يتابع الشاعر الأردني امجد ناصر في كتابه "تحت اكثر من سماء"، الصادر عن المجمع الثقافي في أبو ظبي، ما كان بدأه في كتابه الأول "خبط الأجنحة". والكتابان يضمان رحلات قام بها الشاعر، بناء على دعوة غالباً، الى عدد من البلدان. سبب الرحلات هو المشاركة في امسيات شعرية او ما يشابهها من مساهمات ثقافية ونقدية في مهرجانات تقيمها هذه البلدان وتدعو إليها عدداً من الشعراء والنقاد من مختلف الدول. لا بد من ان القارئ اطلع في الصحافة على شيء مشابه لما يكتبه امجد ناصر. هناك كتّاب وشعراء كثيرون يكتبون، ضمن تغطيتهم أو مشاركتهم في الحدث الشعري الذي تمت دعوتهم إليه، شيئاً ما عن البلد نفسه وعن المدينة التي أقاموا فيها. إذْ لا يمكن الشاعر، أو أي شخص زائر، ان تغيب عن باله الحياة القليلة التي يعيشها كزائر في مكان غريب او جديد عليه، صحيح انه يطل على هذه الحياة بمنطق الشاعر او المثقف ولكنه يُدخل في ثنايا ذلك جزءاً من منطق المسافر والسائح والرحالة. امجد ناصر يلتقط هذا التزاوج الممكن بين الشاعر والرحالة ويكتب نصوص كتابه الجديد، كما فعل في كتابه الأول، على هذا الأساس. آخرون غيره كتبوا شيئاً مشابهاً ولكنهم لم يفكروا في جمعه ونشره في كتاب. ولعل امجد، وهو يفعل ذلك، يؤرخ مع أقران له لإنشاء نص هو نص الرحلة ولكن بعيداً من مفهوم المرتحلين القدامى طبعاً، لأن الحياة الحديثة حولت العالم الى قرية كونية. نص الرحلة الذي يكتبه امجد ناصر يكتسب، بهذا المعنى، قيمة مضاعفة، ولكنه، من جهة اخرى، يكتفي بالاكتشاف الشخصي والملمس الذاتي والمشاهدة الفردية. والنصوص الستة في كتابه ما هي إلا وصف لمشاعر خاصة وامتحان لذكريات قديمة ودهشة لمشاهدات وعادات جديدة واستعادة لحياة سابقة. إنها نصوصه هو وقد كتبت من اجله قبل اي سبب آخر، ولا بد من ان السفر يصلح لأن يكون بمثابة الشرارة او الذريعة التي تتم، بحسبها، كتابة نص يمزج فيه الكاتب بين الانتقال الى المكان الموصوف وبين معرفته واستعداداته لاكتساب صورة ما عن هذا المكان او لمقارنة الصورة الجديدة بصورة سابقة التقطها في رحلات قديمة غير مؤرخة، إلا انها محفورة في الذاكرة بقوة الوجدان وصلابة الحدث ونوعية تأثيره. هكذا يمكن اعتبار رحلته الى بيروت عام 1996 استعادة لحياة كاملة استمرت سنوات تزوج خلالها الشاعر في المدينة، التي كانت محجّاً ومختبراً يقصده الشعراء والمثقفون السياسيون من كل الوطن العربي، نشر فيها مجموعتيه الأوليين وصنع فيها لنفسه اسماً ونبرة وتوقيعاً. الكتابة في هذه الرحلة غالباً ما تقارن بين ما مضى وما صارت عليه الحال الآن في الذاكرة، الرحلة هي تدبير لشؤون الحنين والذكريات ومقارنة لحياة جرت بين ظهراني المدينة قبل اربعة عشر عاماً وبين حياتها الآن تحت نظر الزائر/ المقيم السابق الذي تكاد كل لحظة ويكاد كل تفصيل ان يمده بصورتين شبه مختلفتين للمدينة نفسها المختلطة الآن بذكرى حصارها وخروج الشاعر مع المقاتلين منها، وباستذكار لمواضع الإقامة في محيط الكولا والجامعة العربية وبأشخاص تلك الإقامة، اقران الشاعر وأشباهه الذين غادروا مثله المكان والذين قد تسنح لهم الفرصة ليعاودوا المجيء في إهاب الزائر والمسافر العابر لكي يعاينوا أطلال شؤونهم وحيواتهم ومغادراتهم. انها اسماء لها رنين المشاركة والصداقة: سليم بركات، حيدر حيدر، غسان زقطان، زكريا محمد، غالب هلسا، سعدي يوسف،... الخ. إنه يعرف: "ان المدينة التي جئتها في مستهل العشرينات من عمري ليست هي نفسها التي اعود إليها بخطى الأربعين المتثاقلة، أعرف ما يعرفه عقلي وجسدي، ان دولة للحلم دالت فيها، وأعرف، اهم من ذلك، ان احداً من اصدقائي الغرباء لم يعد موجوداً في المدينة التي تحاول ان تكفّ عن كونها مسرحاً للأحلام المكلفة". رحلة امجد ناصر الى بيروت تكاد تكون عودة منفي الى مسقطه، ولكنه هذه المرة مسقط القلم والكتابة ومكان سنوات حميمة من الشعر والبيوت والأصدقاء والكتب... الخ. اما رحلته الى كندا فعلى العكس، انها تبدأ من الصفر تقريباً، وهذا ما يتجلى في النص الذي يقترب من الأشياء بحس المبتدئ وشعور من يدخل للمرة الأولى الى عالم يتذوق طعم الحياة فيه للتوّ، متأملاً