"الحرية للعراق" هو الاسم الذي اختارته ادارة بوش الابن لحربها العدوانية على بلد الرافدين. وهو اختيار يعبر بشكل مكشوف عن الايديولوجيا التي تتحكم بهذه الادارة. اختيار هذا الاسم في حد ذاته اعتداء سافر على الحرية. فالحرب الأميركية انتهاك للقانون الدولي، خط الدفاع الأول عن الحرية. إدارة بوش الابن ليست معنية بهذا القانون، ولا بالأممالمتحدة. والحرب اعتداء فاضح لأنها تجاوز متعمد للديبلوماسية، يعبر عن اختيار مسبق للعنف في مقابل السلام. ومن ثم فإن الفشل السياسي الذي تؤشر اليه الحرب يعبر بدوره عن العقيدة السياسية للإدارة الأميركية. فالحرب بالنسبة إلى قيادات هذه الإدارة ليست ممارسة أخرى، وملجأ أخير للسياسة. على العكس انها السياسة بذاتها. والحرب عدوانية لأنها تحد للعالم الذي أجمع بشكل غير مسبوق على معارضته ومناهضته لها. بإصرارها على الحرب في وجه القانون، وفي وجه العالم والأممالمتحدة لا تختلف إدارة بوش كثيراً عن النظام العراقي. فإذا كان هذا النظام يستند في أساسه إلى ايديولوجيا القوة والعنف، وإلى الانتهاك المستمر للحقوق والحريات، فإن الإدارة الأميركية بتحديها للعالم وللأمم المتحدة أثبتت أن سياساتها ومنطلقاتها الايديولوجية لا تتسع لقيود القانون الدولي، ولا ترعى حرمة لهذا القانون. الشعب العراقي هو الضحية الأولى لكل ذلك. فهو يجد نفسه مرة أخرى وسط محرقة حروب لا تنتهي. وهي محرقة تستعر الآن بين قيادتين يتملكهما غرور مفعم بالجهل. احداهما في بغداد والأخرى في واشنطن. وهذه مفارقة تاريخية. فبغداد كانت حاضرة الخلافة، وكعبة الحضارة العربية الاسلامية، ومركز النظام الدولي حتى أواخر القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. وواشنطن هي أحد أبرز حواضر الديموقراطية الغربية، ومكان أقدم دستور مكتوب، وكعبة الحضارة الرأسمالية، ومركز النظام الدولي الآن. هذه المفارقة تكشف عن مسيرة تاريخية طويلة. لا يعنينا فيها أن واشنطن وبكل مواصفاتها، وبغداد بكل تاريخها الحضاري، كلتاهما قادرتان بطريقتهما على انتاج قيادات معادية لكل ما ترمز إليه هاتان العاصمتان التاريخيتان. ليس لأن ذلك لا يستحق اهتمامنا. بل لأنه ببساطة حديث يطول عن المساحة، وعن مناط الاهتمام في مثل هذه اللحظات. ما يعنينا في هذه المسيرة هو كيف انتهت على الجانب العربي بهذه الطريقة. على الجانب الأميركي قد تكون الحرب فرصة للدفع بمسيرة التفوق والسيطرة على النظام العالمي خطوة أبعد. لكن على الجانب العربي تبدو هذه الحرب نكوصاً لم يكن متوقعاً إلى حال كان الظن أن العرب قد تجاوزوها إلى غير رجعة. خاضت أغلب الدول العربية صراعاً مريراً مع الاستعمار قبل أن تنال استقلالها. ولم يكن من الممكن في السنوات التي تلت ذلك تصور أن يخرج رئيس دولة كبرى يوجه انذاراً لرئيس دولة عربية بالتنحي وإلا سيتم ازاحته بالقوة، ووضع بلاده تحت الاحتلال العسكري. لكن هذا ما حصل بالفعل. فبعد أكثر من نصف قرن من النضال في سبيل التحرر وبناء الدولة الوطنية. وبعد نصف قرن آخر في ترسيخ الاستقلال، وترسيخ الدولة يتكشف الأمر بأن المسيرة في حقيقتها متعثرة على كل مستوى. هل الحرب عودة إلى حالة الاستعمار؟ أم أنها بداية لمرحلة مختلفة؟ ما الذي حصل؟ وماذا يمكن أن يعني؟ بعد هزيمة النظام العراقي في حرب الخليج الثانية عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة بعد ذلك شاع في العالم العربي استنتاج تحليلي مفاده أن إسرائيل فقدت فائدتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة. فصراع الشرق والغرب انتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي، والعرب تحالفوا مع الولاياتالمتحدة لاخراج العراق من الكويت. انطلق التفكير السياسي العربي آنذاك من فرضية أن العلاقات بين أميركا واسرائيل ترتبط بشكل أساسي بدور هذه الأخيرة في الحرب الباردة. ومن ثم فإن انتهاء هذه الحرب يقلل، إن لم يكن يهمش أهمية الدور الاسرائيلي في السياسية الأميركية في المنطقة. بناء على ذلك فإن الانحياز الأميركي الذي كان يزداد مع الوقت سوف لن يجد ما يبرره بعد ذلك. بل إنه قد يأتي بنتائج عكسية على السياسة الأميركية. يدعم هذا الاستنتاج أن العرب، أو غالبيتهم على الأقل، لم يترددوا عام 1990-1991 في التحالف مع الولاياتالمتحدة لهزيمة طرف عربي آخر، طالما أن هذا الطرف هدد استقرار المنطقة ومصالح العرب، وليس فقط المصالح الأميركية. أي أن المصالح العربية لا تتناقض دائماً مع المصالح الأميركية. وبالتالي لم يعد هناك ما يبرر ما تتمتع به إسرائيل من مكانة خاصة في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة على وجه التحديد. مسار الأحداث كشف عن خطل هذا التحليل. أغفل التحليل العربي المتفائل حقيقتين. الأولى طبيعة العلاقات الأميركية - الاسرائيلية. والثانية طبيعة الدور العربي في تحرير الكويت. فالعلاقات الأميركية - الاسرائيلية هي علاقات مصالح استراتيجية، تتجاوز أهميتها بداية أو نهاية الحرب الباردة. وجود اسرائيل في حد ذاته هو مصلحة غربية، ومصلحة أميركية بشكل خاص. فعدا عن أن هذا الوجود يمثل الحل الوحيد للمسألة اليهودية كما تراه الدول الغربية من حيث أنه يخرج هذه المسألة من التاريخ الغربي ويعيدها الى موطنها الأول في الشرق، إلا أن هذا الوجود يوفر شراكة حيوية في بيئة سياسية غير مؤاتية. الوجود الاسرائيلي يمثل بالنسبة إلى الغرب أحد صمامات الاستقرار في المنطقة. والمقصود هنا هو استقرار الترتيبات والأوضاع الاقليمية بما هي عليه. من ناحية أخرى، وعلى الطرف الاسرائيلي جاءت الشراكة ضمن استراتيجية سياسية تسمح بالتماهي على مستوى معين مع الاستراتيجية الغربية - الأميركية. وعلى مستوى آخر تسمح بالاحتفاظ باستقلال القرار وفقاً لمصلحة الدولة الاسرائيلية. وفي كلتا الحالين تمكنت اسرائيل، لعوامل عدة، من أن تجعل من نفسها شريكاً قوياً. وهذا ما يعطي الانطباع بأن السياسات الأميركية وكأنها لخدمة إسرائيل فقط. وهذا غير صحيح. على العكس من ذلك جاءت المشاركة العربية في تحرير الكويت. لم تعكس هذه المشاركة التقاء في المصالح مع الولاياتالمتحدة على المستوى الاستراتيجي البعيد، بل التقاء فرضته ظروف المواجهة. الأسوأ أن الدور العربي في تحرير الكويت عكس مدى الضعف العربي. فالدول العربية الرئيسية كانت ترفض الاحتلال العراقي للكويت. لكنها في الوقت نفسه غير قادرة على مواجهته من دون تدخل خارجي. وقبل ذلك كانت عاجزة عن مواجهة النظام العراقي وتجاوزاته حتى قبل اندفاعه في مغامرة الغزو. والسبب يعود الى أن النظام العراقي ليس حالاً استثنائية. بل حال متطرفة وغير مسبوقة في التجربة السياسية العربية. ثم ان التحالف مع الولاياتالمتحدة لم يكن ضمن استراتيجية سياسية عربية واضحة، لما بعد الحرب الباردة، وانفجار العولمة. وهذا يوحي بشيئين. الأول أن الدول العربية ضعيفة. والثاني أن موقف هذه الدول من تحرير الكويت انطلق من مصالح سياسية ضيقة وموقتة. والثالث أن التناقضات التي حكمت العلاقات العربية العربية لم تزل كما كانت عليه قبل الغزو