم السادية: التكفير. وبدأت الذكريات السلبية بالمشكلات التي مررت بها في كتب من هذا النوع تطل برأسها، وتفرض على عقلي حالاً من الحذر والتوجس، حالاً دفعتني إلى مراجعة الملتبس، ومراقبة المختلف، والتوقف عن كل ما يمكن أن يثير فتنة يغذّي نارها الكارهون للتطور أو الجديد. وتذكرت كيف ذهبت إلى النيابة، مرة، لأن مجموعة من المحامين المتطرفين اتهموني بسبب مؤتمر مشابه، أنني أدعو إلى المؤتمرات التي أشرف عليها نساء خارجات على الإسلام، وكانت تهمة ظالمة، كاذبة، ومحض افتراء مقيت مصدره التعصب، فأسقطت النيابة الدعاوى المقدمة إليها. وتذكرت كذلك ما حدث بسبب نشر ترجمة كتاب "الجنوسة في الإسلام" للباحثة ليلى أحمد، وهي أستاذة عالمية مرموقة في إحدى كليات جامعة هارفارد الأميركية. وقد امتدح الكثيرون كتابها الذي يؤكد وجهة نظر إيجابىة عن الإسلام. لكن ما إن ترجمنا الكتاب حتى انهالت حراب التطرف، واتهمت الكاتبة بالكفر، ونالني من الاتهام نصيب. وكالعادة، تعلق "المكفراتية" بجملة هنا أو هناك، مقطوعة من سياقها، على طريقة لا تقربوا الصلاة. ومضيت أسترجع، لا شعورياً، ذكريات أليمة مشابهة، وشيئاً فشيئاً وجدت نفسي في وضع لا أحسد عليه. وأكتشف أنني مضطر إلى ممارسة دور الرقيب الذي أكرهه، وأتخلى عن بعض ما قرأته عن حرية التفكير، وضرورة احترام الاختلاف وتقبل المغايرة بصفتها شروطاً حتمية للتقدم والتطور. ووجدت أن وطأة الثقافة التقليدية السائدة، متضافرة مع من يدّعون حراسة القيم حتى لو قضوا على كل قيمة إبداعية أصيلة، متآزرة مع مجموعات التطرف والتعصب التي تمارس العنف بواسطة الكلمة أو الفعل، تزداد رسوخاً، وتتصاعد في تأثيرها القمعي الذي يخلق حالاً من الرعب أو الخوف، فيدفع إلى إيثار السلامة حتى لو كانت عبر سكة الندامة. وتأملت وضعي فإذا بي أكتشف أن الرقابة التي تفرض على الثقافة كل بؤر التخلف، مدعومة بكل قوى التسلط، تغوص عميقاً داخل النفس، وتحتل الوعي الذي تنفذ منه إلى الوعي، فتحيل كل إنسان منا إلى رقيب، أو تخلق داخله رقيباً يقظاً لكل ما يمكن أن يُشتمَّ منه الخروج على المألوف أو المعهود أو الشائع. وانتبهت إلى نفسي وأنا أحذف بعض الجمل من هذا الكتاب، أو بعض الفقرات، وأقرر تأجيل ترجمة هذا الكتاب أو ذاك. ولم يخفف من شعوري بالذنب أنني حرصت على التنبيه إلى هذا الحذف أو ذاك، أو أنني قررت ترجمة هذا الكتاب أو ذاك إلى حين ميسرة أكبر من حرية الرأي. ولكن هل سيوقف ذلك احتمالات الهجوم التي تنطلق من المتربصين الجامدين أعداء التقدم أو أي فكر جديد أو مختلف؟ لا أظن. ولكني على الأقل أنقصت من احتمالات اتساع درجات العنف أو التهديدات التي يمكن أن تصل إلى الحياة نفسها، أو التقدم إلى القضاء. وضحكت بيني وبين نفسي ساخراً عن الذي نقوله نظرياً ونمارسه عملياً، وعن تزايد درجات التخلف في عصر يمضي كل ما فيه صاعدا إلى ذرى التقدم، وعن رسوخ عادات التطرف والتعصب، وممارسات الإرهاب والقمع. ولكن ما توقفت عنده كثيراً، ولا أزال، هو هذا الازدواج الذي يعيشه مثقف مثلي هو نموذج لمئات، إن لم يكن آلاف غيره بالقطع، فنحن نعيش حياتين ثقافيتين في ما يبدو، حياة ثقافية تتصل بالثقافة