في ايام قليلة، اهتمامات السكان وطرائق عيشهم وأنماط تعبيرهم وسلوكهم. في بيروت يكتب الشاعر عما عرفه وعاشه وشارك فيه، اما في كندا فيكتب عما سيعرفه وسيعيشه وسيشارك فيه، وهذا ما يمنح نصه البيروتي، ونصوصه العربية الأخرى بدرجات متفاوتة وأقل من بيروت، طابعاً حميمياً جارحاً نفتقده في النص الكندي، الأمر الذي يقلب رحلة بيروت الى امتحان حنين من الدرجة الأولى. النصوص الأربعة الأخرى، وهي عن اليمن والمغرب ودمشقوعمان، تميل في تكويناتها وتفاصيلها الى عوالم نص بيروت، وقد لا يكون السبب فقط هو انها جميعاً امكنة عربية. فإضافة الى ان اللغة الأم المشتركة والإرث الجغرافي والتاريخي والاجتماعي الواحد يجعل فكرة السفر اقل افتتاناً ومجهولية، إذ لا يعاني الشاعر/ المسافر غربة اللسان، إلا ان امجد ناصر يكشف في هذه الرحلات عن حوادث وذكريات وأهواء وأفكار شخصية تجعل المدن والأماكن التي قصدها في هذه الرحلات تتمة لما كتبه عن بيروت التي عاد إليها بعد اربعة عشر عاماً من الغياب ليعاين الفارق الشاسع بين حياتين متباعدتين. ففي دمشق نقرأ له عن زيارات خاطفة قديمة وعن إقامة عابرة بعد حصار بيروت قادته في ما بعد الى قبرص. والأمر نفسه في اليمن التي يتبين انه زارها مراراً وإن كان يقصد عدن وقتها وليس صنعاء، كما انه درس فيها فترة ايضاً، اما عُمان فتعيده الى تكوّنه الماركسي المبكر وتعيده جغرافية البلاد الى ثورة ظفار القريبة من حدود اليمن. اما في المغرب فيقارن الصور التي يراها بالعين بما كانت تحفظه الذاكرة من الكتب والتواريخ والأقاويل، وبمشاهداته القليلة في زيارته الأولى. في النصوص الخمسة المكتوبة في وعن بلدان ومدن عربية يجد القارئ ذلك الاندماج، الظاهر والخفي، المتين والهش، السريع والبطيء بين فكرة السفر وفكرة المعرفة السابقة الشفهية والملموسة. اما النص المكتوب عن رحلة كندا فيبدو اكثر قرباً من فكرة الرحلة حيث العالم المقصود بأكمله شبه مجهول وصعب المقارنة، وأمجد ناصر يدرك الفارق بين الحالين وهو لا يخفي ذلك عن القارئ. يبتعد امجد ناصر وهو يكتب نصوص رحلات عن جملته ونبرته اللتين يُعرف بهما ويترك بين متطلبات قصيدته ودواعي رحلاته مسافة تبدو ضرورية، ولكنه لا يتخلى عن فصاحته ومتانة عبارته الا في لحظات قليلة. ولكنه في هذا الابتعاد يفصح عن روح نثرية أخّاذة تقودها سيولة في التأليف وذكاء في ربط شؤون الرحلة المختلفة والمتباعدة في سبيل إنجاز نص متماسك يمتلك طموحاته ومخيلته على رغم كونه نص سفر قائماً على الخفة والطيران والعبور والنسيان. والأرجح ان سبب هذا التماسك عائد الى رغبة امجد ناصر في تقريب الأشياء من بعضها بعضاً وفي مقارنتها وفي تقليبها على اكثر من وجه، اضافة الى إخضاعه كل ما يراه الى حدس شخصي ومحاكمة ذاتية، جاعلاً الخيوط كلها تبدأ منه وتنتهي إليه، على رغم تشعّبها واتجاهاتها المتعددة، كما انه لا ينسى ان يعزز نصوصه بحضور الآخرين، إنه يعرف كيف يدخلهم في نصوصه كأبطال موقتين لرحلة قصيرة وحياة موقتة، وهذا ما يفعله مع زملائه من الشعراء المشاركين او الكتّاب والفنانين من اهل البلد الذي يزوره ويكتب عنه. والكتاب، بهذا المعنى، محتشد بأسماء الكتّاب وأسماء الأمكنة، بعض الأسماء جديدة والأخرى لأصدقاء الشاعر القدامى وبعض الأمكنة جديدة وبعضها الآخر ما زال يحتفظ بدفء اقامة وعيش وحب قديم. هاجس نصوص هذا الكتاب، كما يقول امجد ناصر في المقدمة، هو الاحتفاء بالمكان وشخوصه لا مجرد المرور بهما مرور الكرام. إنها محاولة للتوقف في المكان والإنصات الى اصواته الكبيرة والصغيرة على السواء. وهذا، فعلاً، ما يلمسه القارئ حين يرى الجهد الذي يبذله امجد ناصر في الإصغاء الى روح الأمكنة، وفي الاندساس في مشارب سكانها وأهوائهم ونظرتهم الى الحياة. وهذا ما يجعل نصوص الرحلات في الكتاب ضد فكرة السفر نفسها احياناً. ولا بد من ان امجد ناصر، بإصداره جزءاً ثانياً من رحلاته، يعزز حضور هذا النوع من الكتابة التي قد تغري آخرين سواه بنشر النصوص التي كتبوها عن امكنة ومدن وبلاد استضافتهم اياماً وتركت اثراً في مخيلاتهم، وقد يملأ ذلك فراغاً ونقصاً موجوداً في المكتبة العربية الراهنة.