العراقي. تحرير الكويت لم يؤدي الى حل أزمة النظام الاقليمي العربي. بل ربما فاقم من هذه الأزمة. فعلى رغم هزيمة النظام العراقي في حرب الخليج الثانية، وافتقاده للشرعية عربياً ودولياً، بقي قادراً على الاحتماء بشعارات وآليات النظام العربي. ساعد في ذلك أن الاستجابة العربية لما بعد الحرب اتسمت، مثلها في ذلك مثل النظام العراقي، بالجمود وعدم الحركة. وبقيت الأوضاع العربية، الاقتصادية والسياسية، كما هي، بل ازدادت سوءاً بعد الحرب. في هذا الإطار جاءت الحرب الأميركية على العراق. هذه الحرب تؤشر بأشياء كثيرة بنهايات عدة: نهاية البعث، ونهاية النظام الاقليمي العربي، ونهاية المصداقية العربية. لكن هل تشكل تحدياً للثقافة السياسية العربية التي تحكمت بالمشهد السياسي العربي لأكثر من نصف قرن؟ بعبارة أخرى، الحرب الحالية على العراق تدشن بداية النهاية للعالم العربي كما عرفناه وعرفه العالم حتى هذه اللحظة. أصبح كل شيء تقريباً موضوعاً على الطاولة، وعلى المكشوف: العجز العربي، الادعاءات العربية، التستر العربي، التشرذم العربي، غياب الخيارات العربية. حتى الترتيبات في المنطقة لم تعد خياراً عربياً بالدرجة الأولى. بل خيارات دول كبرى يسمح للعرب بالاستفادة منها بمعايير ومقاييس ليست من صنعهم أو اختيارهم. يبدو أن المنطقة توضع بشكل قسري على عتبة مرحلة تاريخية مختلفة عن كل ما سبقها. لاحظ أن العرب لا يدخلون هذه المرحلة باختيارهم. بل يدفعون اليها دفعاً بقوى لا قبل لهم بمقاومتها. الأسوأ أن أحداً لا يعرف قسمات هذه المرحلة، إلا ما يردده الأميركيون عن "الديموقراطية". الكل يعرف مظاهر العلة. لكن أحداً لا يعرف السبب على وجه التحديد. ولا أحد يعرف ان كانت المصلحة تقتضي الدخول، أو الممانعة في ذلك. وإن كانت المصلحة تقتضي الدخول فلا أحد يعرف كيف، ولا ما هو الثمن. وإن كانت تقتضي الممانعة لا يبدو أن أحداً يعرف السبل المتاحة للخروج منها. هل العرب مستعدون للدخول؟ وإلى ماذا؟ هل لديهم خيارات أخرى؟ واذا رفضوا هل يملكون الإمكانية والإرادة لفرض خياراتهم البديلة؟ واذا دافعوا، فعن ماذا، وكيف يدافعون؟ لا يكفي القول بضرورة الدفاع عن الأرض، العروبة، والاسلام. هذا حق، والدفاع عنه واجب. لكن الدفاع هنا ومن دون اطار سياسي وثقافي، ومن دون خطاب مختلف عما كان في السابق لن يؤدي في الأغلب إلا إلى النتيجة ذاتها التي أفضت إليها عقود وقرون من المدافعة والصراع. بل ان الإطار الذي تم في داخله الصراع على الجانب العربي حتى الآن هو الذي سمح ببروز قيادات وأنظمة فشلت في كل شيء إلا في جعل قرار التغيير قراراً عربياً يتميز بالمصداقية، ويتمتع بالاجماع في الداخل، وبالاحترام في الخارج. وقف العرب طويلاً يتفرجون على النظام العراقي وهو يدمر العراق، ويجر معه المنطقة الى حدود الدمار. وها هم يتفرجون على الإدارة الأميركية تواجه هذا النظام. في كلتا الحالين تبدو الدول العربية عاجزة، بل وغير مسؤولة. وإذا كان هذا مقبولاً أو ممكناً عربياً، فإنه غير مقبول في ظروف تداخل المصالح اقليمياً ودولياً. بل انه مناط استغلال ينبغي عدم التفريط به من جانب الآخرين. أمام العجز العربي، وتراجع الأممالمتحدة، أصبح متاحاً أمام الهيمنة الأميركية أن تعيد صياغة الدولة العراقية وفقاً لرؤيتها ومصلحتها. بل انها في ذلك تطمح إلى أن تعيد صياغة المنطقة وفقاً لمصالحها، كما قال يوماً وزير خارجيتها كولن باول. هل تنجح في ذلك؟ وهل يجوز للدول العربية أن تتفرج على ما يحدث في العراق؟ * كاتب سعودي.