العالمية التي تفتحها لنا نوافذ اللغات الأجنبية التي تعلمناها، والبعثات الدراسية التي عشناها، وفرص العمل المختلفة في الجامعات الأجنبية أو المؤسسات البحثية العالمية التي تدعونا إليها، وترحّب بنا للعمل فيها. ويقابل هذه الحياة حياة ثقافية أخرى في أوطاننا، حيث الثقافة التقليدية السائدة التي نقاومها، والتي تعمل على إقصائنا أو استئصال حضورنا، حيث لا حرية للفكر أو الإبداع، ولا احترام لحق الاختلاف أو الاجتهاد، أو حتى تقدير رغبة المغامرة والاجتهاد. والحياة الأولى نعيشها في الكتب، أو عبر شاشات الكومبيوتر، حين نخلو إلى أنفسنا، متابعين من خلال مواقع الإنترنت كل ما يحدث في العالم المتقدم، ومحاورين إياه، وأضيف إلى ذلك ما نفعله حين تتاح لنا فرص العمل في جامعات أجنبية، فنتولى التدريس لطلابها، ونكتب بلغاتها، قائلين ما لا نستطيع قوله بلغاتنا وفي جامعاتنا الوطنية، وإلا أدركنا مصيراً يشبه مصير نصر أبو زيد الذي هو ضحية باقية - كالوصمة - للتطرف والجهالة والتعصب. أما الحياة الثانية فنحياها كل يوم على امتداد الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، على اختلاف الدرجات والأحوال وأشكال المصاعب أو أنواعها. وهي الحياة التي نعيشها حين نكتب فنجد الرقيب الذي في داخلنا يستمد قوته غير المنظورة من السطوة القمعية للرقيب الخارجي، وهي السطوة التي نواجهها حين نبدع فنكتشف الصدق الفاجع لعبارات يوسف إدريس التي تقول إن الحرية المتاحة في الوطن العربي كله لا تكفي أديباً واحداً. وللأسف، فإن هذه السطوة تفرض هيمنة الفكر المتخلف على الحياة التي نحياها في جامعاتنا، ونحن نقوم بالتدريس، ترمقنا أعين متربصة، وآذان مترصدة، وسلطات جامعية تضيق بالحرية، وتستريب في مظاهر الاختلاف العلمي، وتتهم التجريب والمغايرة في البحث. وهي الحياة نفسها التي نحياها في المؤسسات الثقافية التي نعمل بها، والتي تتوعدها بالويلات والثبور مجموعات ضغط موازية للدولة، ومعادية للمجتمع المدني، ومتمسحة بالدين بصفته أقنعة لتأويلات مغالية. وهي الحياة التي نحياها في السياسة حين تغيب الديموقراطية، ونحياها في مجتمعاتنا حين تسيطر العقلية البطريركية ويغلب الاتِّباع على الابتداع في السلوك أو الفعل الاجتماعي. هكذا، نمضي ممزقين، متوترين بين حياتين، ونعاني الازدواج بسبب بعد ما بينهما، فينتهي الأمر بالبعض منا إلى أن يقرأ كتاباً في لغته من دون أن يفكر في شيء سوى الاجتهاد مع الأفكار الموجودة في الكتاب، وأن يقرأ الكتاب نفسه مترجماً إلى لغة ثقافتنا السائدة فينكره كما أنكر يهوذا المسيح ثلاثاً. وقس على ذلك غيره، فما أكثر مظاهر الازدواج في العالم الذي نعيشه، منقسمين على أنفسنا، معذبين بانقسامنا الذي يحول بيننا والحضور الفاعل في الوجود الإنساني الرحيب. ولن نتقدم، حقاً، إلا إذا قضينا على هذا الازدواج في داخلنا، وقهرنا دوافعه الخارجية، واستبدلنا بها دوافع الإبداع الحر والفكر الخلاّق الذي لا يعرف القيود، جنباً إلى جنب دوافع التسامح وتقبل الاختلاف والاستعداد للمعرفة أياً كانت مصادرها وأياً كانت طبيعتها، وفوق ذلك كله شجاعة المواجهة للنفس والواقع على السواء.